الكلكتابات فكرية

ثلاثة سيناريوهات للسودان

يعيد السودانيون إنتاج “سيرة الربيع العربي” كما تجلّت في بواكيره الأولى … والمؤسف أنهم قد يعيدون إنتاج بعض فصول مشهده الختامي عندما توقف على عتبات دمشق وطرابلس الغرب، إن لم تستيقظ قيادته السياسية على خطورة ما يعتمل تحت السطح في هذا البلد المنكوب بصراعاته الداخلية، وصراعات الآخرين عليه.

القصة بدأت كما في تونس ومصر وغيرهما: ضائقة اقتصادية، مطالب اجتماعية، خبز وكرامة وحرية، لتنتهي إلى مطالب برحيل النظام واستحداث التغيير الجذري … الحراك يبدأ عفوياً وغير منظم، ثم تلتحق به القوى المنظمة من نقابات وجمعيات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني … الحكم يقلل من شأن المسألة في البدء، ثم يوغل في “حالة الإنكار”، قبل أن يتنبه بعد فوات الأوان إلى حقيقة أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء … ألم نشهد هذا الفيلم في عواصم عربية عدة خلال السنوات الثمانية الفائتة؟

أين يتجه السودان، أين من هنا؟

حتى الآن، لا أستطيع التفكير بأكثر من واحدٍ من السيناريوهات التالية:

الأول؛ أن ينجح الرئيس البشير في احتواء الموقف، كما تقترح بعض الدراسات والتقارير، مستنداً إلى خبرته في إدارة الشأن المحلي، واستناده لحزب سياسي ما زال يحظى ببعض النفوذ، وشخصيته “المقاتلة” التي لا تتراجع ولا تستلم بسهولة، وقدراته على مخاطبة الجماهير العريضة، مما لم يتوفر لكثيرين من أقرانه … كما أن الرئيس البشير وصحبه، يراهنون بلا شك على نجاحاتهم في بناء علاقات وطيدة مع بعض العواصم والمراكز الإقليمية الدولية، على الرغم من صراعتها البينية المحتدمة، فهو نجح في بناء أوثق الصلات مع تركيا وقطر في الوقت الذي انخرط فيه بقوة في التحالف العربي ضد اليمن إلى جانب السعودية والإمارات، وهو يقيم علاقات وثيقة مع القاهرة برغم التقلبات في المناخ السياسي بين البلدين، انفتح على واشنطن ويكاد يصبح حليفاً موثوقاً لها، وزار دمشق باسم مجموعة الاعتدال العربي على متن طائرة روسية … وهو إذ طلّق إيران بالثلاثة بعد “شهر عسل طويل”، انفتح على إسرائيل وشرع في تأسيس علاقات “من تحت الطاولة” معها، سمحت لخطوط “العال” بعبور الأجواء السودانية في رحلاتها الأفريقية.

الثاني؛ ألا يستطيع النظام توظيف واستثمار “نجاحاته” الخارجية، إن جاز لنا وصفها كذلك، في تثبيت دعائم حكمه، بسبب إخفاقاته في السياسة الداخلية: ضائقة اقتصادية، هيمنة الحزب الواحد، استطالة عمر النظام لأكثر من ثلاثين عاماً (والباب مفتوح لولاية جديدة)، فضلاً عن المشكلات والصراعات الداخلية المتراكمة من انفصال الجنوب، إلى الأزمات المتراكبة في دارفور وكردفان وغيرهما … هنا كما تدلل التجربة التاريخية المتراكمة في العديد من الدول: النجاح في حقل السياسة الخارجية لا يغني عن النجاح في حقل السياسة الداخلية … وقد يملي وضع كهذا، إلى اضطرار الرئيس لتسليم الحكم للجيش، وإعلان حالة طوارئ وأحكام عرفية، مقابل ضمانات وشروط معينة، ويرجح كثيرون هذا السيناريو، وربما ترى فيه أطراف إقليمية حلاً أفضل من وقوع السودان في الفوضى الشاملة.

الثالث: سيناريو الفوضى غير البناءة، كأن تتصاعد المواجهات وتتواصل، وتتخذ أشكالاً دموية عنيفة، أو أن يتصرف الجيش بوجود البشير أو بعد رحيله، على نحو فظ، يستفز قوى وأحزاب واثنيات وقبائل وجهويات، لامتشاق السلاح، تستدرج تدخلات إقليمية ودولية … عندها سيدخل السودان في مربع الفوضى الشاملة، المفتوحة على شتى احتمالات الانقسام والتقسيم، بل وتحوّله إلى وجهة للإرهابيين المنتشرين على مقربة منه في أفريقيا (سيناء، ليبيا، مالي ونيجريا وغيرها)، أو الذين يبحثون عن ملاذات آمنة بعد سوريا والعراق وستصبح مساحات واسعة من القارة السمراء، ملعباً لمختلف المنظمات والفصائل الإرهابية.

السودان دخل في الأزمة، ومن الآن وصاعداً سنتحدث كثيراً ن “الأزمة السودانية”، وهي تطلق تفاعلات وديناميات إقليمية ودولية جديدة، وتعيد “تموضع” السودان في حسابات وأولويات عواصم عديدة … وما لم يتصرف النظام والمعارضة والجيش بحكمة وتعقل، فاقرؤوا على السودان السلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى