كتابات فكرية

محمد المداني صحفيا وزاهدا

محمد المداني صحفيا وزاهدا

*عبدالله علي صبري

عبدالله صبري
السفير عبدالله صبري

مع إعلان الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية في 1990م، ظهرت الأحزاب السياسية والصحافة الحرة إلى العلن بعد أن كانت المعارضة السياسية فعلا مجرما ومحظورة قانونيا. ومن بين الأحزاب والصحف اتحاد القوى الشعبية وصحيفة الشورى لسان حال الحزب.

كان محمد المداني أول رئيس تحرير لهذه الصحيفة التي ستغدو أحد أهم الصحف اليمنية وشاهدا على الهامش الديمقراطي، الذي كان يتسع بمقدار ما كانت السلطة تسمح للصحيفة بالصدور، ويتقلص كلما كانت الصحيفة وكتابها والقائمين عليها يتعرضون للقمع والتضييق، وإلى أن تم إيقافها نهائيا مع بدء حروب النظام على صعدة في 2004م.

كان على المعارضة السياسية التي وجدت نفسها تحت النور وفي مواجهة الجمهور على شكل مباشر بعد عقود طويلة من العمل السري، أن تتكيف وتتطور مع المتغيرات الجديدة سياسيا وتنظيميا وإعلاميا، وكان عليها أن تنتج الإعلام المحترف بعيداً عن المنشورات السرية والكتيبات التثقيفية التي اعتادت عليها، وهذا ما منح مهمة التأسيس والانطلاقة الأولى لصحيفة الشورى أهمية كبيرة في تاريخها المهني والنضالي والتنويري.. فكم صحف ومشاريع إعلامية ظهرت بقوة ثم سرعان ما توقفت أو تراجعت، بينما كانت صحيفة الشورى في تصاعد مستمر برغم التحديات التي تعرضت لها.

وقد كان الصحفي المداني في مستوى التحدي، فبالإضافة إلى أنه كان صحفيا ناجحا، فقد كان متشبعا بثقافة إسلامية عقلانية، وأديبا وشاعرا مرهف الإحساس وصلب المواقف.

محمد المداني

ومما لا شك فيه أن المدرسة التي نهل منها الراحل كان لها التأثير الكبير على مختلف أدائه وأدواره الجهادية والنضالية، فقد كان قريبا من المفكر الإسلامي إبراهيم بن علي الوزير مؤسس القوى الشعبية والمجاهد الذي أمضى حياته في مقارعة الظلم والاستبداد وفي الكتابة والتأليف، فلم يساوم أو يهادن برغم الإكراهات والمغريات التي رافقت مسيرة حياته منذ نعومة أظافره وحتى الرمق الأخير من حياته.

أمضى الصحفي الراحل أكثر من ثلاث سنوات رئيسا لتحرير صحيفة الشورى، في فترة انتقالية ذهبية شهدتها اليمن بفضل الوحدة والديمقراطية والتوازن السياسي بين قطبي السلطة آنذاك، إلا أن الأزمة السياسية التي أعقبت الانتخابات النيابية وتطورت إلى حرب صيف 1994، فرضت على المداني مغادرة البلاد، فقد أصبحت الكلمة للرصاصة والبندقية، وحين توقفت الحرب لصالح المؤتمر الشعبي العام ونظام علي عبدالله صالح، كان الاتحاد وصحيفة الشورى من المغضوب عليهم، الأمر الذي حال دون عودة المداني إلى البلاد وإلى العرين الذي أسسه منذ سنوات.

صحيح أن صحيفة الشورى عاودت الصدور مجددا وحققت نجاحات كبيرة، إلا أنها لم تشهد الاستقرار المطلوب، فالسلطة التي أعقبت الحرب ما كانت تطيق الكلمة الحرة والمسؤولة، وقد عمدت بشكل فج إلى تفريخ أحزاب المعارضة واستنساخها وإيقاف الصحف الصادرة عنها، وكان لاتحاد القوى الشعبية وصحيفة الشورى نصيب الأسد من صنوف التنكيل التي انتهجها النظام آنذاك.

شخصيا فقد كنت أحد أعضاء الحزب وقراء صحيفة الشورى، وكان شغفي بالصحيفة وكتابها لا حدود له، وكنت معجبا برئيس تحريرها محمد المداني وبكتاباته، ومتذوقا لقصائده، ومتشوقا للقائه والتعرف عليه، إلا أن هذا الأمل تأخر كثيرا، وقد حانت فرصة اللقاء والعمل المشترك بعد عام 2000م، حيث انعقد المؤتمر العام الثاني للحزب في ظروف سياسية مستقرة نسبيا، وعلى إثر المؤتمر عادت بعض قيادات الحزب من الخارج، ومن بينهم الأستاذ المداني، الذي عاد إلى موقعه في رئاسة تحرير الصحيفة، وحظيت شخصيا بثقة القيادة حين تم تعييني في الفترة نفسها مسؤولا عن أمانة الإعلام في الحزب. 

وقد كان المداني رحمه الله من الأتقياء الأنقياء الزاهدين في الدنيا، ما أضفى على شخصيته مسحة صوفية قل أن توجد في الوسط الصحفي.

وما كان يميز العمل بصحيفة الشورى عن غيرها من الصحف الحزبية أنها انتهجت خطا مستقلا إداريا وصحفيا، وكان لرؤساء التحرير الذين تعاقبوا على إدارتها مساحة كبيرة من الصلاحيات، ما جعلها ملتقى لكل الأقلام والمبدعين من مختلف المشارب السياسية. وهو ما جعل شهرة الصحيفة وكتابها تطغى في كثير من الأحيان على الحزب وقياداته. وبالإضافة إلى محمد المداني، تسنم إدارة الصحيفة عدة صحفيين متميزين تشرفت بالعمل معهم جميعهم، ومنهم الأستاذ الراحل عبدالله سعد محمد، والأستاذ نعمان قائد سيف، والأستاذ عبدالسميع محمد، والأستاذ الشهيد عبدالكريم الخيواني.

لقد عملت السلطة بالترغيب والترهيب على استقطاب كثير من الأقلام والأصوات السياسية المعارضة، بهدف احتواء الأحزاب وتفريغها من كوادرها، وقد نجحت مع الكثير من هذه النخبة التي كانت تلهج باسم المعارضة نهارا، وتسبح بحمد السلطة ليلا. غير أن محمد المداني قاوم بكل كبرياء، واختار السير على درب الحرية والكرامة مهما كان مقفرا أو موحشا..

ومرة ثانية تأتي الحرب، فيجد المداني نفسه مضطرا لمغادرة صنعاء، لكن هذه المرة إلى مقر إقامته ومسقط رأسه في محافظة تعز.

كانت حروب النظام على صعدة شاهدا على فشل التجربة الديمقراطية، وقد واصل النظام السابق منهجيته في القمع وإيقاف كل صوت حر، وصولا إلى اعتقال الصحفي الخيواني وإيقاف صحيفة الشورى والاستيلاء على المقر الرئيسي للحزب بالعاصمة صنعاء. وهكذا ضاقت الدائرة وعشنا الشتات من داخل الوطن.

عاش المداني آخر حياته وهو يكابد العيش وقد تنكر له الصحاب وغدر به الزمان. لكنه لم يرضخ للإغراءات أو يقبل بالحلول الوسط. وظل كما عهدناه وعرفناه وفيا للمبادئ والقيم التي عاش مجاهدا في سبيلها، ومات مقاوما لكل انحراف قد يحيد به عنها.   

أقرأ أيضا للكاتب: صبري: ثورة 21سبتمبر أعادت الاعتبار لـ 11 فبراير التي حرفت المبادرة الخليجية مسارها

*عبدالله علي صبري

سفير الجمهورية اليمنية بسوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى