الكلكتابات فكرية

صنع في اليمن (12)

أهدي هذا البحث إلى الصديق الكريم منصور سالم بادي أبو مالك الذي استحثني على الاستمرار في كتابة “صنع في اليمن” واعدا-بلطف الأديب- أن يصحح الأخطاء التي عثر عليها، ويوافيني بها، وقد أوفى بوعده، فله مني كل الشكر على ما أبدى من مساعدة تنبئ عن عون كبير.

 

بالإضافة إلى ما خلفه انتصار الإمام على الثورة الدستورية على ربوع اليمن المتوكلي من هزيمة كبيرة كان اليأس يخيم فوق الدستوريين القابعين في سجون حجة، حتى بدا لهم أن النجاة من سيف الإمام “أحمد” لا منجاة منه ، ولم تجد المراجعات والاستعطافات من الإمام التي تطلب العفو عن الخطأ الذي ارتكبوه. ونظرة إلى كتاب “مذكرات وأغلال تبين حالة المعتقلين النفسية إلا من رحم ربك، كذلك لم يجد إرسال الأستاذ نعمان وهو في السجن رسالة للإمام يقترح فيها إصدار جريدة تسمي “صوت الحق ” لتكون بديلا لـ “صوت اليمن” و بيعه “مطبعة صوت اليمن” للإمام أحمد ليطبع عليها “جريدة النصر” ؛ كل ذلك لم يجد أذناً صاغية عند الإمام خلال السنتين الأوليتين من انتصاره. وأخيرا بعد مضي السنتين الثقال وبسبب ما بذله الشيخ “محمد سالم البيحاني” من استرحام الإمام لمساجين “حجة” وطلب الأمان “للزبيري” في “باكستان” كما قدمنا، لاح أول انفراج على المعتقلين بحجة، وذلك عندما أطلق الإمام الأستاذ “أحمد محمد نعمان” من السجن، وحدد إقامته في “حجة” وأمر له ببيت وسمح لأسرته أن تعيش معه. وقبيل يوم الاحتفال بذكرى النصر الثاني 3 جمادى الأولى 1369/20 فبراير 1950 طلب الإمام الأستاذ “أحمد نعمان” إلى “تعز” (فلما دخل عليه هش في وجهه وبش، وما كاد الزبيري الذي كان لاجئا في باكستان يعلم بأن الإمام قد عفا عن “نعمان” حتى انشأ قصيدته الشهيرة) ، وفي ميدان النصر وأمام الإمام وقف الأستاذ “نعمان” فألقى خطبة بليغة أعلن فيها ولائه للإمام احمد، كما ألقى قصيدة عصماء كان الأستاذ “الزبيري” قد بعثها إلى “نعمان” لينشدها بين يدي الإمام، مطلعها:

أيبعث نعمان من قبره وينحسر الهول عن نحره

وقد أسبل على الإمام برود المدح الرائع لإطلاقه نعمان كما أشاد بالبدر ويقول الأستاذ الشامي (ولا شك أنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن فارق زميله السيد عبد الله بن علي الوزير) ، وبعد أن خطب “النعمان” وألقى قصيدة “الزبيري” (أمره الإمام أن يعود إلى حجة وأن يكون مديرا لمدرسة حجة ومدرسا بها ومشرفا على [مدارس] اللواء)

أدى خطاب الأستاذ “نعمان” في يوم النصر الثاني ورسالة “الزبيري” وقصيدته في مدح الإمام في وقت مبكر إلى تفسيرات مختلفة بين مبرر ومتهم، و فيما بعد اتخذ خصومهما هذا الموقف سلاحا شهراه في وجهيهما باعتبارهما لا يملكان خطة ثابتة أو إستراتيجية متينة، وإنما هما أصحاب مواقف مؤقتة. في حين رأى البعض فيه خطوة سياسية تتسلل إلى قلب الإمام فتلينه. وكل حزب بما لديهم فرحون.

لم تعبر المقاومة الناشئة تلك المواقف جرما، أو تنقص من أقدارهما، أو تضعف مكانتهما آنذاك، وإنما رأت فيها خطة سياسية غير صلبة ولا متينة مسترخية، اختلط فيها الفرح بالتوجس؛ وبقدر الفرحة بنجاة الأستاذ “نعمان” من القتل كان الأسى على رموز من الدستوريين وهي تلقي أسلحتها مبكرا.

وقد أشاد “الزبيري” بجهود البيحاني في رسالته التي بعثها إلى نعمان بتاريخ 20 ربيع الأول1369/ 10 يناير 1950 إذ يقول فيها: (لم أتصل بغير من تتصل بهم أنت وهم فضيلة الأستاذ البيحاني حبيب الجميع ورفاقه الأصفياء. إن لفضيلة الأستاذ البيحاني ورفاقه الفضل الأول في كسب رضا مولانا أيدهم الله عني وعنك. ولقد بلغنا بفضل ثقة مولانا به ما لم نكن بالغيه من أي طريق أخر وكأن الله ادخره لإخوانه في مثل هذه الظروف)

وفي هذه الرسالة يعترف الزبيري بخطئه في مقاومة الإمام أحمد ويعلن أن: (سلامتي ليست في الخروج من اليمن والاحتفاظ بحياتي؛ فهذا شيء لا قيمة له، وأن الفوز الحقيقي فهو إي أن الله هداني إلى النهج الواضح والطريقة المثلى التي نستطيع بها كسب عطف مولانا أيدهم الله وإنقاذ أحبابنا، وأيقظني الله بمعجزة من خطر السير في الأحلام إلى ما لا يُعن اضاعتى. لقد أتينا ما أتيناه في الماضي بحسن نية وسذاجة متناهية، ولم يكن عرضنا إلا نزيها وطاهرا وبريئا من كل ما انقلبت إليه عواقب الأمور ولكن الأخطاء التي يجب أن أعترف بها هي العقوق لولي النعمة والتجانف عن أدب التعبير والمعارضة العنيفة القاسية. وقد أدى إلى ذلك أمران:

أحدهما: ما ألقي إلى روعنا من لا خلاق لهم من التخويف بغضب مولانا أيدهم، ومن أنه لا يقبل منا نصحا ولا معارضة، كما أنه لا يمكن أن يغتفرها ولا يعفوا عنها بأي حال فكان طابع التعبير القاسي قائما على أساس من هذا الزور والتغرير والذين فعلوا ذلك إنما كانت لهم أعراض دنيئة تافهة وهي أن يملئوا بطونهم ويرتزقوا من ورائنا.

والثاني أن تفكيرنا من أساسه كان مجلوبا إلى عقولنا من السوق السياسية العربية بما فيها من جمعيات وأحزاب وصحف ومحاضرات وزعماء ودجالين ممن أفسدتهم ولوثت ضمائرهم الخصومات والأغراض والنزعة التجارية بمصائر الشعوب. لقد تقبلنا منهم كل شيء وتحمسنا له وجعلنا لأنفسنا منهم مثلا عليا، وحملنا أنفسنا وعائلاتنا ما لم يستطع أن يتحمله أجد سوانا وذلك بناء منا على أنهم أبرار أتقياء يقولون ما يعتقدونه ويرونه حقا وصوابا، وقد تبين لنا بعد ذلك أن تلك السوق السياسية موبوءة مدنسة خبيثة ونحن يعلم الله كنا أبرياء من هذا الدنس بعيدين كل البعد عن تصور هذه الحقائق المرة. أهي أن هذه السوق هي التي أضاعت فلسطين)

وقد علق الأستاذ المرحوم “أحمد المعلمي” مبررا هذا الخطاب وما فيه من مديح كبير للإمام أحمد بقوله: (لا يخفى على القارئ ما في هذا الكلام من التمويه والمداراة. وقد أريد به أن يطلع عليه الإمام فيحفف من ثورة غضبه لا على النعمان وحده وإنما على الأحرار الذين أشهر الإمام عليهن بعد انتصاره سيوفه وجنده وجندلهم[ الصحيح: وجندل معظمهم] واحدا بعد آخر. وماذا في وسع المنهزم المشفق أن يفعل غير ذلك محاولة للإبقاء على من بقي حيا. وللعلم فإن هذه الرسالة قد علفت بسرية ليكون وقعها أكبر على الإمام حين يطلع عليها. وأقول أن هذه الرسالة أرضت من اطلع عليها ممن كانوا ينتظرون الإعدام ومنهم القاضي عبد الرحمن الإرياني وأنا “المعلمي”)

وهو تعليل مقبول، ولكن في الوقت نفسه يمكن الرد على تساؤله: (وماذا في وسع المنهزم المشفق أن يفعل غير ذلك محاولة للإبقاء على من بقي حيا؟) بالقول: في وسعه أن يصمد كما صمد رفيقه “عبد الله بن علي الوزير” رغم مرضه وفقره وجوعه. ولا أقول ذلك شجبا “للزبيري” و”لنعمان” ومدحا “للوزير” ولكن توضيحا لمواقف نفسية مختلفة في ظروف واحدة اختلف فيه نوع الصمود، واختلفت فيه رؤية الاجتهاد. ويمكن اعتبار “عبد السلام صبرة” من الذين نجوا من القتل هو الوحيد الذي لم براجع الإمام أو استعطفه تلك الأيام الحوالك.

*

كانت بعض الحوادث تردف المقاومة بالتصميم على العمل النضالي، وتنمي مشاعر المقاومة عند صغارها، فمن ذلك ما حدث لي شخصا أثناء مهاجرتي الى صنعاء للدراسة، فقد توفى في “أسمرة” في 2 رجب 1369/19 أبريل1950م السيف “يحيى” -وكان بنا أرأف سيف من بين السيوف المتوكلية- وذهبت وأبن عمي “يحيى” لتشييع جثمانه، وفي يوم 4رجب1369/21 أبريل1950 وصل السيف “عبد الله” لعزاء أسرته بوفاة شقيقه “يحيى” واستقبل استقبالا كبيرا، لم يخل من مأساة مفجعة، ذلك أن بعض السيارات صدمت طفلاً صغيرا، فكسرت فخذه واسعف إلى المستشفى الوحيد في “صنعاء”. فذهبت الى هناك فراعني ما رأيته في أحد ممرات المستشفى، كان ثمة طفل يصرخ بعويل فاجع، و كسر عظم قد نفر من بين لحم الفخذ الممزق والطفل يتلوى من الوجع ويبكي ويصرخ ويئن، بدون أن يسعف بمسكن، ولا يوجد جراح، سوى دكتور باطني تطوع لإجراء العملية، ولم يجد الدكتور “فينروني” ما يلزمه من أدوات الجراحة، فكان ينتظر لشيء ما، بينما كان يمشي في الممر ذهابا وإيابا، بعصبية واضحة وهو يكاد يتميز من الغيظ، ولم اذكر الأن ماسبب التأخير، هل عدم وجود مخدر في المستشفى فراحوا يبحثون عنه من الصيدلية التي تخضع مصرفات علاجها لأوامر أحد سيوف “صنعاء” فقط، أو كانوا يحتاجون لأي شيء غيره. الشيء المؤكد ان طفلا ينوح وعظما نافرا ودما يسيل، ودما يتجمد ودكتورا يتمزق غيظا. لم احتمل الوقوف في هذا المسرح الحزين الأليم فغادرته موجع القلب باكيا، وصوت الطفل ينوح في أذني، وطل ينوه في أذني زمنا طويلا، ولا أبالغ إذا قلت إن صدى نواحه وأنين أوجاعه ومنظره، وهو يتلوى من الألم، ووجه الصغير المصفر ينبئ عن الفاجعة، ودموعه الجارية تصرخ بمأساته، وما تزال تلك الصور الحزينة تصاحبني كلما رأيت حادث صدام، أو سمعت به كما لو كان حدث بالأمس .

عرفت أن الدكتور أخيرا أجرى له العملية بغير تخدير كما أظن، ولكن الطفل توفى، وحزن أهله، وجزع من رآه، وتذوقت مرارة الحزن قلوب الحاضرين، ولكن المسؤلين لم يتذوقوا طعمه المر، أو ربما لم يعرفوا ما حدث. قلم يتخذوا من هذه الحالة المروعة تغييرا، أو يلقوا إليها التفاتا. فتذكرت وقتها قول الخليفة أبو بكر: لوسلب عقال بعير في العراق لكنت مسؤولا عنه او كما قال.

ومما يجب أن أذكره لهذا الدكتور الإنساني “قينروني” أنه كان قد وعد أحد المستضعفين بزيارة طبية إلى بيته وبينما كان يتهيأ للذهاب أقبل عكفي من عكفة السيف “الحسن” بطلبه بالذهاب إلى المقام لمعالجة إحدى الأميرات المريضات، ويستعجله فرفض الدكتور وقال بلهجته العربية المكسرة : أنا اروخ اشوف مريض وبأدين بنت الإمام، فأجاب الجندي: ولكن هذه بنت الإمام، فرد الدكتور، بنت الإمام بنت الإمام أنا اروخ إلى المريض بادين بنت الإمام، ولما هم الجندي أن يضغط عليه غضب الدكتور ونفر في وجه وتوجه إليه غاضبا، فانكمش الجندي، وذهب الدكتور لمعالجة البائس الفقير، بينما وقف الجندي متجمدا فاغرا فاه على جرأة هذا النصراني

وانقلب الجندي المقهور إلى “المقام الشريف” حاملا دهشته وبلاهته وثقافته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى