الكلكتابات فكرية

الجهل حاضن التعصب

 

 

 

الجهل حاضن التعصب

أ . زيد بن علي الوزير
من خلال البحث عن تاريخ واسباب التعصب المذهبي توصلت إلى أن الجهل هو السبب الرئيس في احتضان ونمو التعصب، فقد أدى الانغلاق على تيار واحد إلى الجهل بما عند الأخر. ومن ثم الاعتقدر باحتكار الصواب كله، وعندئذ اشتعل التعصب واستطار، وإذا امعنا النظر وجدناهما معا حالة مرضية واحدة لا انفصال بينهما قط، فلا تجد متعصبا إلا وهو يجهل ما عند الآخر، ومن ثم يظن في نفسه أنه وحده يملك الصواب، وهو بجهله هذا يكشف عن جهل عميق.
أدت ظاهرة امتلاك الصواب إلى رفض ما عند الآخر حتى لو استبان له صحة رأي آخر، فإنه في هذه الحالة يندفع تلقائيا لمقاومته وصده، لأنه يحس ان تحصيناته –التي عاش وراء اسوارها زمنا- تتداعى للانهيار، فيقاوم ويرفض اي جديد، وهذا نوع آخر من أنواع الجهل بفوائد ما عند الآخر من امكانيات قد تثري رأيه، ولكنه في هيمنة التعصب لا يجيب أن يرى أو يقر بشيء شيئا مفيد من سواه وعن غير طريقه فما عنده بسبب اعتقاده أنه يملكه بالوراثة المنغلقة يرفض ما سواه ويعده عدوانا على الشرعية.
تلتقي المِلْكية التمذهبية والمِلْكية السياسية حول نقطة رئيسية هي: الاستئثار بالرأي الواحد؛ بتمثيل الحق المطلق؛ بصاحب الفرقة الناجية. وكما يهبُّ الحاكم الفرد في مقاومة اي اصلاح داخل نظامه المطلق حتى لو كان لتطويره، كذاك يهب المتمذهب لمقاومة اي تصحيح لرأيه المطلق، حتى لو كان لصالحه، مع العلم لو أن الفردي استفاد بما عند الآخر لربما طور حكمه، ولكن أنانيته المفرطة- والانانية جهل عقيم وتعصب مقفل- لا تريه مناهج الصواب الأخرى، لأن الصواب هو ما يراه هو ويحتفظ به.
وبنفس الأسلوب يتصرف المتمذهب فهو يعتقد بأنه يملك الصواب كله، وأن غيره على ضلال مبين. ولأنه لا يعتقد -بسبب جهله- بأن امتلاك الصواب كله مستحيل- فقد تقوقع على هذا الفهم المعلق والمظلم. وكلاهما الفردي والمتمذهب يشهران تفس السلاح فالفردي يشهر سلاح الباغي على خليفة الله في وجه المصلح، والمتمذهب يشهر سلاح الكفر في وجه الباحث عن الحقيقة.
وهكذا تعمق التكفير وما يسمع اليوم من التنابز بالتكفير، والتباهي بالذبح في اجواء العالم الاسلامي من اصداء موبقة ما هو الا نتيجة تراكمية لعدة أسباب مجتمعة سياسية واجتماعية واقتصادية، ليس مجلل صبّ في هذا الاتجاه وفتح الباب لهذه النتيجة المرة، فكان تحريمه بمثابة اطفاء نور العقل لصالح إحياء رغبات الفريزة المتوحشة المتعصبة، وكانت النتيجة أن تضائل دور الحوار وتعالى صوت التعصب.
شاهد العلامة الرحالة “المقدسي” (ت380ه/ 990م/) في تطوافه في البلدان الإسلامية شدة اشتعال التعصب، وسمع ازيز النار في اكثر من بلد، وبين اكثر من مذهب، حيث التقى في كل اقليم زاره بمذاهب سادها الجهل والتعصب كأن الأرض قد فرشت حقدا وبغضا، وازاء هذه الفاجعة ارجع السبب إلى الجهل: (اعلم أن هذا التعصب الذي ترى إنما ثورة الجهال والمتسرفون في القصص وغيرهم) .
لنرى الأن حالة الجهل والتعصب في الواقعة التالية التي واجهها العلامة المقدسي أثناء تطوافه ، فقد وصف له رجل زاهد متعبد وهو في أصفهان، فقصده الرحالة إلى محله، ووجد عنده ما رواه (وصف لي رجل بالزهد والتعبد فقصدته وتركت القافلة خلفي، وبت عنده تلك الليلة وجعلت اسائله، إلى أن قلت: ما قولك في الصاحب [ابن عباد]؟ فجعل يلعنه، ثم قال أنه اتانا بمذهب لا نعرفه؟ فقلت: و ما هو؟ قال: يقول أن معاوية لم يكم مرسلا، قلت: وما تقول انت؟ قال اقول كما قال الله عز وجل {لا نفرق بين احد من رسله} أبو بكر كان مرسلا، وعمر كان مرسلا حتى ذكر الأربعة، ثم قال: ومعاوية كان مرسلا، قلت: لا تفعل أما الأربعة فكانوا خلفاء، و معاوية كان ملكا، وقال النبي (ص) الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكا، فجعل يشنع علي، وأصبح يقول للناس هذا انسان رافضي فلو لم ادرك القافلة لبطشوا بي) .
هذا مثل لحالة طغيان الفقه المتعصب، الذي ادى إلى سلسلة من المذابح الدموية بين كل المذاهب الإسلامية، وشكل بؤرة نار لم ينطفئ أوارها بعد.
زلم يتوقف التعصب عند حال بل والى خطاه حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. في البداية كان الاختلاف هو السائد، وبه نمى الفقه واخصبت ثماره، ولكنه ما لبث يفعل عوامل عدة أن تحول من حالة اختلاف إلى خالة خلاف، فسقطت أوراقه، وتيّبست أعواده، وجفت ثماره.
في القرن الثاني الهجري/ 8م كان المنهج العقلي ينمو، وكان التسامح باسطا جناحيه، وفي قصة المسترشد الذي جاء إلى الحافظ عمرو بن مرة (ت 116 او 118ه/734أو 736م) ما يدل على توسع المسافة بين الاختلاف والخلاف إلى حد فاجع، فقد جاء اليه مسترشد ضائع التوجه بسب اختلاف المذاهب وتأويلاتها (فقال عافاك الله جئتك مسترشدا : اني رجل دخلت في جميع هذه الأهواء[المذاهب] فما ادخل في هوى منها إلا القرآن أدخلني فيه، ولم اخرج من هوى إلا القرآن اخرجني منه حتى بقيت ليس في يدي شيء. قال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلا هو أنك جئت مسترشدا؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد جئت مسترشدا، قال: نعم أرأيت انهم اختلفوا في القرآن أنه كماب الله؟ فقال: لا، قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإيلام؟ قال: لا، قال فهل اختلفوا في الكعبة انه القبلة؟ قال: لا قال: في اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال :لا، قال فهل اجتافوا في رمضان انه شهرهم الذي يصومونه. قال: لا، قال: فهل اختلفوا في الحج إلى بيت الله الذي يحجونه؟ قال: هل اختلفوا في الزكاة وأنها من مأتي درهم خمسة؟ قال: لا فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنه واجب؟ فقال: لا ، قال فذكر هذا واشباهه ثم قرأ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }قال فهل تدري ما لمحكم؟ قال: لا قال فالمحكم ما اجتمعوا عليه والمتشابه ما اختلفوا فيه شد نيتك في المحكم واياك والخوض في المتشابه) .
لم يعد هذا الصوت المضيء يرجع صداه في انحاء العالم الإسلامي، وانما استفرد السيف والنار بالحوار ، وأُحرق من أحرق بنار صلصل عاتية، وشُنق من شنق على أعواد عالية، وأغرق من اغرق احياء في آبار عميقة، ودُفن من دفن في مطابق مظلمة. إن الفارق الزمني بين اوائل القرن الثاني و بين القرن الخامس لمفجع جدا.
(2)
للخروج من دائرة النار هذه دعونا نتفق على قاعدة متينة لا نخرج عنها، ونتفق على صوابها، ونقيس اعمال الناس عليها، وهي أن أركان الإسلام ثلاثة:
1. الايمان بالله. 2- الايمان بالرسل، 3 – الايمان باليوم الآخر،
فمن أمن بها ورسله واليوم الأخر فهو مسلم لا يجوز تكفيره، أما دون هذه الأركان فهي فروض واجبة لو اخل أحد بأحدها عصيانا- لا نكرانا- فهو مسلم، له عليه احكام معينة؛ فالزاني يسمى زان، ولكنه يظل مسلما، وشارب الخمر يسمى خميرا ولكنه يظل مسلما، وكذلك بقية الفروض الواجبة، لها احكامها الإسلامية، اما الذي يخرجه من الاسلام فهو عدم الايمان بواحد من تلك الأركان الثالثة، او الكفر بالفروض الواجبة.
في اطار هذه القاعدة لو اتفق عليها فلن يجد سيف التكفير رقبة يقطعها، ولا قلبا ينتزعه، ولا جسما يسلخه مهما اختلف مع الآخر فالكل مسلم، والله هو الذي سيحكم فيما يختلفون فيه، فلندع لله ما هو له. ولنغمد السيف الذابح، ونشرع القلم المرشد والرشيد..

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى