إبراهيم بن على الوزيرالكل

في الشروط الثقافية للديمقراطية

بقلم الدكتور/  عبد الاله بلقزيز 

ليست السلطة السياسية، في وجه من وجوهها، تعبيراً عن توازنات القوى الاجتماعية والسياسية في مجتمع ما فحسب، ولا تعبيراً عن تناقضات البنى الاجتماعية، مثلما كان يحلو لنيكوس بولانتزاس أن يصفها، فحسب، فتعريفها بهذا المقتضى، وإن هو صحّ، لا يلحظ من عواملها سوى العوامل المادية المباشرة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، فيما هو لا يستدخل – في منظومة تلك العوامل – ما هو في حكم التأسيسيّ العميق: العوامل الثقافية. إن استبعاد الثقافيّ في تفسير حالة السلطة، وتحليل مضمونها السياسي، يحجب عنا الكثير من الأبعاد، ويقلل من نسبة نجاحنا في فهم كثير من ظواهر السياسة، والسلطة منها.

 

يكفينا أن نصف سلطة ما بأنها مستبدة، لنتبين الفارق بين تفسير سياسويّ وتفسير ثقافيّ لاستبدادها. قد يعزو التفسير السياسوي، وهو الغالب على التفكير في مسائل الدولة والسلطة، ظاهرة الاستبداد إلى مصلحة فئوية (طبقية، حزبية، عصبوية..)

 

، في احتكار السلطة وقمع الخصوم، أو إلى اعتماد نموذج تسلّطي للحكم يتوسل أدوات القهر المادي، أو إلى تصميم نظام سياسي مغلق لا مكان فيه للمشاركة السياسية، وللتداول على السلطة. وهذا التعليل صحيح، ولكنه غير كاف، لأنه – بكل بساطة – لا يجيب عن السؤال الجوهري: لماذا أمكن للاستبداد أن يقوم، وأن يستمر، وأن يفرض هندسة معينة للدولة والسلطة.

 

 

عند هذه العتبة، بالذات، يسعفنا التعليل الثقافي لفهم الظاهرة، فيكون في وسعنا – حينها – توسعة دائرة التفسير بردّ الظاهرة، في جملة عوامل كثيرة، إلى العامل الثقافي، هكذا يصبح جائزاً أن نجد في هيمنة ثقافة الاستبداد في المجتمع برمته: في البيت، والمدرسة، والإدارة، والحزب، والنقابة، والعلاقات الاجتماعية.. إلخ، رافعة للاستبداد السياسي، وتوفيراً لشروط استمرار السطة المستبدة. لو لم ينبع الاستبداد من القاع الثقافي والاجتماعي، لما أمكنه أن ينتصر في نظام الحكم، وأن يستقر في قمة الهرم (النخبة الحاكمة). وهي حقيقة انتبه إليها عبدالرحمن الكواكبي، منذ قرن وعشرة أعوام، حين ربط الاستبداد السياسي بالدينيّ، بالاجتماعيّ، بالثقافيّ.

 

ما الذي يمنع قيام نظام ديمقراطي عربيّ، اليوم، رغم نجاح “ثورات” في إسقاط أنظمة فاسدة؟ وما الذي يحملنا على رفض اختزال الديمقراطية إلى مجرد آليات انتخابية حرة ونزيهة (على فَرَض أنها كانت كذلك في الحالة العربية ما بعد “الثورة”)؟

 

نعم، المانع دون قيام نظام ديمقراطي في بلداننا مانعٌ سياسي: تجذر الاستبداد والكلانية (التوتاليتارية) في المجتمع السياسي: سلطةً ومعارضة. لكنه كذلك بسبب انعدام الشروط الثقافية والاجتماعية والتحتية لكل ديمقراطية، فالفكر والوعي العام يعانيان غياباً فادحاً للثقافة الديمقراطية. والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية خِلوٌ من القيم الديمقراطية. تيارات الفكر والسياسة مسكونة بأزعومة امتلاك الحقيقة، ونهج الطريق القويم، والواحد منها يرى في الآخر ضالاً، أو مُحرفاً، أو مخدوعاً، أو أفّاكاً، ويرى في نفسه المنقذ من الضلال، وفيصل التفرقة، والجادة التي لا يزيغ عنها إلا هالك. ثقافتنا مُصابة بالمطلقية، لا نسبية فيها ولا حسّ واقعياً، ومجتمعنا مصاب بالانغلاق على تقاليده، لا تسامح فيه ولا اعتراف بآخر مختلف. الماركسي فينا، والقومي، والليبرالي، كالإسلاميّ سلفي مغلق، والأسرة دولة استبداد مصغرة، والمدرسة فضاء لتلقين اليقينيات واجترارها، لا للتربية على النقد وعقل الأشياء والابتكار، والأحزاب زوايا وطرُق. فمن أين تأتي الديمقراطية إذاَ.

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، ولا ديمقراطيين من دون تربية ديمقراطية وعلاقات ديمقراطية. وهذه لا تكون من دون ثورة ثقافية، وإصلاح ديني، وتجديد في علاقات الاجتماع، وتفكيك للبنى والذهنيات الموروثة والمغلقة. ودوننا وهذه كلّها شوطٌ تاريخي طويل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى