أخبار عربي ودولي

الاطماع البولندية في أوكرانيا

الأطماع البولندية في أوكرانيا

صوت الشورى الخميس 30ديسمبر2022 ــ تكررت خلال الفترة الأخيرة تحذيرات أجهزة الاستخبارات الروسية ومسؤولين روس، من أنّ بولندا تعتزم ضمّ مناطق غربي أوكرانيا إليها مستغلّة وضع الحرب الدائرة هناك.

وفي وقت سابق الأربعاء، أكّد رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين أنّ “القيادة البولندية تعتزم إجراء استفتاءات غربي أوكرانيا لتبرير مطالباتها بالأراضي الأوكرانية”، وذلك “من أجل إضفاء الطبيعة الشرعية لعمليات الاستحواذ على الأراضي المخطط لها مسبقاً، واقتباساً من التجربة الروسية مع سكان وحكام لوغانسك ودونيتسك”.

ووفقاً له، فإنّ الأجهزة الاستخباراتية البولندية “سرّبت لوسائل الإعلام الأوكرانية معلومات بشأن الإعداد المزعوم لاستفتاء في منطقة لفوف الأوكرانية، بشأن الانضمام إلى بولندا”، مرجحاً أن تقوم وارسو “برصد وتحليل ردود أفعال المؤثرين الإقليميين المهمين والمواطنين العاديين”.

وتسرّع وارسو من استعداداتها لضمّ أراضي لفوف وإيفانو فرانكيفسك، ومعها معظم مناطق ترنوبل الأوكرانية، إذ كشفت صحيفة “زينيك” البولندية في وقت سابق هذا الشهر، أنّ “خطط بولندا بشأن غربي أوكرانيا لم تعد سريّة منذ فترة طويلة”، كاشفةً أنّ “وارسو بدأت فعلاً مرحلتها الأولى عبر إدخال الكتيبة البولندية لأوكرانيا من أجل القتال كمرتزقة أجانب، وإشراك النساء في عملياتها”.

بولندا تنفي.. وأرض المعركة في أوكرانيا تؤكد

ولكنّ هذه الخطط، التي تنفيها بولندا بشكل تام بشكل متكرر، كان يفترض أن تكون سرية، وأكّدت وسائل إعلام أنّ كشفها من قبل الاستخبارات الروسية أدّى إلى إحراج وارسو أمام حلفائها الغربيين واضطرّها لتقديم تفسير حول مدى صحّتها.

بينما في العلن، تنهج بولندا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي منذ 1999 وفي الاتحاد الأوروبي منذ 2004، مساراً متقدّماً في دعم كييف وتسعير الحرب مع روسيا، بشكل متقدّم على معظم الدول الأوروبية الشرقية منها والغربية. وتعتبر بولندا البلد الأوّل الذي يستضيف اللاجئين الأوكرانيين، إذ بلغ عددهم نحو 7 ملايين لاجئ أوكراني عبروا حدودها منذ شباط/فبراير الفائت.

كما تتحمّل بولندا الثقل المباشر الأكبر للأزمة الأوكرانية بين الدول الأوروبية، إذ فتحت مطاراتها وأراضيها لآلاف المقاتلين الأجانب، الذين يتمّ تجنيدهم للقتال في أوكرانيا مع لواء المرتزقة الدوليين الذين أعلن الرئيس الأوكراني تأسيسه منذ أشهر، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر أمنية وضغط على البولنديين وأمنهم.

وتستمرّ بولندا يإعلان دعمها المفتوح لكل الأعمال العدائية التي تقوم بها كييف ضد روسيا، لا سيما عبر التدريب العسكري للمقاتلين الأوكران والأجانب، وفي تأمين استمرار تدفق الأسلحة الغربية والمقاتلين إلى أوكرانيا عبرها، كما تتواجد بعثات عسكرية وفرق تدريب أجنبية مختلفة في مناطقها الحدودية، وتعجّ مستشفياتها بجرحى الحرب.

وشكّلت التقارير الأخيرة التي تحدّثت عن مشاركة آلاف العسكريين البولنديين في الحرب بشكل مباشر، وانتشارهم في عدة مناطق أوكرانية من لفيف إلى زاباروجيا، ومقتل العديد منهم خلال الاشتباكات مع القوات الروسية والقصف، تتويجاً لمسار التصعيد، خاصة إنّ التقارير تحدّثت عن عسكريين حاليين وسابقين يشاركون في الحرب بتصريح أو تغاضٍ مباشر من الحكومة في وارسو، قد تهدف إلى تأمين موطئ قدم لأي تحرّك بولندي نحو ضمّ مناطق أوكرانية.

علاقات تاريخية دموية على مدى قرون

لكن العلاقات البولندية الأوكرانية لم تكن تاريخياً بهذا الشكل الظاهر من الود والصداقة مع كييف، إذ يتحمّل البلدان عبئاً دموياً ثقيلاً يعود إلى مئات السنين.

فقد ظهر الكيانان السياسيان الذان يعتبران أصلي البلدين الحاليين بولندا وأوكرانيا ككيانين سياسيين منذ نحو 10 قرون، وتميزت العلاقة بين البولنديين و”كييفان روس” الغزوات المتبادلة، عبر المواجهات المباشرة أو عبر وكلاء، وكذلك عرفت العلاقة بينهما إنشاء تحالفات مضادة لهدف أساسي أمني واقتصادي.

وبحلول منتصف القرن الـ14، كانت الأراضي الأوكرانية بمعظمها، لا سيما المناطق الغربية والوسطى، تحت حكم “مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا الكبرى”، الكيان السياسي الذي سيطر على جزءٍ كبير من المنطقة الحالية التي تشغلها بولندا وليتوانيا، وحكمها النبلاء البولنديون والليتوانيون، لكنّ الوزن الأكبر كان لبولندا في المملكة منذ تأسيسها،وتثبت نفوذها بشكل رسمي مع إنشاء “اتحاد لوبلين”، عام 1569.

وخلال القرن الـ16، تأسست “قيصرية موسكوفي” الروسية على يد القيصر إيفان الرابع عام 1547 وتوسّعت شرقاً وجنوباً تدريجياً بالاعتماد بشكل أساسي على التتار وكوزاك زابوروجيا جنوبي أوكرانيا.

وقد خضعت الأراضي الزراعية الخصبة غربي أوكرانيا الحالية إلى سيطرة المملكة البولندية، بينما تصارعت مع موسكوفيا خلال حروب عدة لاحقة على حكم الأراضي الجنوبية. وكانت بولندا تقوم على الإقطاع الزراعي القاسي، إذ ملكت 2000 عائلة بولندية من “النبلاء” نحو 3 ملايين قنّ زراعي (عبودية معدّلة) من غربي أوكرانيا وشماليها.

وفي مطلع القرن الـ17، استغلت بولندا غياب الاستقرار السياسي في موسكو بعد موت القيصر فيودور لتتحالف مع كوزاك الجنوب وتمدّ سيطرتها على معظم أوكرانيا الحالية، وليصبح سكان أوكرانيا بغالبيتهم إما عبيداً زراعيين عند النبلاء البولنديين، وإما جنوداً في الجيش البولندي.

الملاك البولنديون والعبيد الزراعيون الأوكران.. ذاكرة ما تزال حاضرة

بعد هذه النقطة، وبالرغم من استعادة الروس لقوتهم السياسية وسطرتهم على شرقي الدنيبر وتوسع نفوذهم السياسي إلى بولندا نفسها التي حكمها ملك موالٍ لروسيا، ولكن على المستوى الاجتماعي كان الوضع صعباً جداً على الفلاحين الأوكرانيين.

ففي تلك الفترة، كان يمكن اختصار الهيكلية الاجتماعية-الاقتصادية لسكان أوكرانيا بأنّ هناك مجموعة من البولنديين النبلاء الكاثوليك، الذين ينحدر البعض منهم من أصل أوكراني وتمكنوا من شراء مرتبة اجتماعية رفيعة وتحوّلوا إلى بولنديين على مدى عقود، يتبعون الكنيسة الرومانية، ويملكون عائلات أوكرانية من الفلاحين الأرثوذوكس الذين يعملون بشكل متوارث في قطعة أرض محددة.

وقد استمرّ هذا الشكل الاجتماعي-الاقتصادي في أوكرانيا، بشكل أو بآخر ومع اختلاف  بحسب هوية الحكم، حتى أواخر القرن التاسع عشر، بعد إلغائه بشكل رسمي في 1848 في بولندا ومن بعدها بسنوات في روسيا.

وبالرغم من إلغاء نظام العبودية الزراعية، لكنّ آثار هذه العلاقة غير المتوازنة بين البولنديين والأوكرانيين على المستوى الاجتماعي لم تنتهِ، بل استمرّت في تأجيج غضب الأوكرانيين ضدّ ملاّك أجدادهم ووصلت آثارها إلى فترات قريبة، وأسهمت بشكل كبير في تصاعد تيار مؤيد لروسيا بين الأوكرانيين أثمر توجهاً ثقافياً نحو روسيا وأدباً مكتوباً بلغة أوكرانية-روسية، أواخر القرن الـ19.

ولكنّ هذه الضغينة تجاه البولنديين أسهمت كذلك، مع جملة عناصر أخرى، في تشكّل النزعة القومية الأوكرانية الفاشستية، التي تبلورت مع تنظيم القوميين الأوكرانيين مطلع 1900، لا سيما مع استمرار التمييز الاجتماعي من قبل البولنديين بحق الأوكران.

تفاقم العداء البولندي الأوكراني بعد الحرب العالمية الأولى

بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد بين عامي 1918 و 1920، أدّت الحرب البولندية/الأوكرانية-السوفيتية إلى نتيجة غير حاسمة، وأدت إلى تقسيم أوكرانيا بين بولندا والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا.

وفي الواقع، كان التمييز على أساس الجنسية والدين عام 1921 يضغط بشكل كبير على الأوكرانيين في الأراضي التي تحكمها بولندا، وعلى الرغم من قبول قوات الحلفاء في عام 1923 ضمّ بولندا لغاليسيا الأوكرانية، والتي يطلق عليها رسمياً “بولندا الصغيرة الشرقية” وتدار من قبل حكام تعيّنهم وارسو، تمّ إنشاء حدود إدارية داخلية خاصة “سوكهال”، بين غاليسيا وفولينيا، لمنع انتشار الدعاية والثقافة الأوكرانية من غاليسيا إلى الشمال الشرقي.

ولاحقاً، أظهر البولنديون حجم احتقارهم للثقافة الأوكرانية، فعام 1924 تمّ إلغاء اللغة الأوكرانية من استخدامها في مؤسسات الدولة والوكالات الحكومية، ومنع التداول بها في الأماكن العامة، وأدى الركود الاقتصادي وضعف الصناعة والاكتظاظ السكاني الريفي الهائل في الجانب الأوكراني إلى تشجيع الحكومات لعودة الاستيطان الزراعي البولندي، مما أدى إلى تفاقم التوترات العرقية.

تسارعت الأنشطة القومية الأوكرانية في نهاية عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، مع ازدياد قمع البولنديين، وصولاً إلى حملة عام 1930 من قبل الجيش والشرطة البولنديين، والتي أدت إلى العديد من الاعتقالات والوحشية والترهيب وتدمير الممتلكات.

الحرب العالمية الثانية: مجازر وتطهير عرقي وتهجير

أدّى الصراع بين بولندا والاتحاد السوفياتي، وضمنه أوكرانيا، إلى تسعير القتال بين الطرفين على عناوين مختلفة، لكنّها في حقيقتها تعود بشكل كبير إلى الضغائن التاريخية بين الشعبين.

ففي العام 1943، ارتكب القوميون الأوكرانيون”، أعضاء جيش المتمردين الأوكراني المعروف بفصيل “بانديرا”، مجازر جماعية بحق القرويين البولنديين في فولهينيا عام 1943، وفي شرق غاليسيا عام 1944، وذكرت المراجع البولندية أنها أودت بحياة ما بين 70000 و 100000 شخص.

كان الأوكران المتطرفون يقومون بعمليات “تطهير عرقي” للمنطقة، بهدف منعها من أن تصبح بولندية مرة أخرى، هؤلاء هم نفسهم الذين تحتفي اليوم الحكومات الأوكرانية والغربية بهم في مواجهة روسيا وتعاملهم كأبطال.

بالمقابل، قتلت المقاومة البولندية مئات من الفلاحين القرويين ووجهاء منطقة تشيم الأوكرانية، في أعمال انتقامية لمجازر فولهينيا، راح ضحيتها ما بين 20000 و25000 أوكراني.

كما أعقب الحرب طرد ما يصل إلى 800 ألف بولندي مما يعرف الآن بغربي أوكرانيا، وطرد 500 ألف أوكراني من شرقي بولندا، ضمن عملية إعادة توطين أقرّها رئيس الاتحاد السوفياتي جوزف ستالين، أعقبها ترحيل 100000 أوكراني إضافي يعيشون في بولندا عام 1947 لإسكانهم في الأراضي التي تمّ تحصيلها من ألمانيا.

انهار الحكم السوفياتي في بولندا عام 1989، وخرج آخر جندي سوفياتي منها عام 1993، لتتحول بعدها نحو دولة عضو في “الناتو” عام 1999، وعضو في الاتحاد الأوروبي عام 2004، كما دعمت بشكل أساسي إقرار معاهدة الشراكة الأوروبية التجارية، والتي كانت السبب الرئيس في انقلاب الحكم في أوكرانيا نحو أعداء روسيا عام 2014، عندما رفض الرئيس يانوكوفيتش توقيع المعاهدة.

عودة بولندا إلى الواجهة.. على حساب أوكرانيا

شكّلت الحرب في أوكرانيا فرصة كبيرة لبولندا لاستعادة دورها السياسي التاريخي كلاعب أساسي في منطقة شرق أوروبا، تكاد تكون الفرصة الأكبر منذ نحو 3 قرون.

وأِشارت تقارير مؤخراً إلى أنّ بولندا “تقوم الآن ببناء ما سيصبح القوة البرية الأكبر في الاتحاد الأوروبية، متخلّيةً بذلك عن الاعتقاد السائد في معظم أنحاء أوروبا بأنّ الحرب التقليدية هي شيء من الماضي”، وأنها طلبت أسلحة بمليارات الدولارات لإعادة تشكيل الجيش الأكبر في أوروبا بأجمعها بنهاية العام 2035، مراهنةً كذلك على قوة حضور “الناتو” على أراضيها.

وفي سياق تاريخ بولندا وعلاقاتها بجيرانها، تبدو التقارير عن خوف يسري في دوائر كييف من “ثمن” ستدفعه أوكرانيا مقابل “كرم بولندا الاستثنائي” مع أوكرانيا في الحرب ضدّ روسيا منطقية، لا سيما بعدما الحديث عن نية وارسو إجراء استفتاء غربي أوكرانيا على الانضمام إليها، مما قد يعني أنّ القارة الأوروبية مقبلة على تغيّر كبير في المشهد السياسي وموازين القوى خلال العقد المقبل.

  المصدر :الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى