إبراهيم بن على الوزيرالكل

محطات الثبات في حياة المجاهد اليمنى إبراهيم بن علي الوزير

(نص كلمة الأستاذ زيد الوزير في الأمسية الخاصة التي اقامها “مركز الحوار العربي” في واشنطن، يوم 13-8-2014 حول: محطات في فكر وتجربة المفكر الإسلامي اليمني إبراهيم بن علي الوزير)

 

أسعد الله مساكم وعظم اجركم

 

هل تغمر العاطفة الشجية حديثا عن أخ حبيب فتبعده عن الموضوعية.؟

ذلك ما يتبادر إلى الذهن، ولكن لو كان ثمة أخ يستحق الإعجاب والثناء ، فهل يحرم من الحديث عنه خوفا من عاطفة قربى؟ أم أن أهل البيت أدرى بالذي فيه؟، معادلة متوازية على أقل تقدير، ومهما يكن من شيء فلن اروي إلا حقا، مقتديا بجدي “الهادي بن ابراهيم” عندما كتب تأريخ أسرته فقال: (إنه لا أسمج من ثناء الابن على أبيه، .. ولا أذكر إلا حقا). وأنا والله لا اذكر إلا ما رأيت، ولا أروي إلا ما شاهدت ولا أقول إلا ما شاركت. ومن الظلم أن أمسك عن ذكر محاسنه التي أعرفها خشية اتهام بعاطفة القربى.

 

وسوف اتحدث عن بعض محطاته السياسية وعن بعض التأثيرات التي صاغت شخصيته تاركا المحطات الفكرية لمن هو الصق به واعرف به مني وهو أخوه “القاسم” الذي شاركه حياته كلها من طفولته الباكرة حتى واراه في تراب “البقيع” الطاهر. ولا أكاد اعرف في تاريخ أسرتي كلها بما فيها من نماذج أخوية طيبة من جسّد الإخاء مثلهما تماثلا عقليا، وسيرة مشتركة في السراء والضراء، فلم يفترقا إلا عندما تجبرهما الضرورة كوضعهما في سجنين متباعدين، أو كفرار من ظلم، فإذا التقيا التصقا ويصدق فيهما قول الشاعر الصوفي: ( نحن روحان سكنا بدنا) فهو بالحديث عن فكر الراحل الكبير جدير.

في “دار النصر” بـ “جبل صبر” الشامخ بـ “لواء تعز العز” ولد “ابراهيم بن علي الوزير” سنة 1351هـ/1931م في ظل حياة وارفة الظلال؛ من أسرة علمية طالما امدت اليمن بالنوابغ؛ في ظل والده الذي وحد “اليمن الأسفل” مع “اليمن الأعلى” بعد ان كاد أن ينفصل، فهل كانت “دار النصر” و “الصبر” و “الجبل” و ” تعز العز” إشارات رمزية لمل سيكون علية من صبر على الغلواء، وصمود كالجبل، على الضراء، واعتزاز بالمبدأ وانتصار على الهزيمة، ومن المؤكد أن “الوحدة” ارثا تلقاه، وتمسك به.

اول ما أبدأ به هذه السيرة أن أقرر بدون أي عاطفة أن “ابراهيم” خلق قياديا، وأن هذه القيادية ظهرت عليه في سنواته المبكرة، ففي الوقت الذي كان ينصرف فيه أترابه إلى اللعب- وانا منهم- كان ينصرف لمجالسة أبيه وعلماء وقته يأخذ منهما ما يروي ظماء شاب متعطش للمعرفة، وإذا ما مال إلى اللعب فأنه يختار من اللعب دور القائد الذي يقيم العدل، ويهزم الظلم، وكان يساعده في مهمته من أخوته “القاسم” دائما ويعوانه في ملاعبه السياسية.

 

وراء تكون هذا الاتجاه خلفية ثقافية ذات روافد مختلفة صاغت هذه الشخصية القيادية، وصبت كلها في مسار ثوري واحد، وأمدته بفيض من الحيوية والحماسة، والمغامرة.

واخرجت منه زعيم أمة ثائر. لا رئيس دولة مهادن. هذا هو مفتاح شخصيته

تأثر بثقافة الفكر الإسلامي الثوري، وقدمت له مكتبة الوالد العامرة بالمخطوطات الرائعة والكتب الحديثة، ما يوجه خطاه للعمل من أجل الحق والعدل، فاستقى منها ما يكفيه لتتضح له الطريق التي يجب أن يسلكها.

وكانت ثورات “أهل البيت” والمصلحين هي الأساس التي أقام عليها خارطة طريقه، وبالرغم من المصارع المتوالية، والدماء المراقة، والتضحيات المستمرة الا انه لم يحتسبها هزائم، وما دام والثورات متوالية فلا مجال لهزيمة. لقد كانت فكرة “الخروج على الظلمة” هي زاد التقوى في سبيل تحقيق العدالة والمساواة، وكان تأثرة بحده الإمام “محمد بن عبد الله الوزير” الذي الغى كافة الإقطاعات ومظالم” المتغلبين” وأسقط بسببها من الحكم ولم يستشعر هزيمة وبقي يواصل رسالته من خلال قلم لم يجف.

إلى جانب ذلك تأثر بالتيار الإصلاحي على يد موقظ الشرق “جمال الدين الإفغاني” وتلميذه “محمد عبده”، فطالع مؤلفات زعماء الإصلاح من كثل الإمام “محمد عبده” و “عبد الرحمن الكواكبي” و “محمد فريد وجدي” و “رشيد رضا” و “طنطاوي جوهري” وغيرهم. وتأثر بوجه خاص بكتاب مصارع الاستبداد. كما اطل على العالم من خلال الراديو شبه الوحيد في اليمن، فكان يصغي إلى أخبار العالم، وعندما كان والده ينشغل بأعماله كان يكلف “إبراهيم” بالاستماع إلى نشرات الأخبار والتعليقات السياسية لينقلها إليه فيما بعد، فإذا به من خلالها يطل على عالم جديد، يتأثر به وينفعل معه، حتى أنه كان يمارس ما يسمع علينا نحن إخوته فنتأثر بها ونحاكيها فقد قمنا ذات يوم بمظاهرة ضد أمنا من اجل ما تقدمه لنا من اكل متواضع رغم الغنى الواسع فذهبنا نطالب أبي بتغيير الزاد فقالت له: “هم اليوم يتفيؤون ظلالك، ولكن ماذا عن غد، دعهم يتعودوا على شظف العيش وهم في ظلالك، فالحياة لا تضمن لهم استمرار نمط واحد”، فاقتنع الوالد وصمت. وفشلت “المظاهرة”.

وكان درسا حكيما استفدنا منه في هذه الفترة التي نتحدث عنها، في ساعات العسرة وشظف العيش.

والى جانب ذلك أطل على العالم العربي من خلال بعض الجرائد والمجلات “المصرية” و “الفلسطينية” التي تصل إلى الوالد على دفعات، فعرف من خلالها حياة سياسية أخرى ونشاطا سياسيا جديدا: دستور، وبرلمان، ووزارات مختلفة، واستقالات، واستدعاء الحكومة للحضور أمام مجلس النواب لمحاسبتها، وهو ما ليس له به عهد، فيرى فيها ألوانا من الثقافة السياسية جديدة. وفي الوقت نفسه أكبر جهاد المفتي الأكبر الحاج “أمين الحسيني” نور الله ضريحه، وهو يقاوم -بعناد وصبر- جبروت البريطانيين ومكائد الصهيونيين، ويتشرد ويُطارد. وكان ذلك اول لقاء لإبراهيم بهذه القضية المقدسة التي تمسك بها طيلة حياته.

وإلى ذلك تأثر بأبيه إلى حد بعيد وكان والده يؤاثره بحب خاص، ويكاد لا يفارقه فكان على علم بآراء ابيه الإصلاحية وجهده الدؤوب في محاولات اقناع الإمام “يحيى” بإصلاح نظام الإمامة الزيدي القائم على الانتخاب والشورى والخروج على الظالم الخ وكان على علم بمذكرات والده الإصلاحية إلى الإمام “يحيى” قبل أن يرتفع اي صوت احتجاج واحد ضد سياسة الانغلاق والتخلف، وعرف كيف قاوم والده ولاية العهد وخسر مركزه الرفيع من اجل مبدأه ولم يبال بخسران منصبه.

بل كان على علم بأن والده رفض ملك الجنوب اليمني الذي اقترحه أحد الملوك على بريطانيا التي وافقت ولكن الأمير الكبير رفض العرض ورفض أن يتولى تخت النفوذ البريطاني وكان يردد (ومن يتوله منكم فهو منهم)

وإلى جانب الثقافة الإسلامية القديمة والحديثة تأثر بالقصص عن “الثورة الفرنسية” بوجه الخصوص، وعن ما كتب عنها وهي تتحدث عن ثورتها الكبرى، ودعوتها إلى الحرية والمساواة والعدل، فكان يتفاعل مع الثوار وهم يدكون أسوار “الباستيل” الرهيب، ويعجب بشجاعتهم وهم معلقون على أعواد المشانق، وكان لقصص “إسكندر دوماس الكبير” وغيره أثر واضح.

تلك هي روافد “إبراهيم” الفكرية والسياسية، وهي روافد تسمح له بالإطلالة على العصر وتشده إلى ثقافة الماضي الثوري المستنير، وهي التي عملت في تكوين عقليته، وثقافته التاريخية، وفكره الديني الإصلاحي. تأثر بثقافتين مختلفتين لكنهما صبا في مسار ثوري من النوع المستشهد، وكلاهما أمدتاه بفيض من الحيوية والحماسة، والمغامرة.

بهذا الزاد والعدة والعتاد قام ابراهيم برحلته النضالية الشاقة من أجل هدف مكون من ثلاث جمل هي: الشورى في الأمر لكي لا يستبد فرد او أن يطغى، والعدل في المال لكي لا يكون دولة بين الأغنياء، والخير في الأرض تحسنا مستمرا وتجديدا دائما. وفي ظل هذه المبادئ مضى مجاهدا لا يخاف في الله لومة لائم.

كانت الثورة الدستورية بقيادة النخبة من علماء اليمن قد سقطت ولم تعمر سوى 27 يوما، ويعود سبب سقوطها إلى انها ثورة نخبة لم يؤازرها الشعب الذي كان وقتها ومنذ خروج الأتراك عام 1337ه،1918م يعيش في مناخ مغلق لا منافذ له. لا صحافة، لا راديو لا تلغراف لا مستشفيات لا طرق معبدة، لا مدارس حديثة، لاكهربا. لا شيء يوحي بنبض الحياة الحية, إزاء هذه الحالة البائسة هب “الخروج” الزيدي الثائر على الظلم فصاع الثورة الدستورية صياغة مدنية لأول مرة منذ نهاية الخلافة الراشدة.

 

وإزاء هذه اليقظة المستنيرة رفضها الداخل، وتأمر عليها الخارج، وأوشكت اليمن أن تعود إلى غفوتها المخدرة لولا أن المقاومة نهضت في نفس الفترة التي سقطت فيها الثورة الدستورية عام 1367/1948،واستمرت تقاوم.

كان عمر “ابراهيم يطل على السابعة عشرة، عندما سقطت هذه “الثورة الدستورية” ووجد نفسه وحيدا في الداخل يتحمل رعاية اسرته المنكوبة، ومسؤولية المقاومة، وقد خلت الساحة من كل ثائر أوَّاب، وبقي “ابراهيم” يحمل الراية، ويقاوم هجمة الظلم الكاسح.

لن نعرف عظمة هذا الموقف إلا إذا عرفنا مناخ تلك الفترة وهو مناخ يرعف بالخوف والرهبة، فالثورة –كما اشرت- كانت ثورة النخبة في أماكنها العاجية، أما قبائل الشمال فقد وقفت ضدها، وكان انتصار الإمام “أحمد” على الثورة الدستورية انتصارا شعبيا كاسحا، وأصبحت المفاهيم التي طرحتها الثورة -وهي مفاهيم جديدة نزلت على مناخ مغلق- قد تحولت إلى سكاكين بيد الحكم يمزق مبادئها تمزيقا: أصبحت الشورى تعني المشاركة في الأعراض والأموال و اصبح الدستور هو الغاء الشريعة، واصبح الثوار بغاة و خدمة النصارى. وكان الناس يشمتون بها شماتة مرة، يرددها “النشادون” شتما قبيحا في الأسواق، وفي الشوارع ، و تزومل بها القبائل:

قبّح الله وجهك يالوزير عاد بعد الحرايب عافية

واضيفت كلمة دستوري إلى قائمة الشتائم اليومية. بحيث كان يُقاضى عليها من يطلقها في المحاكم الشرعية كجنحة قضائية ، وأضحت ترديد الآية الكريمة : {وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون} هي التحية المرة التي يلقونها على ابناء الدستوريين وانصارهم عندما يلقونهم.

 

ولم يكن الحال في داخل البيت أفضل من خارجه، فالعوز والفقر كان يجتاح هذا الأسرة المكونة من 36 شخصا- الساكنة في بيت بني عمهم، حيث لم يعد لهم دار، ولا منزل، ولا حتى كوخ، بل ولا ثياب، فقد صادر الإمام بيوتهم وأموالهم وكل ما يملكون، ولم يُبق لهم بالفعل سوى ما كان عليهم من ثياب، ومن القوتٍ سوى الخبز اليابس، وعندما يريدون أن يغسلوا ثيابهم كانوا يعمدون إلى “البطانيات” فيلتحفون بها ريثما تجف ثيابهم.

في هذا المناخ المحبط والمعادي لنا أن نقدر كيف نبتت المقاومة من بين الشوك، وحيث كانت تبدو أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، إذ نبتت في وقت انهارت فيه عزائم الرجال وضعفت فيه شجاعة الشجعان؟. ولكن “ابراهيم” لم يستسلم للواقع المرير، وبدأ يلم حوله رفاقا لبوا نداءه.

وبطبيعة الحال فلن يتوفر مثل هذا العزم إلاَّ عند من يملك عقيدة تزوده بقوة الصمود أولا، ثم التحرك من اجلها؛ فالعقيدة دائما تتغلب على المصاعب بما تخلق من إرادة شعور بالتفوق الإيماني على الخصم. وهذا الشعور بالتفوق يخلق بدوره آمالا واسعة تحوِّل الومضات الصغيرة إلى شلاَّلات من الأضواء؛ فتساعد على السير بصلابة في وجه الزمن العاتي، وتساعد على المضي بدون توقف، وتزوده بطاقة إشعاع تضيء كل أمل ينطفئ، وكل رجاء يخيب: كلما انطفأ أمل، وخاب رجاء يتحرك المذخور الإيماني بكمه الهائل؛ فيشعل ضوءا جديدا، ويخلق رجاءً مبتكرا، تقتات منه النفس، وتتزود منه بما يكفيها للاستمرار في المسعى المحمود، وسط تساقط الشهداء في حجة واخماد جيوب الحركات التي ظلت تقاوم.

إذن من هذا المنزل المعمور بالصمود، ومن بين الدموع على الشهداء الذين يتساقطون تباعا وبين الأخبار الخيالية المنعشة التي سرعان ما يلتهمها الواقع، فتقذف بموجة أخرى يتألق فيها أمل جديد ما يلبث أن ينطفئ مرة أخرى – وُلدت أول مقاومة لحكم الإمام “أحمد”، عقب سقوط الثورة الدستورية.

 

إن وجود مقاومة كهذه نمت في مثل تلك الظروف المحبطة لهي في حد ذاتها انتصار على اليأس والاحباط. والجدير بالذكر أن الشعور بالاعتزاز بالثورة الدستورية كان يملأ أفئدة الصغار والكبار، ولم يحس واحد منهم قط بمذلة او انكسار، وانما كان اعتزاز يهبط من “كربلاء” يشحذ العزائم.

في الوقت الذي انطفأ فيه وهج “الثورة الدستورية”، وقبل أن يباشر الإمام «أحمد» مجازره كانت “المقاومة” الصغيرة -من داخل ذلك البيت- قد بدأت‘ ودفعت إلى مواصلة الجهاد. وكان التحدي، وكان الصمود، وكانت الرحلة الشاقة الطويلة التي لم يكل فيها جناح، قط. وتحت شعار “استعادة الثورة الدستورية”، افتتحت المقاومة الصغيرة أعمالها الجادة وبعد ان بدأت في تنظيمها بعث إبراهيم برسول سري إلى “حجة، ممن سلم قلبه وفكره للاتصال بزعماء “الثورة الدستورية” لينقل إليهم ما يقوم به، ويبشرهم باستمرار العمل، ويطلب منهم التوجيهات.

تعززت المقاومة بوصول والدته المناضلة “فاطمة بنت أبوراس” بعد غياب وحرقة انتظار، وهذه السيدة هي من اللواتي يعرفن كيف يصنعن الرجال، ويقاومن الأحداث، ويضحين بالغالي والرخيص في سبيل ما تؤمن به، وكانت السلطة تخشاها لما عرفت به من مواقف ضد الحكم القائم فأمر السيف “العباس بن الإمام” -المسؤول عن هذه المنطقة- بحراسة مشددة حول المنزل وداخله خوفا من تأخذ اولادها وتفر إلى “برط” –معقل قبائل بكيل- وتقوم بالثورة من هناك، كما امر بتحديد إقامتها واولادها الجبرية في “هجرة السر” أطفالا ونساء ورجالا، ومنع مغادرتها إلاَّ بأذن من «العامل» تحت طائلة العقاب.

كان وصول الوالدة ومعها أخوها النقيب «أمين» كبير بكيل فرصة للمراجعة على العمل في برط لإعداد قوة من «قبائل برط» للهجوم على «حجة» لإنقاذ المعتقلين من سجونها واستئناف الثورة. وعلى هذا الأساس تسلل النقيب ليلا إلى “جبل برط”.

 

لم يرضخ ابراهيم للإقامة الجبرية، فكان يتسلل سرا إلى «صنعاء» وكان من نتيجة ذلك أن التقى بالأخ «محمد الواسعي” ومع من نجا من السجن من طلبة «الكلية الحربية» وكانوا قد بدأوا يكونون أنغسهم، كما التقى ببعض ضباط الجيش الكبار مثل «احمد الجرموزي» وبعض الأخوة الدستوريين، فدعاهم إلى التحرك فاستجابوا، وزار بعض العلماء وجادلهم وحاورهم وحملهم المسئولية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم السكوت على المظالم، والخروج على الظلمة، فلم يستجب له ولكنهم دعوا له بالتوفيق.

استمرت المقاومة في قريته تؤدي عملها بدءاً من داخل الخط الثوري الزيدي بمقاطعة صلاة الجمعة وبعدم الصلاة خلف ولاة الظلمة إشعارا بمنابذتها، والدعوة إلى منع اعطاء الزكاة للدولة الظالمة باعتبارها عونا لجائر. ثم ازدادوا نشاطا، وقرروا النزول إلى الشارع عن طريق توزيع المنشورات السرية ضد الحكم، وقطع أعمدة التلغراف بين «الحديدة» و«صنعاء» بل فكروا بالقيام بمحاولة القضاء على السيف «الحسن » نائب الإمام عند خروجه من صلاة الجمعة، لكنها لم تنفذ. ولكن مجرد التفكير في ذلك يدل على تصميم حاسم.

وعندما أصدر المرحوم «عبد الله بن علي الحكيمي» من «كرديف» جريدة «السلام» 5 صفر 1368/ 6 ديسمبر 1948 وبعده أصدر المرحوم «عبد الله عبد الوهاب نعمان» في «عدن» جريدة «الفضول» في عدن معلنين استئناف النضال الإعلامي من الخارج كانت تلك المقاومة هي التي تستقبل الجريدتين والمنشورات والنشرات، ولما اشتد ساعدها نظمت نفسها في حركة سمتها «عصبة الحق والعدالة». فكانت أول تنظيم سياسي يعد الثورة الدستورية. بل أول حزب فيها

وبالرغم من أن الأخبار كانت تأتي بما يدك العزائم من استشهاد الدستوريين تباعا بما فيه استشهاد والده واعمامه واخواله ورفاقهم، فإن مقاومته لم يؤثر فيهم قتل الأب ولا الخال ولا العم ولا بقية الرفاق. بل كان دمهم المراق وقودا هائلا لاستمرار النضال، واذا ظل شهداء الدستور يتساقطون فقد بقي الأمل وقتها معقودا على أخيه «عبد الله بن علي الوزير» المختبئ في قرية من قرى “الهند” وكان الناس بالفعل يتوقعون عودته لينتصر، وما كان الناس يعرفون ما كان عليه في الشتات من خذلان اقرب الناس اليه. وعلى اساس هذا الأمل بعث إلية برسالة يخبره بما هم عليه، ويبشره بما يقوم به كما والى رسائله إلى إخوان “عدن” والى الزعيم “الحكيمي” والى “برط”، وكان رسوله هو “اسماعيل بن أحمد عثمان الوزير” من كبار المقاومة.

هنا أحب أن اشير إلى حادثة وقعت في هذه الأثناء تدل على تفاني المقاومة في اخلاصها لبعضها البعض فقد أدت تحركات «إسماعيل بن أحمد» وتنقله بين “السر” و “برط” و “عدن” إلى اشتباه السلطة به فقررت اعتقاله، فأخفيناه في البيت فجاءت ثلة من الجنود إلى بيتنا، فأدخل إلى غرفة النساء محجبا، وقاده أحد الأخوة إلى زاوية في المكان حيث ظل يتلوا آيات الله، وكان ذلك موقفا ضاحكا في ذلك الجو المتوتر عندما أصبح بينهن هو «المحجَّب» الوحيد، ولماَّ انتهوا من التفتيش طلبوا إخراج النساء من الغرفة لتفتيشها فخرج معهن محدبا، لكنه نسي وراءه خنجره وعمامته، فرآهما الشاوش فأدرك أنه موجود في مكان ما من البيت.

وسأل «ابرأهيم»: أين السيد «إسماعيل»؟ فأجابه لقد جاء وودعني وهرب. ففاجأه قائلا: «ولكن سبيكه وعمامته هنا» ففتح الله على «إبراهيم» فقال :«أو تريده أن يهرب بكل قيافته.

لابد أن يغير ملابسه» ولم يقتنع الشاوش فسُجن ابراهيم حتى يدل على صديقه، وفضل ابراهيم السجن لينقذ صديقه، وطلب من اخي قاسم ومني أن نخفي حبسه، وان نستعجل تهريبه. وحثته الوالدة على الفرار وهي تعلم بحبس ولدها وطلبت منه الا ينتظر ابراهيم ولكنه لما علم بسجن “ابراهيم” سلم نفسه لينقذ صديقة. فاعجب لـ “ثلاثي الوفاء” هذا كيف تصرف: صديق وضع نفسه في السجن مختارا من اجل نجاة رفيقة، ورفيق يسلم نفسه حتى يطلق سراح رفيقه، وأم باسلة تفضل أن ينجو الصديق ويحبس ابنها.

 

واحب أن اشير هنا ايضا إلى صلابة المقاومة واستمراها في المقاومة وأنها لم تخضع للظروف الجائرة عندما وجدت أن بعض زعماء الثورة الدستورية في السجون بدأوا يتقربون من الإمام لينجو من سيفه القاتل شعرا ونثرا، بل نقدا لما قاموا به ضده ويطلبون الغفران من الإمام، إلا أن المقاومة لم تتأثر بهذا الموقف بل يقيت تسير في طريقها الصامد، كما لم يفت في عضدها وفاة “عبد الله” غريبا شهيدا، الأمل الموعود.

بل كانت تستفيد من بعض إسترخاءات القبضة الحاكمة فتزيد في نشاطها. من ذلك أن الإمام أمر بنقل اخينا «عباس» إلى سجن صنعاء للعلاج، فنشط هو و«إبراهيم» مع بقية شباب الثورة للعمل، وأدرك السيف «الحسن» وجود أعمال تسري من تحت الرماد ضاعفت من قلقه، وتمكن بواسطة الجواسيس من معرفة نشاط “محمد الواسعي” ربيس خلية صنعاء- فأمر باعتقاله وارساله إلى “حجة”.

ولكن المقاومة لم تتوقف بل استمرت وعرف “السف الحسن” أن ثمة غيره، ولاحت الشكوك حول ابراهيم، ولكن لم يكن لدى الحكومة أي دليل على ذاك، فتفتق ذهنه عن خطة لقنصها فوجدها عندما قرر الدكتور “قينروني” نقل أختي امة الخالق المريضة المدنفة إلى الحديدة للاستشفاء بالمناخ الحار من علة الاستسقاء، فعرض مقايضة رهيبة: “يطلق عباس” مقابل سجن “إبراهيم”، وهذا ما تم، لكن ما لبث أن أعاد “عباس” إلى السجن وبوصوله المعتقل انغلق باب السجن على: الناقل والمنقول، على السجين والرهينة.

استقبل “ابراهيم” في السجن بحفاوة بالغة وانشد الأخوان المرحومان «أحمد الشامي» و«أحمد المروني» قصيدتي ترحيب أعربا فيهما عن تقديرهما لرسول “عصبة الحق والعدالة”، تأييدهما التام لتلك الحركة، وأسبلا عليه برود الثناء.

 

ومن قلب السجن الرابض على قمة جبل استأنف ابراهيم نشاطه؛ فاجتمع بالإخوان المساجين، وطرح عليهم تكوين حزب جديد، وبعد مداولات تقرر إنشاء «حزب الإصلاح» واختير الشهيد «محمد بن حسين عبد القادر»- السجين بالمنصورة – رئيسا والأخ «إبراهيم» نائبا له. وكان أعضاؤه: القاضي «عبد الرحمن الارياني» والسيد “أحمد الشامي” والمرحوم القاضي «عبد الله الشماحي» والقاضي «محمد الأكوع» والأستاذ «أحمد المعلمي» والسيد «عبد الملك المطاع».

إلى جانب أعضاء “عصبة الحق والعدالة” ولكن الحزب خمد بعد إطلاق سراح الشهيد «محمد بن حسين» برهينتين من أولاده. ووصلت منه رسالة واحدة إلى حزبه ثم انقطع؛ فظَّن من في «قاهرة حجة» بأنه قد تخلى عن العمل، أو أنه بسبب خوف المراقبة فضل الصمت، ومهما كانت الأسباب فقد كان «حزب الإصلاح» أول التجارب في السجن، عندها رأى القاضي «عبد الرحمن الارياني» بأنه لابد من إمام دستوري من «أهل البيت» متفتح ومدرك للمظالم التي اقترفها بعض الأئمة.

ووجد في الأخ «إبراهيم» ضالته المنشودة، فاجتمع به، وحاول إقناعه بقبول بيعته إماما شرعيا، ولكن «إبراهيم» رفض قبول المسؤولية، ورشحه هو لعلمه ومكانته، ولأنه لم يكن يؤمن بفكرة البطنين إفتداء بالإمام الأعظم “زيد بن علي” عليه السلام في هذه القضية، ولكن القاضي اقنعه بأن الشعب اليمني لا يقبل وقتها سوى إمام من «أهل البيت» ومن ثم فإنه لابد من العمل تحت شعار «الإمامة الدستورية» استمرارا للنضال، فرفض «ابراهيم» بحجة أنه غير مؤهل لهذا المنصب من الناحية العلمية فرد القاضي: إنك أعلم من «عمر الخطاب» نفسه، وأنت المهيأ لهذا الدور، ومن ثم فقد لزمك التكليف شرعا، وإذا لم تقبل فقد حملتك المسؤولية، والتهرب من تحمل المسؤولية ذنب، وسوف نشكوك إلى رسول الله يوم القيامة.

 

ومضت أيام وهما في مثل هذا الحوار. وما زال القاضي «عبد الرحمن» به حتى قبل. وبيع ابراهيم اماما دستوريا من العلماء والأدباء داخل السجن.

وفي هذه الأثناء تفننت المصائب فاقتنص الموت من بين يدي أختي “أمة الخالق المريضة في عمر الزهور في “الحديدة وعندما أراد الأهالي أن يقيموا لها درس القرآن في الجامع منع “الحسن” الدريس بحجة أنها ابنة باغي.

وتوقفت «جريدة السلام» بـ “كارديف” بعد أن صدر منها (107) عدادا وكان لتوقفها أثر كبير؛ إذ توقف صوت قوي في المهجر البريطاني والأوربي.

أعقب هذه الغمة انفراج فقد ظلت «جريدة الفضول» تواصل رسالتها من عدن. وتمكن مقاومو الخارج بفضل جهود الزعيم “الحكيمي” من تأسس “الاتحاد اليمني” عام 1371/ 1952، وكان لقيام الثورة المصرية بقيادة اللواء نجيب ابتهاج ثوري غامر اشتركنا جميعا في انشاء القصائد ترحيبا بهذا الانقلاب.

على ضوء تلك المتغيرات قررت مجموعة سجن القاهرة ضرورة خروج «إبراهيم» من السجن إلى صنعاء، ومن هناك يدبر هو واخوه عباس الفرار إلى عدن للاجتماع بـ “الحكيمي” وبمن في القاهرة، من أجل إخراج تهريب مساجين القاهرة ، على أن يعودوا جميعا بعد ذلك إلى اليمن لإشعال الثورة.

فتمارض «إبراهيم» ووجد في دكتور يتعاطف مع حركة الدستور عونا، فكتب تقريرا يثبت خطورة المرض وضرورة انتقاله إلى «صنعاء» للمعالجة، فسُمح بنقله إلى «صنعاء» للمعالجة بشرط وضع رهينة عنه فوضع أخاه الصغير «محمد» وغادر إلى «صنعاء» عام 1372/1953م ليجد أخي «عباس» سجينا في «القلعة» فكانت فرصة للأخوين «عباس» و«إبراهيم» للتشاور في تطبيق ما تم عليه الاتفاق بـ«حجة»، ولكن مالبث أن أدخل “ابراهيم بصنعاء مع بقاء رهينته سجينا بحجة.

 

ورب ضارة نافعة ففي سجن القلعة: قام ابراهيم بتدريس الرهائن وتنظيمهم وإعدادهم وضمهم إلى المقاومة وفي الوقت نفسه الإعداد للفرار، وكان المرض قد اشتد بأخي «عباس» داخل السجن فخشي الأمام على سمعته بعد الاطلاع على تقرير الأطباء عن صحته المتدهورة أن يتوفى في السجن، فأمر بأن يطلق إلى منزل والدته وأن لا يغادره؛ فاغتنم بقاءه هناك لتدبير أمر الفرار، حتى تمكنوا منه مستفيدين من خروج ابراهيم إلى المستشفى للمعالجة واقامة عباس الجبرية وغادروا في جنح الليل وعندما ودعت امهم ابنها عباس واخاه الصعير سلمت لهم فردا محشوا وقالت لهم (قاتلوا، إنه احب إلي ان اسمع باستشهادكم من أن اراكم تجرجرون في شوارع صنعاء).

وبعد 12 يوما من التستر والسرى وصلوا إلى “بيحان” فـ “عدن” في ربيع الثاني 1373/ سبتمبر عام 1954م واستقبلهم الزعيم الكبير “عبد لله بن علي الحكيمي”- رئيس “الاتحاد اليمني” خير استقبال وأنزلهم في دار الاتحاد واقام لهم حفلة استقبال و تكريم في مبنى “الاتحاد اليمني” حضرها عدد كبير من أدباء ومفكري «عدن» وغيرهم وخطب الشيخ الجليل خطبة رحب فيها بهم فأطال الترحيب وكان خطابا يعد -كما كتب أخي قاسم فيما بعد- درسا في أخلاق النضال السياسي والعمل الثوري وارتفاعا بهما إلى مستوى المبادئ التي يستهدفها. كما تحدث الأخ الشهيد «علي أحمد الأحمدي» وأشار في خطابه ( لقد استقبلت هذه الدار سيف الحق «إبراهيم» في الماضي وها نحن اليوم نستقبل سيف الحق «إبراهيم» الأخر وإخوانه).

بعد حفلة التكريم بيوم أو يومين تلقوا إنذارا من المقيم البريطاني بمغادرة عدن في ظرف48 ساعة؛ وبعد جدل عنيف حول حقهم في البقاء ابرقوا إلى اللواء “محمد نجيب” يستأذنونه بوصولهم إلى القاهرة فأجاب عليهم: أهلا بكم في ارض الكنانة”.

وعلى سطح باخرة صغيرة عتيقة متجهة إلى «القاهرة» عبر «بورت سودان» وثلاثة اوراق “اليسيه باسيه” تعريفا بهم غادروا يوم السبت 4 جمادى الأولى 1373 ه/9 يناير1954م وبين الأمواج الهائجة والمستقبل المجهول والباخرة الصغيرة يتقاذفها الموج من كل مكان، ألف “ابراهيم” أول كتبه «بين يدي المأساة- حديث إلى النازحين اليمنيين» وفي هذا الكتاب تتضح بذور اتجاهاته الفكرية التي ستتبلور في كتب قادمة.

وعندما وصلوا بورت سودان سمعوا أن الباخرة ستتجه إلى جدة وبين الحكومتين اتفاق على تسليم المعارضين فخافوا على انفسهم، ولحسن حظهم سمح لهم بالتجول فيها قبل ان تساأنغ الباخرة سيرها فزاروا كبير الجالية “الحسني” وفاتحوه بحقيقة موقفهم فعمل على تأخيرهم حتى تغادر الباخرة وعندئذ يجدون حلا. وفي اليوم التالي ذهبوا إلى المخفر لإبلاغه بأن الباخرة غادرتهم، وكان معهم رئيس الجالية واعلنوا عن انفسهم أنهم أبناء رئيس وزراء الثورة الدستورية فرفع التلفون وخاطب رئيس الوزراء-وزير الداخلية الزعيم الكبير “اسماعيل الازهري”بوجودهم في بورت سودان هاربين فأمر باستقبالهم وإنزالهم ضيوفا على الحكومة، وامر بطائرة خاصة -تنقل الزبيري الذي وصل للتهنئة بالاستقلال- إلى «بورت سودان» لمقابلتهم والعودة اليه حيث اقام لهم حفلة استقبال رسمية. وبعد زبارة وادي مدني لمقابلة المجاهد الكبير “يحيى حسين الشرفي” توجهوا جميعا إلى القاهرة. واذاع راديو القاهرة خبر وصلوهم اليها يوم السبت 9 جمادى الآخرة 1373/13 فبراير 1954 .

كانت حفاوة رئيس الوزراء الأزهري بالإخوان سببا في إثارة قلق عند رئيس «الاتحاد اليمني» بعد ان تفرد بالزعامة، وخشي أن يزاحم فيها، وربما وهو سمع بيعة السجن فبدأت بالجفوة وتقصد التفليل من الاتهام بهم، بينما ارتفعت حرارة الحفاوة بأمير من الأسرة المالكة وارتأى الكثيرون أن ذلك تدبيرا مقصودا، واذ استأجر لهم شقة متواضعة استأجر للأمير شقة على النيل ذات فراش وثير. وعندما أقيمت حفلة تكريم للأمير “الملكي أدرج اسم الأخوان الثلاثة معه كأمراء، وألقيت الخطب واشيد بهؤلاء الأمراء فقام “عباس الوزير” رحمه الله فألقى كلمة مستنكرا تسميتهم بالأمراء قال فيها: خرجت من “صنعاء” واسمي “عباس” ووصلت الحدود واسمي “سعيد” . إننا كما يعلم الجميع مناضلون لا أمراء، ومجاهدون لا كبراء، ومن أبناء هذا الشعب وله، وإنني آمل أن تكونوا أمثلة تحتذى، لا أحذية تحتذى). وضجت القاعة بالتصفيق.

لن ادخل في تفاصيل الخلاف بين الاتحاد اليمني وبين ما سيسمى اتحاد القوى الشعبية ولكني اشير إلى أن الخلاف كان بين منهجين: منهج يؤمن بإصلاح الحكم وبنفس جهازه، وكان يمارس نضاله بقيادة فردية، ومنهج يؤمن بالتغيير الكامل وبقيادة جماعية، وينظر إلى قيادة الاتحاد اليمني انها قيادة عتيقة. واتحذ كل منهج له طريقا؛ اتخذ الاتحاد اليمني طريقه عبر ولي العهد البدر وابيه وتعاونوا مع المخابرات المصرية لمضايغة المنهح الأخر الذي يرفض هذا الحل، مستخدمين صلاتهم بفتحي الذيب المعروف، ولقي الأخوان منه ومن “الاتحاد اليمني” عنتا، وقطع عنهم ما كانت القيادة المصرية تعطي اللاجئين من مرتب شهري، وهددوا بالطرد من مصر، إن لم ينضمو إلى النهج الأول، فقاوموا وصبروا وثبتوا وقد بلغ الحال بـ “إبراهيم” أنه كان يفتش في القمامة ما يقتات به، ولم يخضع، ولم يستجب لمغريات الإمام. وقال عباس: “لن نبالي ولن تخضع وسنواصل”، قال ابراهيم: “إن الله الذي أوصلنا سالمين لن يتخلى عنا”. وقرروا الصمود والتحدي. واستمر يقاوم ولولا موقف الأستاذ المجاهد الكبير “الفضيل الورتلاني” وقروض المجاهد “الشرفي” وما ترسله الوالدة من مال يسير لكان ابراهيم مات جوعا ولم يساوم.

ما لبث أن انفض السامر الملكي وقوض خيامه، وبدأ الاتحاد اليمني يتفكك من الداخل، وإزاء تلك الانهيارات الداخلية في الاتحاد اليمني انضم مجموعة من الشباب المثقف “حسن بلكم” «اسكندر ثابت» و«محمد أنعم غالب» و«علي عاصم» و«يحي فايع» و”يحيى الكبسي” و”يحيى المطاع” وغيرهم إلى المعارضة الشابة كما انضم إليهم الدكتور الكبير «حسين الهمداني» الذي كان مستشارا للاتحاد اليمني وكان يقدم نفسه ساخرا: المستشار الذي لا يستشار، ولكنه اصبح مستشار حقيقيا لاتحاد القوى الشعبية.

 

بتفكك الاتحاد اليمني اعتمدت قيادته على القوة المشيخية، وعبر “الزبيري” عن ذلك بقوله في رسالته إلى الشيخ “سنان أبو لحوم” مشجعا له وللمشايخ يقول: (إن هذه القبائل الأبية التي صمدت وصبرت قد رفعت رؤوسنا بعد انخفاضها وانتكاسها، وإننا لنخجل أن تجدونا هكذا ممزقين عاجزين عن القيام بالواجب. ولكن قد يكون في هذا ربح كبير أنكم أنتم قد تستطيعون أن تقودونا وترفعوا لواء النصر في سواعدكم الصلبة القوية ونحن على استعداد لأن نسير وراءكم مجندين) كما كان كتابه “واق الواق” أغنية منتشية بفضائل مشايخ القبيلة. وإزاء هذه التفكك أدركت القيادة المصرية ضعف الاتحاد اليمني فمالت بتوجيه من “السادات” الذي كلن مستلمت ملف اليمن إلى الانقلاب العسكري، ووضع عميله “البيضاني” على رأسه.

وفي هذه الأثناء كتب ابراهيم الشوريون التعاونيون كإطار لحزب جديد يحمل نفس الاسم. وكان «الشوريون التعاونيون» نقلة هامة بما حمل من مضامين تقدمية أهمها مبدآن هامان هما الشورى في الأمر والتعاون في الحياة. واصبح «الشوريون التعاونيون» أساس كل تنظيم أعقبه، كـ “حزب الشعب” «حزب الشورى» الذي اغلقه “البريطانيون” في “عدن” فحزب «اتحاد القوى الشعبية». وكان الأستاذ علي عبد العزيز رحمه الله والاستاذ محمد الرباعي حفظه الله –الأمين العام لحزب اتحاد القوى الشعبية اليمنية- من المؤسسين لتلك الأحزاب.

على انه مما يجب الإشارة إليه أنه في هذه الأثناء تعرف الأخ ابراهيم بـالمفكر الإسلامي الكبير “مالك بن نبي” فتأثر به هو واخي قاسم إلى حد بعيد فكريا وسياسيا، واقتصاديا واجتماعيا، وكان مالك يملك رؤية مستقبلية مذهلة وسوف يحدثنا قاسم عن ذلك بتفصيل اوفى.

 

أشعل “البيضاني” العنصرية والمذهبية ودعا إلى الحل العسكري لكي يحارب الإمام، والتجاء الاتحاد اليمني إلى القبلية، وعارض اتحاد القوى الشعبية تلك الأطروحات القبلية والعسكرية والعنصرية والمذهبية ودعا إلى قيام جمهورية شعبية ديمقراطية، لأن بها وجدها تحتفي الأمراض السياسية، وكان اتحاديو الداخل قد بدأوا العمل لثورة شعبية تبدأ من الجبال متمثلي بقول الشاعر الجزائري “وقوفا ايها الرفاق فإن الجبل على صواب”، وعملا بنظرية مالك أن الثورة الحقيقية لا تنشأ في المدن، ولكن تنبت في الجبال، وعلى هذا الأساس فى9 صفر1382/11 يوليو1962 أعلن “اتحاد القوى الشعبية” ولديه خطة تنبع من الجبال عن هدفة (التحرر من الاستعمار والرجعية بالقضاء على النظام الاستعمارى ومخلفاته فى الاجزاء المحتلة والحكم الفردي الاستبدادي العبودي في جوهره وشكله في الشمال وإقامة حكومة دستورية جمهورية شوروية شعبيةيضمن حرية الفكر والقول والعقيدة والمساوات في الحقوق وتكافؤ الفرص.

هل هي نقلة نوعية أن يدعو إمام مبايع إلى جمهورية شعبية ديمقراطية؟ اليس في ذلك مدعاة للتساؤل؟ الأمر بسيط فالفارق بين الامامية الانتخابية الشورية الزيدية وبين الجمهورية الديمقراطية تكاد تتلاشى، بالفعل ولقد رأى ان قيام جمهورية حقيقة لا تخالف الإمامة، والزيدية تقرر “منصوب الخمسة” كقيادة جماعية مكونة من خمسة علماء. وكان والده رحمه الله لا يرى فرقا لبن الجمهورية والإمامة الزيدية ومن ثم طرح اثناء الإعداد للثورة الدستورية الجمهورية بديلا لحكم الإمام يحيى، لكن الأخرين عارضوه بحجة “الظرف غير المناسي” وأن الإمامة الدستورية هي الأنسب.

(12)

وضع موت الامام «احمد» المفاجئ كل القوى في سباق محموم. وكانت القوة العسكرية هي الأسبق لما تملك من آلية التنفيذ، فقاموا بانقلابهم واعلنوا الجمهورية، ورحب “اتحاد القوى الشعبية” بالجمهورية وبالمساعدة المصر، وتحفظ على الانقلاب العسكري، ومن سوء حظ الجمهورية، وسوء حظ مصر، وسوء حظ الرئيس “عبد الناصر”، وسوء حظ التجربة القومية الرائدة التي تبناها، أن وضع البيضاني- وهو عميل مشبوه تبناه الرئيس السادات-على راس الدولة عمليا. وكان “مالك بن نبي” يحدثنا قبل قيام الجمهورية أن “السادات” على صلة بالمخابرات الأمريكية والصهيونية، وأن خطتهما هي تحطيم الجيش المصري في جبال اليمن, إذ كانت اليمن هي الحلقة الأضعف، في الدول العربية، وبالفعل ما رآه مالك كان “البيضاني” يطبقه على الأرض فيفتعل المعارك ويشعل الحرائق في كل المناطق حتى المؤيدة للجمهورية ليستجلب المزيد من أحسن فرق الجيش المصري، بعيدا عن حدوده مع الدولة المغتصبة اسرائيل حتى أوصله إلى سبعين ألف، واوجد فرقة بين الجمهوريين والمصرين مالبثت تتصاعد على نحو ما هو معروف، فعمل “اتحاد القوى الشعبية”،-وكان بعض اعضاءه قد استلم مكتب رئاسة الجمهورية- على اقناع الرئيس “السلال” بطرد “البيضاني”، وكان له ذلك، ولكن بعد خراب “البصرة”، واستمرار خراب البصرة فـ “البيضاني” الظل الذي غادر الساحة فقد بقي السادات الأصل المسؤول الأول عن ملف اليمن يديم استمرار المأساة حتى آخر لحظة.

هكذا دخل المصريون في صراع سياسي مع الجمهورين اليمنيين، وصراع مسلح مع الملكيين، وكيد لبعضهم بعضا، فضاعوا كما ضاع اليمنيون. وإزاء هذا الضياع كان المصريون يفتشون أحيانا على حلول بالتعاون مع قوى المعارضة الوطنية ولكن على طريقتهم، ففي وقت ازمة بينهم وبين اعضاء الحكومة عرض المصريون رئاسة الجمهورية لـ “إبراهيم” والخارجية لـ “قاسم” إن تعاونا معهما، ولكن الأخوين رفضا بسبب إيمانهما بأن الرئاسة لا تعين ولكن تنتخب، والتخلي عن هذا المبدأ نوع من المقايضة التي لا يمارسانها مهما كانت المغريات، وهذا مالا يفهمه الانتهازيون. ولم تفهمه القيادة المصرية الواقعة تحت هيمنة السادات مع الأسف ، وكان العنصريون يحولون دون أي تقارب بين المعارضة مع المصريين، ومع ذلك التنافر في الرؤية فإن الدفاع عن الجمهورية كان مبدئا اساسا ايضا، ولذلك لم يتخل “ابراهيم” ولا “قاسم” عن الدفاع عن الجمهورية فشاركا في كل من “بني حشيش” القريبة من “صنعاء”، وفي “برط” على الحدود الشمالية.

(13)

لم ينس الاتحاديون الشعبيون واجبهم في العمل المؤسسي الذي هو الطريق العملي لترسيخ النظام الديمقراطي، وعليه فقام ابراهيم وهو في “برط” بإلغاء «الخطاط» في البيوت، وتحرير “القرويين” من المظالم، وحاول ان يكوّن منهم نقابة او جمعية، وتقدم بمشروع لواء معين ليكون نموذجا ديمقراطيا جمهوريا ووافق عليه الرئيس “السلال” وبعض القيادات المصرية ولكن العنصريين اليمنيين تدخلوا فأخافوا المصريين وأبطلوا المشروع.

وإذ فشل العمل المؤسس في هذه المنطقة فقد نجح مسعاة في منطقة أخرى هي “الحديدة” فقاموا بأنشاء يعص مؤسسات المجتمع المدني، وتمكن الأستاذ علي “عبد العزيز نصر” من تكوين اول نقابة للعمال كانت الطريق إلى أول انتخابات لبلدية الحديدة، حيث فاز الأستاذ «عبد العزيز نصر» فوزا ساحقا لمرتين، وانشأ “جمعية الصيادين”، كما تم إنشاء “نقابة مالكي سيارات الأجرة” و “نقابة عمال البناء”. ودعما لهذا التوجه استخرج الأخ “قاسم” أذنا بإصدار مجلة، “الكلمة” ولما كان العدد الأول في المطبعة أصدر اللواء “حسن العمري” بإيقاف الطبع تحت طائلة العقاب القانوني.

وكان الرسميون اليمنيون كلما انشأوا مؤسسة ثقافيه تخدم الحكم كان الاتحاديون الشعبيون يسرعون إليها فينتخبهم الأعضاء أمناء عامين فتعود الحكومة فتلغي المنظمة. حدث هذا عندما انشأوا منظمة رسمية للشباب، ولكن الاتحاديين الشعبيين حولوها إلى منظمة مدنية بأكثرية الأصوات، وتم انتخاب الأستاذ الرباعي أمينا عاما للمنظمة، وفي خلال الحوار اعتراض بعضهم على تحويلها إلى منظمة مدنية بحجة استحالة قيام منظمة غير رسمية؟ وأي شرعية يمكن أن تكون لها؟ فرد “قاسم”: إنها الشرعية الثورية التي على أساسها تحاول إعادة بناء مجتمعنا كله.) وهنا ضجت القاعة بالتصفيق، ولكن الحكومة اعلقتها في المهد.

في خلال ذلك أدت الأخطاء الجمهورية إلى قوة الملكية وإلى تنامي السخط مما حدى بالرئيس “ناصر” أن اعترف بالوجود الملكي كقوة بعد أن كانوا مجرد متسللين عندما اتفق مع الملك “فيصل” في عقد مؤتمر بين الجانبين في “اركويت” بـ “السودان” على أن يتبعه مؤتمر موسع بين الجانبين يعقد في “حرض”. واستعدت الجمهورية لدورها وقررت أن تنتخب المناطق ممثليها في الأراضي الجمهورية لحضور المؤتمر ولما تم ذلك فوجئ المنتخبون بمنعهم من السفر، واختير ممثلين رسميين بدلا عنهم فالتهبت المشاعر بوجود صفقة لغير صالح الجمهورية خاصة وسط نمو القوة الملكية ، وعصفت الشكوك بكل القوى. وإزاء هذا التدهور واستمرار نزيف الدم بدون افق مفتوح، ولاح أن القتال في اليمن هو قتال بالوكالة وأن الصراع الحقيقي هو بين “مصر” و “السعودية”، وان لا سبيل لحماية الجمهورية إلا بالسلام، عندئذ قامت اللجنة المركزية في اتحاد القوى الشعبية بالتنسيق مع مختلف الفئات لعقد مؤتمر في “شراره”، لشرح وجهة نظر القوى الوطنية حول مؤتمر حرض القادم، والمطالبة بالعودة بالجمهورية إلى مدنيتها، وفي الأحد 17 رجب 1384/22 نوفمبر 1964عقد المؤتمر في “ميدان شرارة” ، ولقي تأييدا لم يحظ به مؤتمر اخر. واتهم قيادة اتحاد القوى الشعبية انه وراء ذلك وجرت محاولة لتصفية بعض اعضاءه.

أدرك اتحاد القوة الشعبية أنه مالم يحل السلام وايقاف الحرب فإن المأساة ستزداد اضطراما و المأساة ستظل تنفث الدم والنار، وعليه خرج قياديو الاتحاد من اليمن رافعين شعار الماضي المظلم لا يعود، والحاضر الدامي لا يستمر، والمستقبل يقرره الشعب، وأن على السعودية أن تقف مساعدتها للملكيين، وعلى المصريين أن يسحبوا قواتهم وأن ما يدفعه السعودية من مال للحرب وما يخسره المصريون على جيشهم يدفع للحكومة اليمنية المنبثقة من المؤتمر الوطني الشامل الذي كنا على يقين أنه سيحتفظ بالنظام الجمهوري بدليل أن المصريين لما خرجوا من اليمن انتصرت الجمهورية.

وعلى هذا الأساس تمت الدعوة لعقد مؤتمر الطائف الذي حضره جمهوريون وملكيون ورأوا أن المخرج لكل من السعودية والمصرين و لإيقاف نزيف الدم هو في قيام دولة يمنية مؤقتة تشرف على قيام مؤتمر وطني بدون تدخل خارجي مهما كان شكله ونوعه ليقول الشعب اليمني كلمته ولقي هذا الحل رضى جمهوريين كبار، ولكن هذا الحل اقصد عقد المؤتمر الوطني بعيدا عن جانبي الصراع الحقيقي لم يعجب الطرفين الخارجيين فعملا على إفشاله. ومن ثم بدأت مرحلة حديدة انتهت بعد خروج المصريين إلى اعتراف المملكة بالجمهورية بعد أن تأكدت من ولائها لها.

وقد عرض على “ابراهيم” واعضاء حزبه مناصب رئيسية في الحكومة المعترف بها بما فيها عضوية مجلس رئاسة الجمهورية لإبراهيم، إلا انهم اصروا بعدم المشاركة في حكومة لا تنبثق من مؤتمر وطني وبعدم المشاركة في حكومة يكون لأي طرف خارجي عليها نفوذ. وبقي “ابراهيم” ينصح ويرشد عبر سلسلة من المؤلفات المفيدة حتى لحق برحاب ربه راضيا مرضيا

واخيرا لا نقول عن حرقة فراقه إلا ما قاله الرسول الأعظم جدك الأكرم عندما فقد ابنه “ابراهيم”: (إن العين لتدمع والقلب ليخشع ولن نقول إلا ما يرضي الله وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون).

وأننا في اتحاد القوى الشعبية على دربك ماضون، وعلى رسالتك حافظون، ولن يخذلنا تنكر الأقرب والقريب، او الأبعد والبعيد فإنا على دربك الصعب سائرون.

 

وسلام عليك يا أخي ابراهيم يوم ولدت، ويوم عشت ويوم مت، ويوم تبعث حيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى