ثقافة وسياحةكتابات فكرية

ناجي العلي الوطن والفن في الممارسة السياسية (  ١ ـ ٣ )

ناجي العلي الوطن والفن في الممارسة السياسية (  ١ ـ ٣ )

  • قادري أحمد حيدر

الثلاثاء8يوليو2025_

1- سنوات التكوين :-

كان في حياته قضية خلافية ، أثار من الأسئلة والقضايا ، والرؤى ، والمواقف ، ما جعل أطرافاً عدة تقف منه على الضد ، وفي ميلاده واستشهاده ومكان قبره كذلك أثار من الخلافات والمواقف الكثير. (*)

كتابات كثيرة بكته ونعت رحيله المبكر باستشهاده النبيل ، جميعها أجمعت على الفنان فيه، وعلى الرؤية والموقف الإنساني في سلوكه وتصرفاته على أنها جميعاً لم تتفق على تحديد سنة ميلاده ، بعضهم يدونها عائدة إلى العام 1936م وأخرى إلى 1937م وثالثة إلى 38م ،

ولناجي ثلاث ولادات ، الأولى: في قرية الشجرة في فلسطين قبل النكبة بعشر سنوات ، والثانية بميلاده طفلاً بعمر عشر سنوات بالتمام والكمال مع ميلاد حنظلة في 13 تموز/يوليو 1969م ، والميلاد الثالث في 22يونيو 1987م يوم اغتياله الأول قبل استشهاده ويوم 29/8/1987م يوم اغتياله الثاني شهيداً برصاصات الغدر الأول الذي استحال إلى ذكرى ميلاد أسطورية جديدة . أعيد ترسيمها باعتبارها يوم ميلاد آخر على عكس ما أراده القتلة ومن يقفون خلفهم .

سنوات تكوينه – بعد العاشرة- ارتبطت بالنكبة الفلسطينية /العربية بالاحتلال الصهيوني . ومنذ ذلك الحين 1948م توحد بالمخيم ، صار المخيم هو العنوان ، والمكان ، والقضية ، والهوية البديلة المؤقتة ، فكثيراً ما يختصر الفلسطيني بالمخيم، والخيمة، واللجوء، والمنفى ؛  والشتات ، ولعل المخيم أكثرها رمزية ، ودلالة للتعبير عن الحالة الفلسطينية، وعن المأساة الفلسطينية ، أكثرها التصاقاً في الإشارة إلى معنى التشريد ، والاجتياح ، والشتات والقتل ، والاغتيال ، واغتصاب الأرض ، حتى صار المخيم – واللاجئ – يشير مباشرة إلى الفلسطيني ، بالقدر الذي يشير إلى معنى الثورة ، والحرية ، وعدم القبول بالأمر الواقع الذي قد يذهب ضحيته وطن كامل – كما يتراءى أمام أعيننا – بدءاً من قرار التقسيم إلى دولتين ، 49% 51% ، وإلى 22% لم يقبل بها الإسرائيلي وصولاً إلى دولة لا ندري ما هي ملامحها ؟ وأين تبدأ ؟ وما هي حدودها ؟ وأين تنتهي؟ – ولا ندري المفاوض الفلسطيني على كم تفاوض بعد ذلك مما تبقى؟ –  فهي حتى الآن ما تزال محكومة بحدود المخيم واللاجئين ، وفي أحسن الأحوال إلى باب الحكم الذاتي الذي يدخلك أبداً إلى الباب الكبير للمستوطنات كما رسمها ناجي العلي في إحدى رسوماته الكاريكاتيرية المعبرة.

        لم يكمل دراسته وتعليمه ، سوى إلى السنوات الأولى من التعليم العام ، على أنه ثابر وتابع ذاتياً تعلمه الذاتي الخاص حتى أصبح بعد ذلك مدرساً أو معلماً لفن الرسم في الكلية الجعفرية في مدينة صور الجنوبية ، في سني طفولته المتأخرة وبداية المراهقة السياسية وبداية الشباب تعلق بالمسرح ، والنص المسرحي في صورته الأولية ، ودخل أجواء المسرح ، حباً ، وتمثيلاً ، وقادته الصدفة البحتة إلى فن الكاريكاتير والعمل الصحفي ، وفي ذلك يقول ” في البداية كان همي أن أعبر عن ذاتي بالرسم ، وكان همي أن يكون الفن التشكيلي وسيلة وصولي إلى مستوى هذا التعبير ، واكتشفت فيما بعد أنني استجيب أكثر للرسم الكاريكاتيري ، أو بتعبير آخر توصلت إلى قناعة مفادها: أن أحفر مجرى لحياتي من خلال رسم الكاريكاتير ، ووجدت فيه سلاحي الجيد” (1)

من أسرة فقيرة جاء ، لها تاريخ في المقاومة يمتد إلى تاريخ الثورة العربية الأولى في فلسطين . ومن قلب مخيم عين الحلوة بدأ وعيه السياسي يتشكل ، عين الحلوة كانت رمزا للنكبة ، ومع المخيم اكتمل ذلك الوعي السياسي على حقيقة وفكرة مقاومة الاحتلال ، والاستبداد والتخلف ، وفي السياق والمقام عينه ، رسم صورته الأولى كفدائي ، ومقاوم في صورة طفل في العاشرة يقول ناجي محدداً اسمه وهويته ” الاسم حنظلة ، – اسم الأب مش ضروري – اسم الأم : نكبة – تأريخ الولادة : عام النكسة – نمرة قدمك : ما بعرف لأني حافي – جنسيتك : أنا فلسطيني .. مش أردني، .. مش كويتي .. مش لبناني .. مش مصري .. مش حدا .. باختصار معيش هويه ولا ناوي اتجنس .. محسوبك إنسان عربي وبس ” وهي المفردات التي حددت هوية ناجي العلي باعتباره طفلاً فلسطينياً/عربياً ، مقاوماً من أجل حق العودة إلى وطنه رافضا الشتات والمخيم ، ذاكرته الأولى تشكلت في قلب النكبة والمخيم وهو طفل في العاشرة ، وعند سن العاشرة أُوقف عمر حنظلة ولم يتجاوزه حتى استشهاده النبيل ، واختيار سن العاشرة تحديداً ، له معنى ودلالة كبيران ، معنىً حياتيٌ ، وعمري ، فالعاشرة هي سن قادرة على الاحتفاظ بذاكرة ما كان ، وهي كذلك ذاكرة لا تنسى ما بعدها من سنين لاحقة ، وهو عمر طفولي تأسسي لما بعده ، ومن هنا في تقديري معنى اختيار العاشرة سنة بداية ، سنة التأسيس واعتبارها جزءاً من حالة مقاومة لا تنتهي إلا بانتفاء صورة المخيم واللجوء والشتات ، .. حالة بطولية ، وحول هذا المعنى وهذه الفكرة يقول ناجي العلي ” في مثل هذا السن خرجت من فلسطين ، وعشت تجربة المخيم ، حيث بدأ وعيي السياسي والحياتي يتفتح على القهر والفقر ، والتوق إلى الحرية والعودة إلى الوطن ” – إلى أن يقول – رسمت هذا الصبي – يقصد حنظلة – وجعلته بطلاً في لوحتي يومياً ، ليبقى بمثابة ذاكرة دائمة لي ، تحذرني من الانجراف في آلية المجتمع الاستهلاكي ، فأخسر روحي .. كنت أشعر أن هذا الطفل يتميز بتقاسيم وسمات تحفظ روحي وتقوي أواصر ارتباطي وعواطفي مع الجماهير التي كنت أعشقها ، وأشعر أني مرتبط بها .. لذلك فقد اعتدت أن ارسم تلك الشخصية صباح كل يوم حتى أصون روحي من التشرذم في تلك الصحراء (…) خفت أن أتوه ، أن تجرفني الأمواج بعيداً عن مربط فرسي .. فلسطين “.

لم يكمل ناجي العلي دراسته ، وتعليمه مثل الكثيرين من أقرانه من الأطفال الفلسطينيين ، واعتمد التثقيف الذاتي من جامعة الحياة ، آخذاً المعاني والأفكار من كتاب الحياة الملقى على الطرقات ، ونهل من رفوف المكتبات ، ودخل إلى المعرفة والفكر والثقافة بقوة وشغف ، وذلك ما عمق خياره الثقافي والفكري ذا الصلة العميقة بالناس ، وحياتهم ومصالحهم المادية المباشرة ، والهموم الكلية الإنسانية ، لم يأت ناجي للفن والرسم ، والصحافة من الوسط الأكاديمي ، والثقافي المجرد ،..، دخل إلى كل ذلك من قلب المخيم ، ومن قعره الغائر في أعماق حضور الناس ، والمخيم هنا ليس مستوىً واحداً ، ففيه كل ذلك التنوع الذي تزخر به الحياة في كل مكان .

من المخيم خرج ناجي العلي وقبله غسان كنفاني ، كما خرج أصحاب الكروش المتدلية من الخلف حسب أحد تصويراته الكاريكاتيرية ، وكذلك خرج منه قتلة ناجي نفسه . المخيم عالم فسيح واسع متنوع ، مليء بالمفارقات والمتناقضات ، على أن السمة الجوهرية له الثورة والمقاومة ، وكانتا الحرية والعودة ، هما عنوانه الكبير.

بقي حنظلة الطفل دون وجه ، وظل عمره كله يبحث عن وجهه ، يبحث عن فلسطين ، .. ، فلسطين هي ذلك الوجه الغائب ، أو الضائع وقد تعمد ناجي العلي إخفاءه في اللوحة ، وجعله بدون وجه ، وكأنه لا يريد أن يرى من حوله والعالم بدون فلسطين وحين يكتمل الوجه – فلسطين – يعود الوجه إلى اللوحة ، الجميع يتكلم عن فلسطين القضية والمأساة ، وهو السؤال الذي يتجول في مدارات السياسة إلى عناوين متعددة ، ومع ذلك بقي وجه حنظلة في الصورة غير مرئيٍ ، غائباً ، ضائعاً ، تقرأ وتحدد خطوط الطول والعرض الفلسطيني كما تشاء في غياب الوجه الذي تحول ضمن تحولات معادلة الزمن في السياسة الجارية من قضية صراع فلسطيني وعربي/إسرائيلي ، إلى صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى قضية نزاع فلسطيني/إسرائيلي ، إلى قضية مخيمات، ومفاوضات وتسويات أضاعت ما تبقى من صورة الوجه الفلسطيني في الذاكرة ، وصولاً إلى تحولها إلى قضية معابر ، وكهرباء ومياه ، ورفع حصار عن غزة بعد الانشقاق الفلسطيني الفلسطيني ، إلى ضفة وغزة . كانت الخيمة والمخيم في حياة ناجي العلي رمزاً للقضية الفلسطينية ، والثورة ، والمقاومة ، والخيمة في حياته وفنه ، بعد ذلك عنت له الكثير ، أليس أعظم دلالة على هذا المعنى الذي حمله ناجي في نفسه للمجتمع وصورته في نفسه ، أن طلب في وصيته دفن جثمانه في مخيم عين الحلوة ، وليس في لندن ، بعد أن أصبح متعذراً دفن جثمانه في قرية الشجرة في فلسطين.

            يكفي الإشارة هنا أن أول رسمه ولوحة تنشر له وأدخلته إلى الحياة الفنية وإلى فن الكاريكاتير كانت لوحته ” خيمة على هيئة بركان ” ، وهي اللوحة الأولى في حياته ، بعد سلسلة لوحات تركها على جدران الشوارع ، والمساكن ، والبيوت في المخيم ، اللوحة التي نشرها غسان كنفاني في مجلة الحرية العدد ” 88″ العام 1961م السنة الثانية ، وقال عنها غسان كنفاني معلقاً عليها: ” صديقنا الفنان ناجي لا يجد خيراً من الكاريكاتير ليعبر عما يرتجف في نفسه ، وقد لا يعلم – ناجي نفسه- أن الحدة التي اتسمت بها خطوطه وأن قساوة اللون الراعبة ، وأن الانصباب في موضوع معين يدلل على كل ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف(…) وهو يحمل إلينا قصة فلسطين، لا ما حدث فيها ، ولكن ما يجب أن يحدث ، لكي يعود الذين شردوا من ديارهم إلى خير الأرض والوطن” .

وهي أول رسمة لناجي أدخلته عالم فن الكاريكاتير ، رسمة تصور خيمة على هيئة بركان بعدها بدأ ناجي يوقع رسوماته الكاريكاتيرية تحت إسم ناجي وكانت في الفترة 1963م ، ثم اختار في فترة لاحقة عنوان الصليب كرمز للفداء ، والافتداء والتضحية ، مع اسم ناجي أو بدونه ، وبعد هزيمة حزيران 1967م تحديداً منذ العام 1969م اختار ناجي رمزه حنظلة/الطفل الذي رافقه حتى لحظة استشهاده .

           يمكن القول: إنه مع حنظلة الطفل في اللوحة اكتملت بصورة نهائية صورة ناجي العلي الفنان والمثقف ، ليس أي مثقف وكيفما اتفق ، بل ذلكم المثقف العضوي النقدي الصارم والصادق الذي يقول ما لديه دفعة واحدة ، دون تقسيط ، ونقطة على السطر ، تلك سجيته ، وذلك طبعه ، ولا يستطيع لهما تبديلاً ، إنها الحالة أو الشخصية التي تبلورت ملامحها ، ونضجت طيلة سنوات تكوينه الأولى (سنوات النكبة ، والمخيم ، واللجوء ، والمنفى ، والشتات ، والاجتياح ، والاغتيال)  سنوات الذاكرة والذكرى والمأساة الممتدة في الزمن العربي الفلسطيني ، الذاكرة التي تشكلت معجونة بتراث الشعب الفلسطيني ، وفنونه وآدابه ، وحكاياته ، وأشعاره ، مواويله وأزجاله ، وأمثاله التي تمفصلت وتوحدت في كيان ذاكرة ثقافية وروحية مقاومة ، على خلفية ذخيرة سيكولوجية واجتماعية وتاريخية ، هي من يحمل روح وراية المقاومة في فلسطين وكل المنطقة العربية . فالتراب الفلسطيني أو كل التراب الفلسطيني حسب تعبير ناجي العلي ، سيبقى فلسطينياً ، وقضية عربية أبداً.

الهوامش:

* الاقتباسات والاستشهادات غير الموثقة حيثما وجدت جميعها مواد مأخوذة من الانترنت .

(( ١ ) – ناجي العلي ، نقلاً عن كتاب ” ناجي العلي ، الشاهد والشهيد ” ص 31 منشورات دائرة الثقافة والإعلام الشارقة ، تقديم وإعداد د.عمر عبد العزيز 1997م .

اقرأ أيضا:قادري أحمد حيدر يكتب عن  .. العرب بين التحرر من التبعية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى