الكلكتابات فكرية

ضمير امرأة عربية-

د. يوسف الحسن

عادت ريما خلف إلى منزلها مطمئنة النفس والضمير بعد أن كشفت الغطاء عن أسرار التكاذب الدولي في مؤسسات الأمم المتحدة.
امرأة عربية حرة تؤمن بالقيم والمبادئ الإنسانية وبكل قوى الخير في التاريخ.. قالت كلمتها في وضح النار.. وأمام أنظار العالم التقليدي والحديث.
صحيح أن التاريخ لم يخل أبداً من الكذب السياسي والتلاعب بالعقول وحجب الحقائق، لكن ما جرى للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني من إنكار للحقوق وتزييف لواقع الاحتلال العنصري الصهيوني على مدى سبعة عقود هو ظاهرة غير أخلاقية وغير إنسانية بكل المقاييس.

قالت ريما خلف كلمة حق: («إسرائيل» دولة فصل عنصري و«أبارتايد») وهذا ما جاء في تقرير بحثي مهني نزيه، أعده باحثان أمريكيان من جامعات مرموقة وصاحبا خبرة وتخصص في حقوق الإنسان هما (ريتشارد فولك) مقرر الأمم المتحدة الخاص بشؤون حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية (2008 – 2014
و(فرجينا تيلاي) الأكاديمية المتخصصة في مجلس جنوب إفريقيا لأبحاث العلوم الإنسانية.
ريما خلف الأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، والتابعة للأمم المتحدة، قالت كلمة الحق ففضحت المستور في أروقة الأمم المتحدة، وفي الكيان الصهيوني واستقالت من منصبها رافضة سحب تقرير لجنتها وللضغوط الممارسة ضدها. وكشفت أكذوبة استقلالية الأمم المتحدة وتورط موظفين أمميين كبار في لعبة الظلم الإنساني.
امرأة عربية حرة صاحبة ضمير حي قالت بشجاعة ما لم يجرؤ غيرها على التفكير به.
رفض ضميرها حينما استفتته حمل ذنوب التزوير وأكدت أن الأمم المتحدة تتحول إلى كذبة كبرى حينما يأتي الأمر إلى القضايا العادلة للشعوب، وبخاصة المسائل المرتبطة ب «البقرة المقدسة» المسماة «إسرائيل».
إن رفض الأمين العام للأمم المتحدة نشر التقرير النزيه والمهني هو رقابة صارخة على الأفكار والحقائق ولطخة عار في سجل هذه الهيئة الأممية التي خرجت من بطن حربين عالميتين مدمرتين وآلت على نفسها كما يقول ميثاقها على لسان شعوب الأرض: «أن تنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب» وأكدت «إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وجعلتها من مقاصدها».
ولعل ريما خلف تذكرت وهي تعود إلى منزلها ما جاء في الفصل الخامس عشر من ميثاق الأمم المتحدة (المادة المائة): «ليس للأمين العام ولا للموظفين في الأمانة العامة أن يطلبوا أو يتلقوا في تأدية واجبهم تعليمات من أية حكومة أو من أية سلطة خارجة عن هيئة الأمم المتحدة».
تذكرت السيدة العربية الحرة هذه المادة وتساءلت: أين هي النزاهة؟.. أين هو الضمير الإنساني؟
} } }
ريما خلف.. التي التقيتها في ندوة «الخليج» السنوية قبل سنوات في الشارقة شجاعة وحكيمة ومثقفة في آن، قالت في تلك الندوة: «إن استخدام مصطلح الأمة العربية أو الوطن العربي محظور في أدبيات الأمم المتحدة… والمسموح به هو «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» أو MENA 
«
مينا» فقط».
ترحمت على الأمين العام السابق للأمم المتحدة الكوري الطيب المهذب «بان كي مون» الذي شجع ريما خلف على تحمل مسؤوليات (الإسكوا)، وبقيت ريما خلف على رأس هذه المنظمة لسنوات طويلة، وقبلها كانت مديرة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP
والذي أصدر تقارير مهمة عن التنمية ومعوقاتها في «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا».
لا أحد نقد التقرير الأخير الخاص «بدولة الفصل العنصري» من زاوية الدقة والبحث، وإنما جاء الغضب الأمريكي والصهيوني لأن التقرير كشف المستور العنصري، والذي يعادل جرائم إنسانية صارخة.
في «إسرائيل» عشرات القوانين المماثلة لقوانين نظام الفصل العنصري الغارب في روديسيا وجنوب إفريقيا، ومن أسف أن بعض «جُهَّالنا» صدقوا أكذوبة تقول: «إن «إسرائيل» هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» وهي نفسها التي تتحدث وتعمل نهاراً جهاراً على تهجير واقتلاع وترحيل وعزل الفلسطينيين جغرافياً وانتهاك حقوقهم الإنسانية.
الجُهَّال الذين يمنحون ما يسمونه «الديموقراطية الإسرائيلية» تفوقاً على نظم عربية غير ديموقراطية يستخدمون مقياساً خاطئاً ومضللاً ويعطون «لإسرائيل» وأصدقائها في العالم غطاءً مجانياً لكل جرائمها بحق الإنسان والأرض والمستقبل العربي.
لكن السؤال هنا: ماذا يتعين على (18) دولة عربية هي أعضاء لجنة (الإسكوا) وعلى «السلطة إياها» والجامعة العربية «المشلولة» أن تعمل لتحويل هذا التقرير المهني والأخلاقي إلى قرارات وعقوبات تطال التاريخ والحاضر العنصري لهذا الكيال الصهيوني وما ارتكبه من جرائم حرب على مدى سبعين عاماً؟
الاستقالة وثيقة أممية تخاطب الضمير الكوني وتسأله عن تبريره لدفن رأسه في الرمال طوال العقود السبعة الماضية كما تُسائل الضمير السياسي العربي: «لماذا لا يحال هذا التقرير رسمياً إلى محكمة الجنايات الدولية؟».
سيمر غضبنا وانفعالنا العابر، لكن سيبقى صوت ريما خلف وموقفها الشجاع يلاحقنا ونرفع به رؤوسنا.
كيف يمكن تنمية الضمير والحيلولة دون ضعفه أو نومه؟
كيف نحيي الضمير لتحصين الإنسان ضد ضغوط الخيانة والعمالة والرشوة والفساد والكذب والغرور والتكبر.. الخ؟
كيف نُغذِّيه بأمصال الحق والواجب والنزاهة والخير والفضيلة؟ كيف نحصنه ضد فيروسات الكذب والحيلة والنفاق «والسير بجانب الحائط»؟
تذكرت لوحات فنية عالمية شاهدتها في متاحف في إسبانيا وفرنسا وسانت بطرسبرج في روسيا تحمل مسميات لها صلة بالضمير، شاهدت لوحة رسمها (سلفادور دالي) واسمها (ندم الضمير) وأخرى رسمها فنان فرنسي (فرنسوا شيفلار) في القرن التاسع عشر واسمها (الضمير ما بعد فكتور هوجو).
تذكرت حالة المثقف الحقيقي… ودوره في بناء الضمير الإنساني.. المبدع الذي يجعل حياة الناس أقل بؤساً وقسوة.
…. «
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب»…. من كان له ضمير أخلاقي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى