الكلكتابات فكرية

وجوه مختلفة !!

وجه (١)

* بين عام وآخر، تتذكر الإمارات واحداً من أبنائها، كلما جاءت ذكرى رحيله، وفي ذكراه في كل عام، تنشر «الخليج» صوراً له مع ساسة كبار، وتعدد فضائله ومناصبه، وتصف محطات من سيرته.

* أما ذكراه عندي، فكأنها ذكراه الأولى، استحضر فيها أيام الدراسة الجامعية، وشقاوة الشباب ونشاطهم، ورئاسته لرابطة طلبة عُمان، ومشاويرنا على طريق الجامعة، وشقته السكنية في شارع محمد مسعود بالدقي في القاهرة، ووطنيته الصادقة، وقلبه الشجاع الدافئ.

* أتذكر، كيف كان المرحوم تريم عمران، رابطة العقد بين الطلبة العرب، نتحاور ونضحك ونأسى، «نأكل» سياسة «ونشرب» سياسة، ونطرب مع صوت أم كلثوم، ونطير فخراً بجمال عبد الناصر، ونشتبك في جدل كلامي حول العروبة والوحدة وتحرير فلسطين. واستقلال الجزائر والجنوب اليمني، والاستعمار وأطماع شاه إيران، وحرب الأيام الستة الحزينة، ونتسامر في مقهى ريش مع أدباء وساسة وشعراء وفنانين.

* في ذكراه، تضيء الذاكرة على شريط سينمائي، يسرد صداقتنا ورحلة العمر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، من نادي العروبة بالشارقة إلى سفارة الإمارات بالقاهرة، مروراً بتأسيس «الشروق» و«الخليج»، وتفاعلنا الأسري، ورحلات للعمل أو للمسرة معاً، وخطواتنا الأولى في دروب الصحافة والدبلوماسية والعمل العام.

* يضيء شريط الذاكرة، على قامته الدافئة مبتسماً، صلباً لا يعرف المداهنة، محباً لأسرته، وفياً لمبادئه وأصدقائه، وطنياً بامتياز، مخلصاً لمهنته الدبلوماسية والإعلامية، وللتعبير عن مشاغل الناس وهموم معيشتهم.

* في ذكراه، تتلعثم الذاكرة بالحزن، وأشعر بثقل فقدانه في الوجدان.. وكلما عبرت بوابة «دار الخليج»، أترحم عليه، ولا أجرؤ على الاقتراب من باب مكتبه، الذي ظل مغلقاً بعد رحيله.

* يقترب الشريط السينمائي من الختام،وينتهي على صورته،وهو مسجى على سرير المرض في أحد مستشفيات لندن، أتقدم إليه مُقبّلاً رأسه، تمتد يده بوهن واضح، لتمسك بأصابع يدي،يرفعها إلى شفتيه بمودة وحزن وداع يشيرإلى إحدى كريماته،لموافاته بورقة وقلم ، يخط حروفاً وكلمات غير مترابطة.

* أغادر الغرفة متثاقلاً مهموماً، حتى لا يلاحظ دمعتي، ويغادر صديقي الدنيا إلى دار البقاء بعد أسابيع.

 

وجه (٢)

* عرفته منذ أكثر من ثلاثة عقود، حينما كان ممثلاً لجامعة الدول العربية في المكتب الإعلامي العربي في واشنطن دي سي، جمعتنا طبيعة العمل الدبلوماسي ومناخاته وأنشطته، ووحدة الرؤى تجاه القضايا العربية، والأمل في مستقبل عربي أكثر تكاملاً وقوة وإشراقاً.

* كانت بيننا رابطة فكرية وتفاعل إنساني ممتد، وشدني إليه، صدقه ووفاؤه لمفهوم العروبة، بمعناها الوحدوي والإنساني والحضاري، وسعة معرفته، والتصاقه بقضية فلسطين التي طاف الدنيا، يخطب ويحاضر ويناقش دفاعاً عنها.

* كما شدني إليه، قدراته الخطابية، وتمكنه من توليد الأفكار و«تصنيع» المصطلحات، وروحه الدفَّاقة بالظرف والفكاهة والسخرية اللمَّاحة. وامتلاكه لناصية اللغتين العربية والإنجليزية، وثقافته الموسوعية.

* في ذكرى وفاته الأولى، قبل أسابيع، عدت إلى مذكراته التي سرد فيها محطات من رحلة حياته «في قطار العروبة» كما يقول. ونشرها في كتاب يحمل العنوان: «من زوايا الذاكرة» في عام 2014.

* وكنت من بين الذين ألحّوا عليه مراراً كتابة مذكراته.. ومن بينها ذكريات وأحداث عشتها وشاهد عليها.

* عاش كلوفيس مقصود، تسعين عاماً، لكنها في حساب العمر المثمرة تساوي قرناً من الزمن.

* لم تكن فكرة كتابة مذكراته واردة في باله، ويقول: «لا هي استهوتني، ولا أنا تحسبت لها»، ولم يدون يوميات تجربته الطويلة. لكنه قبل رحيله بسنوات قليلة، وبعد رحيل زوجه (هالة سلام)، أخذ يستذكر أهم محطات حياته السياسية، عاد إلى صناديق تحتوي الآلاف من الصور، واستحضر ما في خزائن ذهنه من ذكريات ومواقف دبلوماسية وإعلامية وأكاديمية، وقام تلاميذ له وباحثون بجمع العشرات من الوثائق والخطب، التي شكلت رحلة اهتماماته وعمله على مدى ستة عقود.

* كان كلوفيس مقصود، ثائراً على الطائفية وعلى تقسيم الأمة العربية، وما يواجهها من مظلمة وعدوان وتحديات، ورائداً من رواد الدبلوماسية العربية العصرية والنشطة والمؤثرة، وكان المسيحي العربي الذي دافع عن صحيح الإسلام، والصوت الشجاع والواثق بنفسه، المدافع عن قضايا العرب في الأمم المتحدة، والمجالس التشريعية الأمريكية والأوروبية، والأوساط الجامعية والإعلامية.

* تذكرت قبل أسابيع، كلوفيس مقصود، أثناء مشاركتي في المؤتمر السابع عشر لجريدة «الخليج» والذي خصص للبحث في «مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني»، وافتقدت فيه غياب تريم وعبد الله عمران.. وكلوفيس الذي كان أحد فرسان هذا المؤتمر منذ تأسيسه، وحتى لحظة الوعكة الصحية التي أصابته في نهاية عام 2012، حينما زلت قدمه على مدخل منزله، مما تسبب بكسر عظم الورك، وزرته في المستشفى بواشنطن… وبعدها بأعوام قليلة تناولت الغداء في منزله، بحضور نخبة من الأكاديميين والإعلاميين، إضافة الى المطران عطا الله حنا،… أمضيت المساء مع كلوفيس، نسترجع ذكريات مشتركة، وكأني أودعه، وكلما مرّ ذكر زوجه (هالة سلام) تتكسر الكلمات على لسانه… وكأني به يبكيها صامتاً، ويبلغها بأنه باقٍ في واشنطن ليدفن بجوارها، بعد عام.

* تذكرت ظرفه وسردياته الطريفة في رحلة العمر، وحرصه على تأبط ذراعي، أثناء سيره، بسبب ضعف في عينيه في سنواته الأخيرة، وأذكر أنه أجرى عملية كبيرة في عينيه في الثمانينات في مستشفى جامعة جورج واشنطن، وحينما عدته هناك في منزله، بعد نجاح العملية،.. قال لي ضاحكاً: «أحسب أنني صرت أرى الأوضاع العربية الآن على حقيقتها المؤلمة!»

* نوادر كثيرة تروى عنه، ويرويها بنفسه، وفي السطر الأول من كتاب مذكراته، يبدو ظرفه وسخريته اللمَّاحة، حيث يقول:

سألت أمي والدي لحظة ولادتي «شو إجانا؟» قال والده رداً على سؤال أمه: «صبي بشع.. بس مهيوب».

 

* كان كلوفيس جميلاً ومهيباً ومحبوباً، كان ضمير العرب بامتياز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى