ثقافة وسياحة

معين بمحافظة الجوف.. مملكة البخور في الشرق القديم

معين بمحافظة الجوف.. مملكة البخور في الشرق القديم

من المعروف أن السبئيون كانوا خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد يفرضون سيطرتهم على بقية ممالك اليمن القديم (معين، قتبان، حضرموت، أوسان) وكانوا يقيمون علاقات مع الآشوريين تميزت تارة بالعداء– في عهد تجلات بلاسر الثالث 744-727ق.م و سرجون الثاني 722-705ق.م) وتارة بالصداقة في عهد (سناخ كريب 705-681). ويتضح من خلال النقوش والاكتشافات الأخيرة بأن السبئيين كانوا في هذه الفترة يسيطرون على تجارة قوافل البخور مع الشرق القديم والتي كانت متركزة على بلاد الرافدين.

أما المعينيون فقد كانوا موجودين في مدينة قرناو (وادي الجوف حاليا) بحسب ما وصل إلى الآن من النقوش المكتشفة…. منذ القرن الثامن قبل الميلاد…. والتي تفيد بأنهم أسسوا في البداية (مدينة المملكة / دولة المدينة) كما هو واضح في النقش (YM 2009)، وأقاموا مملكتهم منذ بدايات القرن السابع قبل الميلاد، كما يتبين من خلال النقش (Ma 102) والنقش (Ma 101) ، والذي ظهر دورهم في التجارة بشكل مؤكد إبتداءً من النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، كما هو واضح من خلال النقش (B-L Nashq) الذي قام بنشره فرانسوا برون وأندريه لومير، وهو مكون من 26 سطر، مدون باللغة السبئية، تم العثور عليه في موقع نشق القديم –البيضاء حاليا في الجوف.  النقش نذري مقدم من أحد سكان مدينة نشق في الجوف للمعبود إلمقه عرفانا له برجوعه بالسلامة بعد مشاركته القوات السبئية في حملتها التأديبية على كل من  )ديدان، ولحيان وغزة، ومدن يهودا، وفي أراضي الكلدانيين في بلاد الرافدين) في عهد يدع إيل بيّن ابن يثع أمر ملك سبأ.  يعود تاريخ النقش إلى حوالي النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد.

لقد أثار نشر هذا النقش، تساؤلات جديدة حول منشأ المعينيين وتاريخ ظهور مملكتهم وعلاقاتهم التجارية مع شمال جزيرة العرب وبلاد الرافدين وفلسطين. الأمر الذي دفع عالم الآثار الإيطالي (الساندرو دي ميجريت) إلى الاعتقاد بأن منشأ المعينيين (معونيت) في العهد القديم اليوناني هو شمال جزيرة العرب، وبالتحديد منطقة معان موطن (الأدوميين) قديما – الأردن اليوم – وفي صحراء سيناء حاليا، ويدعم رأيه هذا … بأن المعينيين غائبون من نقوش براقش حتى القرن السادس ق.م. وهم أيضا غير موجودين في المصادر الخارجية والسبئية في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وبحسب رأيه كانت مملكة سبأ هي الوحيدة المسيطرة على تجارة اللبان حتى القرن السادس ق.م.

أما عالم الأثار والنقوش اليمنية القديمة (الفرنسي كريستيان روبان): فيعتقد بأن منشأ المعينيين هو بالقرب من جوف اليمن، فقبيلة معين بحسب رأيه، كانت ضمن الاتحاد القبلي المهأمري ومركزها الأساسي نجران، ثم استقلت عنها وانتقلت إلى جوف اليمن لتشكل مملكة معين ولهذا السبب كانت العلاقات دائما وطيدة بين نجران ومعين. ويعتمد روبان بذلك على أن أول نقش سبئي يذكر فيه معين هو النقش (RES 3943) حيث كانت معين متحالفة مع (مهأمر وأمير ويثل –  براقش حاليا) الذين تعرضوا جميعا لهجوم سبئي في حوالي نهاية القرن السابع قبل الميلادي وبقي التحالف بين معين ومهأمر وأمير ونجران حتى القرن الأول قبل الميلاد، تاريخ اندثار مملكة معين من الساحة السياسية.

إلا أنه ومن خلال الاكتشافات الأثرية الجديدة يتضح لنا أن جميع تلك الآراء كانت غير موفقة وقد جانبها الصواب.

فمن خلال النقش (YM 2009) الذي يذكر ويؤكد لأول مرة وبشكل واضح أن منشأ المعينيين، وتاريخ ظهور مملكة معين كمملكة مستقلة كانت في الربع الأخير من القرن الثامن ق.م. في حاضرة قرناو في (وادي الجوف اليوم) ….  أيضا يذكر هذا النقش حكام معين إلى جانب حكام سبأ ونشان (السوداء حاليا).  وذكر حكام معين مع حكام سبأ ونشّان يزيل الشك والغموض حول منشأ وتاريخ ظهور مملكة معين.  فهذا النقش يشير وبوضوح إلى أن معين كانت (مدينة – مملكة) مستقلة سياسيا، ولها نفس الثقل السياسي كبقية (مدن – ممالك) الجوف.

وفي أغلب الاحتمالات كانت معين متحالفة مع سبأ ونشان في ذلك الوقت واستمر هذا التحالف حتى نهاية عهد المكرب السبئي كرب إيل وتر بن ذمر علي ذرح الذي حكم في النصف الأول من القرن السابع ق. م.  ويمكن تفسير عدم ذكر معين في نقش النصر (RES 3945) وفي نقش يثع أمر في صرواح (Ṣirwâḥ 2005-50) بأن معين كانت متحالفة مع سبأ، أو على الأقل أنها لم تكن تشكل أي خطر عليها في السيطرة على طريق القوافل الذي كان يمر في وادي الجوف، بينما تعرضت نشاّن لحملات عسكرية سبئية في عهد كرب إيل وتر بسبب محاولتها توحيد مدن الجوف والوقوف ضد الزحف السبئي للسيطرة على بقية الممالك اليمنية القديمة، وكما هو معروف، فإن مملكة سبأ كانت في الواقع مسيطرة على تجارة البخور في القرنين الثامن والسابع ق.م.

ويمكننا بفضل هذا النقش (YM 2009) تفسير سبب تقديم الملك المعيني وقه إيل بن إيل يفع نقشا نذريا باللهجة السبئية في معبد ودّ ذو مسمعم بالقرب من مأرب، في أواسط القرن السابع ق.م. .. بأن معين كانت حينئذ متحالفة مع سبأ أو ضمن السيطرة السبئية.  ولدينا أيضا نقشان جديدان يؤكدان استمرار التحالف مع سبأ وهما النقش (معين( 102  من عهد أبي يدع يفش بن نبط إيل  الذي يذكر تحالفه مع يدع إيل –مكرب سبأ ، والنقش (YM 11191) من السوداء من عهد ملك وقه  )الثاني(  ملك نشان المتحالف أيضا مع يدع أب يفش – المعيني – الذي هو في أكثر الاحتمالات أبي يدع يفش المذكور في نقوش معبد نكرح في موقع قرناو.

يظهر من خلال النقوش التي تركها لنا ملوك معين خلال القرن السابع ق.م. بأن تحالف مملكة معين مع سبأ استمر حتى نهاية القرن السابع ق.م. وأن هذه النقوش لا تذكر أي اتحاد قبلي مع يثل وهذا ما تشير إليه بشكل خاص الدعوات في آخر النقوش إلى آلهة معين فقط دون ذكر آلهة أخرى.  وظهرت عبارة آلهة معين ويثل بعد الأحداث المذكورة في النقش (RES 3943) الذي يعود الى نهاية القرن السابع ق.م.  أيضا يظهر من خلال هذا النقش  بأن حكام سبأ الذين خلفوا كرب إيل وتر قد تابعوا السياسة التوسعية وذلك بمحاولتهم السيطرة على طريق البخور وذلك من خلال التحالفات أو الحملات العسكرية، وهذا ما حدث مع مملكتي معين ومهأمر .

فالتحالف بين معين وسبأ قد انفسخ وانقلب إلى عداوة مع سبأ التي قامت بحملة عسكرية ضد معين ويثل – براقش حاليا-  وضد مهأمر وأمير في منطقة نجران. والجدير بالذكر هنا بأن يثل كانت حتى القرن السابع ق.م.  ضمن السيطرة السبئية، وهذا ما تشير إليه النقوش السبئية التي عثر عليها في براقش، إلى جانب ما أظهرته نتائج التنقيبات الأثرية الخاصة بالبعثة الأثرية الإيطالية في الموقع نفسه.

أقرأ أيضا:اليمن بلد حضاري يستحق أن يدرج كله في قائمة التراث لا قائمة الدمار.. معبد أوام نموذجا

*خالد الحاج

من صفحة الكاتب على الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى