إبراهيم بن على الوزيرالكل

إبراهيم بن علي الوزير كما عرفته مفكراً وإنساناً (1 )

أ.د. أحمد علي الماخذي(*)

 

مدخل:

 

جرت العادة على أن يحدد الكتَّاب والمصنفون مقدمات لأبحاثهم ومؤلفاتهم، يوجزون فيها فكرة أو أفكاراً محددة عن الموضوع المطروق، وعن المناسبة، وقد وجدت نفسي ملزماً في السير على هذا الطريق المتعارف عليه عند أغلب الكتَّاب، والمؤلفين، وبالطبع فإن إيجاز فكرة ما يمكن أن تختص بها بعض المقالات السائرة، والتي مجالها الصحافة، أما أن يكتب كاتب ما عن أمر عظيم فإنه لا يقدر على اختصار هذا الشيء العظيم في سطور، واحتراماً مني لهذه المناسبة الخاصة، لإحياء ذكرى الداعية الإسلامي الكبير الأستاذ/ إبراهيم بن علي الوزير، فإن ما يمكن القول عنه هنا هو أن تتولى مجلة المسار طباعة تراثه الفكري الثري وأن تنشره تباعاً مع كل عدد من أعدادها تحت عنوان كتاب المسيرة، وإذا ما فعلت ذلك فإنها ستخدم فقيدنا إلى قبره بإحياء فكره النير فيطلع الآخرون على ما لدى هذا الأديب والمفكر والفيلسوف من كنوز معرفية.

 

وقد حاولت أن أقدمه إلى القراء في مبحثين اثنين، هما: إبراهيم بن علي الوزير في قلب المأساة (تحت 4 فقرات)، والمبحث الثاني: إبراهيم بن علي الوزير مفكراً إسلامياً، ويقع في (4 مباحث).

 

وآمل أن أكون قد ذَكَّرتُ بالمرحوم وبتراثه الجميل والمفيد.

 

 

 

المبحث الأول

 

أولاً: إبراهيم بن علي الوزير في قلب المأساة.

 

ثانياً:  أول معرفة لي بالداعية الكبير إبراهيم بن علي (رضوان الله عليه)

 

ثالثاً: معرفتي الثانية بفقيدنا الغالي.

 

رابعاً: إبراهيم بن علي الوزير شهيداً.

 

خامساً: إبراهيم بن علي الوزير إماماً.

 

المبحث الثاني

 

أولاً: إبراهيم بن علي مفكراً إسلامياً.

 

ثانياً: إبراهيم بن علي متكلم زيدي عدلي.

 

ثالثاً: إبراهيم بن علي في عمق الهموم الإنسانية.

 

رابعاً: إبراهيم بن علي وكتاب زهراء اليمن أم في غمار ثورة.

 

  

 

المبحث الأول

 

أولاً: إبراهيم بن علي الوزير في قلب المأساة

 

الذين يعتقدون أو يظنون أن الكتابة عن الكبار وعن القضايا الكبيرة سهلة وميسورة لا شك واهمون، ذلك أن موضوع الكتابة لا يختلف عن موضوع الإبداع الشعري، لا بد أن تتوفر له الحوافز النفسية والذهنية ليكون شعراً مؤثراً في المتلقي وإلا فإن القضية لا تعدو أن تكون مجرد كلام موصوف ميت لا روح فيه ولا حياة، والعظماء من البشر هم أولئك الذين امتلكوا مقدرات ذهنية وروحية للوصول إلى أفئدة الآخرين بما أنتجوه من المنجزات التي استفاد منها غيرهم في أي مجال من  مجالات الحياة الإنسانية، والفقيد العزيز الداعية الكبير والسياسي اللَّامع، والأديب الواسع الاطلاع، والثائر الذي لم ينحنِ أمام عواصف الدهر، والمجاهد الصبور الأستاذ/ إبراهيم بن علي الوزير هو من هؤلاء الأفذاذ الذين تركوا بصماتهم على صفحات التاريخ وصاروا رغم رحيلهم عن عالم البشر إلى العالم الأبدي، ما يزالون أحياءً من خلال تراثهم وأعمالهم التي حرثوا بها حقول العقول؛ لتثمر وجوداً خيّراً ينعم في ظلاله، ويستضئ بأنواره أجيال وأجيال.

 

وفي هذه اللحظة بالذات أجدني وكأنني قد اقتربت من الشاطئ الآمن من بحر المعرفة والعلم، والأخلاق، والمروءة، والفضيلة، وباقترابي من هذا الموقع المهيب اعترف أنني قد اعتراني نوع من الرهبة، والقلق، والتوجس من أنني قد لا أستطيع السباحة في هذا الشاطئ فضلاً عن الدخول إلى العمق الذي أراه بعيد الغور، وأنا الإنسان الذي لم أتعود مواجهة العواصف القوية، ولم أتعود الغوص إلى الأعماق البعيدة الأغوار، لإنني قد سبق لي أن رأيت هذا البحر الواسع الآماد، العميق في حالات من الصفاء، والهدوء، والسكينة، والطمأنينة، أترون من هذا البحر الذي أصفه أو أكاد أن أصف شيئاً من ملامحه إنه إبراهيم بن علي الوزير الإنسان الرائع بكل ما تعنيه كلمة الإنسان المشمولة بالروعة، والبهاء، والبساطة.

 

ومع أنه كان واحداً من آل الوزير الذين عركتهم المأساة الدامية، لكن إبراهيم بقي واقفاً كالجبل الأشم.

 

ثانياً: أول معرفة لي بإبراهيم بن علي الوزير

 

عرفت الراحل الكريم رضوان الله عليه ذهنياً من خلال مأساة 1948م عندما حلت الكارثة بالعائلة الشريفة كلها، بعد سقوط الثورة الدستورية، وبالتأكيد بعد انتهاء الثورة بحوالي عشر سنوات عندما كنت في مدرسة دار المعلمين العليا بصنعاء.

 

كانت تسمى هكذا، وإن لم تكن عليا، فقد كان إبراهيم حينذاك مسموع الصوت ظاهر الشخصية، يتحدث عنه المثقفون ومن يميل أو يؤيد ثورة 1948م واستمرت هذه المعرفة الذهنية حتى عام 1962م عندما لمع نجم هذا الفحل من آل الوزير، فقد كان لإبراهيم نشاط فكري، وسياسي، واجتماعي؛ لأنه حينذاك قد تزود بمختلف التجارب السياسية، والعلمية كشاب دارس لعلوم عصره، وكوريث شرعي لثورة قادتها طلائع اليمن من العلماء آل الوزير وغيرهم من الفئات الاجتماعية، بالإضافة إلى أنه كان في قلب المأساة فقد فقد والده الذي كان شريكه في صلاة الفجر، وأنيسه في الغرفة التي كان يحلو لوالده النوم فيها يبثه بعض أفكاره، ويوجهه إلى التحصيل العلمي، والسلوك الأقوم، وإلى مواجهة متطلبات الحياة بعزيمة الرجال الذين يرثون من آبائهم قيم المجد والسمو والرقي، ولقد كان للمقابلات الصحافية، والأحاديث الإذاعية التي كان الراحل الكريم يتحف بها بعض وسائل الإعلام بعد قيام ثورة 26 من سبتمبر أثرها الكبير والعميق لدى القراء، فقد كان إبراهيم موسوعي الثقافة، عميق التفكير، ملماً بأحداث عصره السياسية، والأخلاقية، والدينية أيضاً بحيث أنه عندما كان يحلل القضايا الوطنية والسياسية الدولية، والإقليمية لم يكن شخصاً مثقفاً مطلعاً على مجريات الأحداث، ولكنه كان يبدو رجلاً حكيماً وعالماً من علماء السياسة ومفكراً من الصف الأول، وثائراً نقياً كنقاء الثلج على قمم الجبال، وعلى هامات الذرى، إنه كان كذلك نقياً صافي الفكر، يحمل هموم شعب مظلوم وكان بصدق يعبر عن قضاياه بأمانة، ونزاهة، مترفعاً عن أساليب السياسيين الذين يبيعون الكلام بمقابل المنافع التي يلهثون وراءها، أما إبراهيم فلم يكن طالب جاه أو منصب، وماهو الجاه والمنصب في قاموس إبراهيم بن علي؟ إن انتسابه إلى هذه العائلة الكريمة لوحده لا يساويه أي جاه أو منصب زائف، ثم إنه أولاً وأخيراً من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، كما قال الله تعالى، وما كان هدف إبراهيم إلا إصلاح الأمة في نظام حكم عادل تسوده المحبة والانسجام، وصولاً إلى الرخاء الاجتماعي، والاستقرار النفسي، والعيش الحر الكريم للجميع.

 

ولذلك فقد كانت أفكار إبراهيم وتحليلاته السياسية، ومواقفه المعلنة تزعج أولئك الذين اعتلوا سنام السلطة، وحلوا محل من سبقهم غير مؤهلين لأن يفتحوا صفحة حوار مع هذا المصلح العظيم، والوطني الغيور، والأديب الناجح، والداعية النابه،  الأمر الذي جعله وبما يمتلك من رؤية ثاقبة ومعرفة بأخلاقيات أولئك الذين صاروا حكاماً، لا يقبلون لغيرهم رأياً، ولا يقيمون للعدل ميزاناً، ولا لمستقبل الأمة معنى، أن يشق طريقه نحو بذل النصح لهم، ومحاولة توعيتهم بأنهم يسيرون في الطريق المعوج، الذي لن يؤدي إلى نتيجة يستفيد منها الوطن، وإنما ستكون النتيجة إضافة المزيد من المآسي والتخلف، وإشاعة الظلم، وخلق الكراهية، والحقد من المظلومين على عتاة الظلم والجور. وفي الحقيقة فقد كان بوسع إبراهيم بن علي أن يتسنم العديد من المناصب الحكومية مع أنه لا يريد ذلك، لو أنه فقط سكت عن بذل النصح والإرشاد للسائرين في الطريق الخطأ، بسبب عدم فهمهم لفلسفة الحكم، وعدم حرصهم على سلامة المسيرة التي اختطتها ثورة الدستور سواء فيما له علاقة بالحكم الشوروي الدستوري، أو بما له صلة بأن لا يكون الحكم وراثياً، يتسلمه الأبناء من الآباء ويطالب به الأحفاد من بعدهم. ونظراً لأن هذا الثائر الجسور قد أفزع أولئك الحكام، بماكان يطرحه عليهم من نظريات عن فلسفة نظام الحكم الرشيد، لأنهم في حقيقة الأمر إما مجموعة من العساكر الذين لم يكن لديهم من التثقيف إلا ما يوصلهم إلى إتقان ظلم الناس، والزج بهم في السجون، والتهافت على المال العام والخاص، وإدخال المجتمع في متاهات لا حدود لها، فإن آراء إبراهيم وتوجهاته الوطنية عن كيفية النهوض بالوطن لا تجد لها مكاناً في

 

تفكير أولئك القوم، وقد وجد نفسه محاطاً بالجواسيس، وبالتجاهل، وربما فكر بجد أن حياته في خطر، واصل رحلة الغربة بعد الغربة التي قضاها عندما تخلص من السجن ليواصل من الخارج إشعاعه الفكري، والسياسي، والدعوي،  والخيري، إلى كل محبيه داخل الوطن، ولهذا فإن إبراهيم كان وما زال حينذاك في قلب المأساة المتكررة،  غير أنها لم تتمكن من إخماد شعلة الحرية التي كانت دائمة التجدد والتوثب لديه لمواجهة الباطل، وإخماد روح الطغيان الذي كلما اختفت عاصفة منه بذهاب فاسد أوظالم، أو متطفل، أو نذل من الأنذال الفاسدين الذين ركبوا موجة التنوير ليمارسوا أنشطتهم الطائفية، والقروية، والعنصرية، والمناطقية وغيرها، تبعتها عاصفة أخرى متقمصة روح الأولى سواء بسواء.

 

لذلك فقد كان إبراهيم نجماً لامعاً في سماء الوطن اليمني وفي سماء العروبة والإسلام حيث نذر نفسه مجاهداً في سبيل الله، وفي سبيل حرية وطنه، واستقلاله، وعزته، ورفعته بين أمم الأرض لا يريد جزاءً ولا شكوراً، وإنما أداءً للواجب الوطني وبراءة للذمة، وطاعة لثوار 1948م وعلى رأسهم والده الشهيد الأمير علي بن عبدالله الوزير أحد أعمدة ثورة 1948م وأحد عظماء شهدائها، وهذا الإرث حمله الأستاذ إبراهيم وإخوته معه، إلى آخر يوم من حياته الحافلة بالنضال والعطاء  الفكري والروحي المشهود.

 

ثالثاً: معرفتي الثانية بفقيدنا الغالي

 

لا أخفي القارئ أن رغبتي كانت جامحة للاتصال بالأستاذ المناضل الكبير والداعية الإسلامي التقي، الذي كنت أرى فيه من خلال فكره النير شخصيةً غاية في النقاء، والطهر، والصدق، والتواضع الجم والعلم الغزير، والحنكة السياسية التي تدل على البراعة والنباهة والصدق، وحينذاك فقد التقيت به لقاءً خاطفاً في البيت الحرام في مكة المكرمة وهو يؤدي صلاة العصر وكنت في طريقي إلى تونس مقر عملي،وقد استقبلني بابتسامته المعبرة عن الطيبة وسعة الصدر، وعرض علي البقاء في مكة حيث يطيب فيها البقاء، بجوار الحرم المكي، بجوار بيت الله الحرام، وأبدى استعداده لتأمين السكن والإقامة المدة التي أريد البقاء فيها، وقد شكرته على الحفاوة، واللطف اللتين قابلني بهما، وكان الحديث قصيراً نظراً لأنه هو كان مرتبطاً بأمور خاصة ببعض أصدقائه  أو معاريفه.

 

وبعد هذا اللقاء العابر توطدت صداقتنا كثيراً وكنا نتبادل التهاني في المناسبات الدينية عبر الهاتف ونستفسر عن أحوال بعضنا البعض،  وعن الجديد في مجال الانتاج الفكري في الوطن لأن فقيدنا رضوان الله عليه كان حاضراً يتابع كل مجريات الحياة الثقافية والسياسية في اليمن، وكان ذات مرة قد طلب مني أن أكتب موضوعاً نقدياً على كتاب فيه بعض الخطايا، والكثير من الأكاذيب والافتراءات، على بعض الرموزالعلمية على اعتبار أن تصحيح الأغلاط المتعمدة في هذا المصنَّف فيها إجحافٌ بحق من وقعوا ضحيَّة لقلم منحرف عن الصواب وعن قيم التأليف النزيه.

 

ولقد أبديت استعدادي للبدء في إنجاز ما تم الاتفاق عليه، إلا أن الرياح قد جرت بما لا تريده السفن، فقد منعت من الكتابة في جريدة الثورة مدة تزيد على خمس سنوات بعد أن كنت واحداً من محرري يوميات الثورة لعدة سنوات، وكان هذا المنع بتوجيه من وزير الإعلام حسن أحمد الفقيه، المعروف باللوزي، وبتوجيه له من أحد النافذين في ميدان الأدب، بسبب خلاف فكري بيني وبينه،  ولم أكن أدري قبل ذلك أن هذا الشخص يحمل حقدا ًتاريخياً على من هم يحملون الصفات التي أحملها، ونظراً لأنني كنت قد أبديت استعدادي لتنفيذ ذلك العمل التصحيحي ولم أتمكن من إنجازه الأمر الذي حزّ في نفسي عدم تمكني من تنفيذ ما وعدته به، وهذه القضية أعتبرها ديناً لا تبرأ ذمتي إلا بإنجازها إن شاء الله في وقت قريب.

 

رابعاً: إبراهيم بن علي الوزير شهيداً

 

تحت هذه الجمل ينطوي تأريخ لم يعرفه إلا القليل من أصدقاء المرحوم إبراهيم بن علي، ومع أنه قد تعرض للاغتيال، وللاستشهاد أكثر من مرة، فإنه من وجهة نظري شهيد، فالمحاولات المتعددة لإنهاء حياته، وإلغاء وجوده قد تهادت حثيثة الخطى، وأوشكت أو أوشك بعضها أن يدخل حيز التنفيذ لولا عناية الله ولطفه، وستره الذي أيد هذا الفحل النابه ليقوم خلال حياته، ونجاته من الموت بما يسعه من فعل الخير، والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان صادقاً في اعتراضاته على الانحراف الذي كان سائداً في نظام الحكم، ولم يكن يهدف من وراء طرحه آراءه السديدة عن الكيفية التي يكون عليها الحكام في إدارة شئون الأمة، وحفظ مصالحها وإعطاء أهلها الحقوق الشرعية والطبيعية لم يكن هدفه الشهرة، أو طلب الجاه، أو المنصب فقد كان متواضعاً زاهداً في دنياه، وإنما كان يريد أن يرى الحياة في شعبه قد ازدهرت، وأن قواعد العدل قد طبقت في نصرة المظلومين، وإحقاق الحقوق لأهلها، بعيداً عن الجور والتسلط، و إزهاق أرواح الأبرياء، وإخماد الآمال في نفوس الأطفال من أنهم سيحيون حياة كريمة لائقة بهم. وهذه المواقف التي وقفها إبراهيم قد سببت له الكثير من الآلام وتعب الضمير، والتعرض للأذى، ومحاولة الاغتيالات. وتشاء الظروف أن ألتقي بفقيدنا المرحوم في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي منزله الذي كان يقيم فيه، في منطقة “ميرلاند”.

 

وحكى لي القصة كاملة عن محاولات الاغتيال،وهي ليست محاولة واحدة، ولكنها عدة محاولات، وأن واحدة من المحاولات التي كادت على وشك الإنجاز في منزله بالذات، حيث قدم شخصان يمنيان لزيارته والسلام عليه، والاطلاع على أحواله، وأن هذين الشخصين هما من جماعة من محبيه ومن مؤيديه، وكعادته فقد استقبلهما وأنزلهما في بيته، واجتمع بهما في حديث أخوي، ولكنه وبتوفيق من الله تعالى التفت نحو جهة من الجهات فرأى أحد الشخصين، وهو يشير بعينيه إلى زميله أن يقوم بتنفيذ المهمة.

 

وحينذاك وقعت السيدة أم الهادي حرم الأخ إبراهيم من إحدى درجات السلم، حيث اعتطفت رجلها فصرخت بصوت مرتفع من الألم، وحينذاك انطلق الأخ إبراهيم لنجدتها والنظر فيما حدث قبل أن يحدث المكروه الذي لم يرض الله به، مع أن الشخصين اليمنيين حينما زاراه كانا يتمنطقان بسلاحيهما أي الجهاز والجنبية، والظاهر أن القضية قد تم طبخها في السفارة اليمنية في واشنطن، حيث تم تسليحهما بالجنابي؛ لأنه من المستحيل أن يلبس أحد جنبية،  أو يحمل سكيناً في الولايات المتحدة، هذه واحدة من محاولات الاغتيال التي كنت قد رأيت أحد ضباط الأمن المنخرطين في الاستخبارات قد مر بتونس قبل هذه المحاولة بحوالي عشرة أيام، وكنت قد سألت ذلك الضابط إلى أين وجهته في هذه الرحلة؟ فقال لي إنه متجه إلى كندا، والحقيقة أنه كان متجهاً إلى الإشراف على تنفيذ موضوع الاغتيال، وكان المرحوم قد حكى لي حينذاك أن الرئيس علي عبدالله صالح يتصل به ويحاول طمأنته ويقول له أنا من شيعتكم، ولكنه يرسل له من يقتله غيلة.

 

المحاولة الثانية التي تعرض لها الأستاذ إبراهيم بن علي في الولايات المتحدة عندما استدعته الجالية اليمنية هنالك أي في منطقة (ميشجن ) لإلقاء محاضرات على شباب الجالية، بمناسبة افتتاح مدرسة جديدة يتعلم فيها أبناء المهاجرين وقد حكى لنا إبراهيم هذه القصة، ولم يذكر اسم الشخص الذي قدم إليه الدعوة وأنه هو المضيف، لأن هذا الشخص بلا شك كان ضالعاً في هذه المؤامرة الخسيسة، فقد أطلق المهاجمون النار على الضيف الجليل المستهدف، إلا أن عناية الله قد حجبت عنه تلك الرصاصات التي أصابت الشخص الطيب الذي كان مرافقاً له، وأصابت غيره، وقد نجى إبراهيم بأعجوبة، وهذه الفعلة كانت من جملة المحاولات التي تعرض لها رضوان الله عليه في حياته، وبالتأكيد فلم يكن المهاجمون من مواطني دولة أخرى، ولكنهم أو بعضهم من مواطني الجمهورية العربية اليمنية حينذاك.

 

ولقد ذكر رضوان الله عليه أن إطلاق النار قد حدث عندما كان مع من يرافقه في الدخول إلى المطعم الذي تم إعداد الضيافة الدامية فيه.

 

يقول الأستاذ إبراهيم إنه كان يروي لهم نكتة يمنية عن بعض الأحداث، (وبالأخص الاغتيالات الرئاسية تقول النكتة: إن فلاناً من الناس التقى المجني عليه بالجاني، فقال له لم فعلت ما فعلت تستدعيني للغداء وإلى الضيافة، ثم تقتلني لماذا فعلت ما فعلت؟ فيقول الجاني: لقد ندمت على ما فعلت، وها أنا ذا الآن قد لحقتُ بعدك، فيقول المجني عليه الأول: أين تركتَ فلانًا؟ فيرد  عليه الجاني وهو الآن مجني عليه إنه في الطريق وسيلحق بالقات، والسلتة)، وما إن أكمل هذه النكتة حتى دوَّى صوت الرصاصة مخترقاً  جوانباً من ثيابه، ولكنها لم تصبه بأي أذى، ولا أن الشخص الذي حماه بجسمه قد اخترقت الرصاصة المتفجرة ساقيه، وكانت الرصاصات من النوع الذي ينفجر بعد اختراقه للحم بحيث يظهر وكأن الطلقة الواحدة بسبب التشظي قد تحولت إلى ثلاثة أضعاف الجُليلَة الأم.

 

والخلاصة لعمليات الاغتيالات التي استهدفت فقيدنا هي أن نتركه يروي شيئاً مما سجله عن عشرات المحاولات التي استهدفت حياته في كتابه (إحدى الحسنيين):

 

يقول الأستاذ إبراهيم بن علي الوزير: (أما الحكم الديكتاتوري فأنا أتهمه على وجه اليقين والقطع، وذلك بأدلة ثابتة لديّ، في محاولات سابقة باءت بالفشل، وفي الأخيرة حيث كان عندي علم بالإدارة الآثمة تلك… فقد سبق أن تعرضت لمحاولات اغتيال عديدة بلغت حتى الآن أكثر من عشر محاولات، استُخْدِم السُّمُّ والغَازُ في بعضها، ونَفَذَ ووقاني الله آثاره المدمرة (إحدى الحسنيين ص42 وفي ص65) في كتاب إحدى الحسنيين يقول زيد بن علي رضوان الله عليه: إنني أؤكد على جميع إخواني وأخواتي انتصار الحق والعدل والخير، كما أكدت عليهم في أحاديثي، ولقآءاتي معهم، واتصالاتهم لي بعد الحادث، أن لا يجعلوا الانتقام هو رد فعلهم، مستشهداً بوصية أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قال: يا بني هاشم، لألفينكم تخوضون في دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، وإن تعفو أقرب للتقوى.

 

هذا هو إبراهيم بن علي الوزير الشهيد الذي تعرض للموت مراراً، ولكن الله كان معه في كل أوان وحين حتى رحل إلى جوار ربه تحرسه عناية الله التي رعته أحسن رعاية، فرحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه فسيح جناته.

 

خامساً: مع إبراهيم بن علي الإمام

 

كنت قد اعتقدت أن إبراهيم بن علي هو أكبر إخوته، ولكنني اكتشفت أخيراً أن أكبر إخوته عند استشهاد والده هو أخوه العباس، والذي جعلني أعتقد ذلك الاعتقاد أن إبراهيم حمل على كاهله عبء الحياة إزاء إخوته الآخرين، في الوقت الذي تنكرت لهذه الأسرة الدنيا كلها في اليمن، بسبب الجهل الذي كان يسيطر على جموع الشعب، وعدم إدراك الناس حينذاك أنهم بحاجة إلى أن يغيروا واقعهم، وأن يتعاونوا مع الطلائع من العلماء الثوار ومؤيديهم من النابهين من أبناء اليمن حينذاك.

 

ولعله من حسن الحظ أن الداعية الكبير والمفكر السياسي العالمي، والمصلح الاجتماعي الصادق قد دون لنا في أدبياته العديد من شئون عصره ابتداء باستشهاد والده وفشل الثورة الدستورية، وبعد ذلك كيف زُجَّ بِهِ في سِجْن القاهرة بمدينة حجة وهو شاب يافع لم يتعد السابعة عشرة من عمره، وكان هذا السجن بالنسبة لهذا الشاب هو  المدرسة التي اغترف فيها من فكر نزلاء هذا السجن المعارف والعلوم الشرعية والأدبية، ما استطاع حفظه وهضمه من تلك الفنون، لأن جل نزلاء السجون في تلك الفترة أي فترة ما بعد فشل ثورة الدستور كانوا من العلماء الأفذاذ، والشعراء المجلين في ميدان الأدب شعراً ونثراً، ناهيكَ عن علوم البلاغة والمنطق وأصول الفقه، وأصول الدين، الأمر الذي صقل مواهب هذا الشاب اليقظ الواعي، وقد أدرك كبار السجناء حينذاك أن هذا الشاب يمتلك قدرات فطرية، وفكرية، وأخلاقية، وإنسانية، فما كان منهم إلا أن أجمعوا على مبايعته إماماً للمستقبل عندما يخرجون من معتقلهم، ولقد أخبرني رضوان الله عليه أن القاضي عبدالرحمن الإرياني كان قد عقد البيعة له وعاهده على النصرة كإمام للمستقبل، ومثله فعل أستاذه الأديب الكبير الشاعر المجلي أحمد بن محمد الشامي، والشاعر إبراهيم الحضراني، والعلامة أحمد بن محمد الوزير، صاحب المصفى في أصول الفقه، وعشرات العلماء والأدباء الذي أُدْخِلُوا إلى سجن القاهرة بحجة.

 

وإذا كان أولئك قد بايعوا هذا الشاب على أن يكون إماماً شرعيًّا للوطن، فإنما فعلوا ذلك لما وجدوا في هذا الشاب من النجابة والرجولة الأمر الذي جعلهم يقيِّمون صفاته، ويزنونها ويستنبطون الملكات الفردية فيه من خلال حصافته، ويقظته، وإدراكه لمجريات السياسة ونظام الحكم برغم صغر سنه، وقد تخلص أولئك السجناء المبايعين له بالإمامة ونسوا ما عاهدوا الله عليه، ولم تساعدهم الظروف على مزيد من التواصل، حيث غادر إبراهيم مع أخيه العباس صنعاء إلى عدن، ثم إلى السودان، فمصر حيث استقر بالقاهرة طالباً يعاني مرارة الغربة، وفقدان الوالد، وقلة الإمكانيات، ومواجهة الفقر والحاجة، وقد استمر في التحصيل العلمي والمعرفي، وأقام صلات كثيرة مع رجالات القلم والفكر في مصر، وواصل مسيرة النضال بتوعية الطلاب اليمنيين بخطورة الوضع الذي يعيشه الوطن تحت حكم الإمام، وأن من واجبات الشباب الأساسية، ليس الانتظار حتى ينقرض الناس من الوجود، فيتحرك هؤلاء الشباب فيغيروا من واقع البلاد المزري، والذي لا يحتمل.

 

وقد استطاع إبراهيم بن علي أن يشكل مع زملائه حركة ثورية شبابية جديدة أقلقت نظام الحكم الإمامي، وقد أسهمت جهود الرائد إبراهيم بن علي الوزير في زعزعة النظام الملكي الذي كان قد تفسخ وصار على وشك الانهيار، وما حدث من 26 سبتمبر إنما كان نتيجة للمقاومة التي استمرت عشرات السنين، وكان لإبراهيم دونما شك دور رائد في هذا المجال.

(يتبع)????

_نقلا  قناة المفكر ابراهيم بن علي الوزير في التلجرام ___

https://telegram.me/Ebrahimalwazir

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى