اخبار محليةالكل

د. احمد النهمي شاعرا.. ومثقفا.. واكاديميا..

ثلاثية قيمية / علمية لا انفصام فيها شكلت صميمية جوهره: شاعريته، وموسوعيته، واكاديميته.

وبادئ ذي بدء لابد من الاعتراف صراحة  بانني لست شاعرا حتى اقرض الشعر في رحيلك يا صديقي أو أديبا  أنضم نثرا في رثائك  ، انما مجرد قارئ متواضع مكلوم عليك يحاول جاهدا الافصاح عما يختلج في وجدانه جراء رحيلك المفاجئ والذي شكل لديه صدمة غير متوقعة خصوصا انه كان على موعد معك لتدشين مشروع ثقافي قادم.

ان الحديث عن الدكتور احمد صالح النهمي بوصفه شاعرا طليعيا ومثقفا موسوعيا، بل اكاديميا متميزا يحتاج الى دراسة مستقلة بحد ذاتها.

لكنني هنا سوف اكتفي  بمحاولة سبر اغوار فكره النير  واجلاء بعض من ملامحه من خلال بعض افصاحاته ومقولاته بل وطروحاته التي شكلت بالمجمل ما يمكن  اعتباره وميضا معرفيا واختلاجة فكرية نيرة  أشرقت، وكادت ان تضيء  جانبا من غسق المرحلة لولا الرحيل المبكر.

بمعنى  آخر انني، الى جانب العديد من القصائد والدراسات التي تحاول قراءة الفقيد من عدة جوانب ومختلف الزوايا، احاول  قراءته من زاوية  تجنح  نحو ملامسة فكره وتركز على ما هو ثقافي وحسب، بعيدا عن الاعتساف او التوظيف السياسوي، أو القراءة العاطفية، انطلاقا من حقيقة :من كان يحب د. احمد فإن احمد قد مات،  ومن كان متأثرا بفكره فان فكره خالد لن يموت، حيث الاشخاص راحلون والمبادئ باقية.

فعندما يحضى المثقف بحب الجميع واهتمام الكل، ناهيك عن القبول والاستساغة لافكاره،  فان ذلك يعكس مدى قدرته على  التحرر من أثقال الايديولوجيا وسموه على افرازاتها وتصنيفاتها بل وتجاوزه إياها ومغادرتها، وان شكلت له في البداية  ارهاصا تكوينيا وحالة جنينية ، لانه – حسب البعض- “عندما يقف المثقف على أرضية الأيديولوجيا ويكون في نفس الوقت غير قادر على التخلص من اثقالها فإنه يظل دائماً وأبداً غير قادر على إنتاج المعرفة أو الوعي النقدي داخل محيطه الاجتماعي، فكل ما يستطيع فعله هذا المثقف الايديولوجي هو إنتاج رأي(دجما) ينتصر فيه للايديولوجيا  بالمعنى الذي ينتصر فيه الأنا على الآخر في معادلة الصراع السياسي بين رجالات السياسة”، وهو ما لم يكن عليه الدكتور احمد النهمي، وانما كان على النقيض من ذلك بحيث يمكن لنا وصفه بالمثقف العضوي – حسب جرامشي – او المثقف النقدي-  حسب سارتر، فقد جسد في وعيه الفكري وسلوكياته الثقافية حالة من الجيشان الفكري/الثقافي المتطلعة نحو ما فوق الايديولوجيا الداعية صراحة الى نشدان الدولة المدنية الحديثة متأثرا بعض الشيء بطروحات كل من الدكتور محمد عبدالملك المتوكل والدكتور احمد شرف الدين فيما يتعلق بالتنظير لموضوع الدولة المدنية الحديثة، ناهيك عن تأثره العميق بفكر استاذه المفكر الكبير زيد بن علي الوزير الذي كان يمثل، بالنسبة له، المثل الأعلى والأنموذج الأرقى، ليس بكونه واحدا من اقطاب الفكر واعمدة الثقافة في اليمن المعاصر وحسب، انما بوصفه الاكثر موضوعية والاعمق ملامسة لاشكالية الدولة اليمنية قديما وحديثا وربما مستقبلا حسب قناعته. ولطالما ناقشنا معا العديد من افكار وطروحات الاستاذ زيد الوزير وبشكل اخص الفكرية والسياسية منها المتعلقة بمفهوم واشكالية الدولة، بحيث خصصنا ما يشبه الدرس الروتيني في قراءة كتابيه، ( محاولة لفهم المشكلة اليمنية)، و(ضد الخطاء ) اللذين اهدانيهما وطلب مني عرض احدهما وهو ما تم ونشر في موقع الشورى اونلاين في حينه، حيث نال ذلك العرض استحسانه وهو ما عمق الحوارات والمناقشات البينية فيما أتى من قادم الأيام .  تعزز ذلك باستضافته لي ذات ذكرى لحركة 48 الدستورية التي اقامها اتحاد القوى الشعبية فرع ذمار في مكتبة البردوني الثقافية، وكان عنوان ورقتي التي شاركت بها في الندوة( القراءات التاريخية المختلفة لحركة 48) تناولت فيها مختلف القراءات التاريخية للحركة المتمحورة حول السؤال الاشكالي : هل هي ثورة؟، ام انقلاب؟، ام حركة؟، ولقد أبدى حينها احتراما لكل القراءات والآراء، مع احتفاظه، بطبيعة الحال، برأيه.

كان رحمه الله موسوعي الثقافة، عميق الرؤية، لم يتخشب عند حدود فكرية معينة، او يتبوتق وفق  ايديولوجية محددة، بل ولم يتمذهب أو يتنمط وفق أطر تقليدية جامدة، سواء على صعيد الشعر او الفكر او السياسة. تجلى ذلك بوضوح في العديد من قصائده وكتاباته التي تشكل خلاصة فكره وزبدة رؤاه وطروحاته.( يمكن الرجوع الي قصائده وكتاباته في مختلف وسائل الاعلام والتواصل ). صحيح انه، وكمرحلة تكوينية، تأثر فكريا وسياسيا بقادة ومفكري اتحاد القوى الشعبية، وعلى رأسهم المفكر الاسلامي الكبير ابراهيم بن على الوزير، وكذلك الدكتور محمد عبدالملك المتوكل “داعية الدولة المدنية العادلة” حسب وصفه، وغيرهم ممن حملوا فكرا تنويريا وبشروا بدولة مدنية حديثة وعادلة، جعلته عن اختيار وقناعة ينضم الى صفوف الحزب الذي سرعان ما تبوأ  منصب رئيس الامانة العامة المصغرة فيه، الا انه في نفس الوقت بنى علاقات فكرية وسياسية واسعة مع مختلف الوان الطيف الفكري والسياسي، كنوع من التثاقف والانفتاح، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما ابداه من تزاوج فكري عقدي، ان جاز التعبير، في مرثيته للشهيد الخالد جار الله عمر التي جاء فيها: “كنا نظن انهم لن يمروا. للأسف لقد مروا ومعهم كثير من رفاق دربك..

يا آخر العظماء الخالدين. هنا.

ليل الضلالة يغزو الفجر منتقما…

وكنت للفكر والتحديث مدرسة.

ولليتامى والمستضعفين فما.”.

فضلا عن علاقاته الحميمية مع الكل المتنوع والمتعدد والتي تعامل معها من مسافة متساوية قوامها احترام الرأي والرأي الآخر، والقبول بثقافة السلم والتعايش ليس الا..

كان همه الاول، وهاجسه الابرز، لاسيما في ايامه الأخيرة، هو الوطن، وما حل به من دمار من قبل تحالف العدوان وبعض ابنائه، نادبا حظ ابنائه في الفرقة والشتات وداعيا الى التضامن والتصالح مع الوطن:

” قلبي على الوطن المذبوح مذبوح.

وخاطري كالندى المجروح مجروح.

نشتاق صنعاء والابواب مقفلة.

ولم يعد عند اهلها المفاتيح.

تكسرت في ندوب الريح لوعتها.

وحاصرتها الرؤى البلهاء والريح”.

وهناك العديد من القصائد والكتابات الفكرية والسياسية التي تبين افقه الفكري وتجلي مواقفه واتجاهاته التي تصب جميعها في التبشير ونشدان الدولة المدنية الحديثة ليس سوى، كما توضح رفضه وادانته للعدوان والارتزاق، ولعل آخر ما نشره  في صفحته على الفيسبوك مخاطبا السلطة القائمة بالاخذ بآراء الشهيد الدكتور احمد شرف الدين، خير مثل يوضح ما ذكرناه.

مثلما كان الفقيد شاعرا فذا ومثقفا طليعيا، كان ايضا اكاديميا متميزا استهل ذلك ابتداء من اختياره عنوانا جدليا ومثيرا  لرسالته للماجستير( شعر عمارة اليمني دراسة اسلوبية)، برغم ما لاقاه حينها من تعنت وبلبلة حول الموضوع  من قبل اصحاب الفكر الجامد، الأمر الذى أدى الى تدخل الدكتور عبدالعزيز المقالح وتأييده، بل وتشجيعه على صوابية وجودة ما تناولته مشكلة الدراسة  . اما  اطروحة الدكتوراه ( الخصائص الاسلوبية في مختارات شعر الحماسة بين أبي تمام والبحتري، شعر الحرب والفخر أنموذجا ) فقد حضرها في جامعة أم القرى، بالمملكة العربية السعودية، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطباعتها وتبادلها بين الجامعات.

في حين مثل أنموذجا استثنائيا للاكاديمي المتميز سواء في علاقاته الحميمية مع زملائه، او علاقته الديمقراطية مع طلابه، او حتى علاقته العلمية مع الوسط الاكاديمي داخل الوطن وخارجه.

على كل حال مثلما مثل الدكتور أحمد النهمي في حياته، ظاهرة علمية- ثقافية فريدة ومتميزة، مثل رحيله خسارة فادحة على الوطن باكمله، لكن عزاؤنا ان فكره وذكرى حياته العطرة ستظل خالدة فينا ما حيينا، كما ان فكره النير سيظل مشعلا  ينير الدروب كلما عتم  الأمر، وغسق الجهل والتخلف .

لروحه الطاهرة الرحمة والسلام

والمجد والخلود لفكره المستنير.

 

د. امين الجبر. رئيس قسم التاريخ والعلوم السياسية. كلية الآداب. جامعة ذمار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى