كتابات فكرية

الهوية اليمنية في مواجهة الاستهداف الخارجي والتحديات الداخلية

الهوية اليمنية في مواجهة الاستهداف الخارجي والتحديات الداخلية

عـبدالله_عـلي_صبري

تمهيد

على مدى قرون طويلة، تعرضت الهوية الحضارية اليمنية لأصناف الاستهداف والتحديات الداخلية والخارجية، وكلما خرجت من محنة دخلت أخرى. لكن مع كل منعطف تاريخي برزت الهوية اليمانية والإيمانية، وأفرزت كل معاني العزة والبطولة في مواجهة الغزاة والمحتلين، الذين اندحروا كل مرة وهم يشهدون لليمن واليمنيين برباطة الجأش والبأس الشديد.

وكما ورثت اليمن موقعا استراتيجيا كان ولا يزال محط أطماع الخارج، فقد حبا الله اليمنيين بقيم أصيلة حضارية صقلها الإسلام، وأضفى عليها حلة إيمانية، مضفورة بالعزة والكرامة ما دام المجتمع اليمني محافظا عليها، ومتمسكا بالحد الأدنى منها. إذ كلما تفاقمت الهوة بين الهوية والانتماء، وتصاعدت حدة الصراع الداخلي، كلما أمكن للقوى الأجنبية غزو اليمن واحتلالها، أو الهيمنة عليها.

في هذه الورقة يحاول الباحث استقراء التحديات الداخلية والخارجية، التي كان لها الفضل في ترسيخ الهوية اليمنية، وتجلي ملامحها على النحو الذي نشهده اليوم، واليمنيون يسطرون أروع ملاحم الصمود والثبات في مواجهة الع.د وا ن السعودي الأمريكي، الذي يستهدف كل اليمن أرضا وإنسانا وهوية.

الهوية الإيمانية قبل وبعد الإسلام

ما يلفت النظر عند استقراء تاريخ اليمن قبل الإسلام، أن البعد الديني كان حاضرا في تبريرات الغزو الخارجي لليمن، فالأحباش مثلا اتخذوا من واقعة “الأخدود”، ذريعة لغزو واحتلال اليمن في الفترة 525 إلى 575 بعد الميلاد، فقد استغلت بيزنطة وأكسوم الحبشية اضطهاد الحميريين لنصارى اليمن في نجران، فحركتا جيشا كبيرا لاحتلال اليمن من منطلق أن الإمبراطور الروماني كان حاميا للكنيسة الشرقية. 

علما أن المسيحية دخلت اليمن لأول مرة أثناء محاولات الغزو الروماني، حين أرسل الإمبراطور قسطنطين هدايا لملوك حمير وكانت النتيجة تعمير ثلاث كنائس لتجار الروم في اليمن. أما اليهودية فقد انتشرت في اليمن منذ اعتناق الملكة بلقيس لها على يد نبي الله سليمان عليه السلام، كما ورد ذلك في القرآن الكريم، وقد أصبحت اليهودية فيما بعد الديانة الرسمية لليمن، وبالأخص في عهد أبي كرب أسعد وذو نواس، وهذا الأخير هو من تشير إليه المصادر التاريخية كمسئول عن حادثة الأخدود.

وتكشف قصة الملكة بلقيس عن خاصيتين رئيستين شكلتا ملامح الشخصية اليمنية والهوية الجامعة لليمنيين منذ ما قبل الإسلام:

الأولى: خاصية القوة والاعتداد بها وبالبأس الشديد، وبالذات في مواجهة الأعداء والغزاة.

الثانية: العمل بمبدأ الشورى، فالملوك في اليمن لم يتمتعوا بالحكم المطلق، بل كانوا يستشيرون الأقيال والأذواء ورجال الدين، ويأخذون رأيهم فيما يريدون عمله، بما في ذلك استشارتهم في إصدار القوانين حتى لا يقع اعتراض أو تذمر من الشعب.

” قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” النمل: 32-33

ومن المتفق عليه أن اليمنيين قد دخلوا الإسلام طوعا، وأن وفود قبائلهم توافدت إلى المدينة لاعتناق الدين الجديد على يد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي أثنى بدوره على اليمنيين فقال عنهم: أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية. وفي رواية: الإيمان يمان والفقه يمان.

ومن العوامل التي دفعت باليمنيين إلى الإسلام عن طواعية أنهم كانوا على ديانتي التوحيد المسيحية واليهودية كما أسلفنا، ثم أن والي الفرس على اليمن “باذان” كان قد سارع إلى دخول الإسلام، وإعلان الولاء لرسول الله وللدولة الإسلامية الوليدة.

 وقد استثمر الخليفة أبوبكر رضي الله عنه سواعد وبأس اليمنيين، فاستنفرهم للجهاد فيما يعرف بالفتوحات الإسلامية، التي تقول المصادر التاريخية أن اليمنيين كانوا طليعة الجيش الإسلامي، عند فتح بلاد الشام، وبلاد فارس والعراق، كما كانوا أيضا في صف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة الجمل وصفين وكانوا من أبرز شيعة آل البيت. وينسب لأبطال اليمن الدور كبير في فتح الأندلس، حتى أن العديد من الحصون والقلاع الأندلسية سميت بأسماء مناطق يمنية مثل همدان وخولان ويحصب.

وفي السياق ذاته، ساهم التجار والبحارة اليمنيون في نشر الإسلام خارج اليمن، وبالذات في بلاد جنوب شرق آسيا، فقد وصلت إليها القوافل التجارية اليمنية، فاستقر الكثير منهم في تلك البلاد، ونشروا الدعوة الإسلامية فيها، ومع حلول القرن العاشر الهجري كان الإسلام قد شمل كل الممالك في أرخبيل اندونيسيا، والفلبين، وماليزيا.

الإسلام والهوية القبلية 

كانت القبيلة ولا تزال أهم رابطة عرفها المجتمع اليمني وتمسك بها خاصة حين تضعف الدولة ويتراجع دورها في حياة الناس، ولعبت القبيلة أدواراً سياسية واجتماعية عبر التاريخ اليمني لا يمكن نكرانها. وحين دخل اليمنيون الإسلام فإن الموروث القبلي ظل حاضرا في الهوية وفي السلوك اليومي، ومع إن الإسلام قد شذب التعصب للهويات والانتماءات السابقة، وصهر القبيلة في بوتقة التعارف الحضاري، كما يقول عز وجل:

” يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” الحجرات: 13

إلا أن القبيلة اليمنية احتفظت بالكثير من الخصائص والبنى الداخلية التي شكلت في مجموعها عائقا أمام تثبيت ركائز الدولة الحديثة وحالت دون بناء المجتمع المدني على النحو الذي تفرضه موجبات الحداثة والعصرنة، ومن هذه الخصائص أو العوائق:

– عصبية الولاء والانتماء للقبيلة على ما عداها.

– العنصرية، والتمسك بالتراتبية الطبقية بين أبناء القبيلة، وما يرتبط بها من احتقار للعديد من المهن الحرة والإنتاجية التي تقوم عليها نهضة الأمم والمجتمعات.

– الثأر، والقصاص من القاتل خارج القانون، واعتبار أبناء القبيلة ككل هدفا للثأر من جهة ومسئولين عن القيام به من جهة أخرى، الأمر الذي نجم عنه الكثير من الحروب القبلية التي يتوارثها الأجيال.

– الموقف من المرأة وتجاهل الكثير من حقوقها السياسية والدينية.

ويفرق الباحثون عادة بين القبيلة ككيان اجتماعي وجغرافي، وبين زعماء ومشايخ القبائل كنموذج سلطوي إقطاعي إلى حد ما، فالقبيلة بمفهومها الاجتماعي ليست عائقا ضد الدولة بالضرورة، ولكنها قد تحول دون توغلها، أو تحل بدلا عنها في زمن الاضطرابات والصراعات الداخلية، أما زعماء القبائل، فهم من يستقوي بالقبيلة ويوظف أفرادها في تحقيق الأهداف السياسية.

وقد خبر مشايخ اليمن مهارة إعادة إنتاج أنفسهم مع كل المتغيرات والتحولات. فعلى سبيل المثال، فإن الثورة الشعبية الشبابية في 2011م، كانت تعبر عن تطور ومطالب القوى المدنية، لكن سرعان ما توافدت الزعامات والمشايخ القبلية إلى ساحات الثورة، لتعلن انضمامها ومباركتها للتغيير، مع أن هذه الزعامات كانت إلى وقت قريب تدور في فلك النظام السابق، وتنعم بالنفوذ والثروة على حساب أبناء القبائل ومناطقهم، التي تفتقر إلى الخدمات والبنى التحتية في مختلف المجالات. ولعل هذا ما يفسر انضمام أبناء القبائل من جديد لخيار التغيير ولثورة 21 سبتمبر بمعزل عن الزعامات القبلية التقليدية.

الزيدية والشافعية

عرفت اليمن عبر التاريخ بالتسامح والتعايش بين المذاهب الدينية، وبالأخص بين الزيدية الشيعة  والشافعية السنة، وقد ساعدت الجغرافيا وتنوع التضاريس بين المناطق الجبلية والساحلية على ترسيخ الثنائية المذهبية في اليمن، إذ وجد المذهب الزيدي في مناطق شمال اليمن ذو الطبيعة القبلية المحاربة البيئة المناسبة والمناخ الخصب للانتشار ولبناء الدولة القوية، بينما كان المذهب الشافعي متناسباً مع البيئة الزراعية في الوسط والسواحل.

وقد عاش اليمنيون في ظل المذهبين على نحو من التآخي العام، دون أن يعني ذلك أن الأجواء كانت على الوفاق دوماً، غير أن تأجيج الخلافات كان ناجماً عن التسييس المذهبي والصراع السياسي على السلطة والثروة .

وإذ لا تعترف الشافعية بالإمامة الزيدية، فقد امتد خلافها مع الزيدية إلى العديد من القضايا الدينية، بالرغم من أن فقهاء الزيدية المصلحين قد حاولوا الوصول إلى قواعد مشتركة مع الشوافع، ومع إن استئثار الزيدية بالسلطة السياسية لفترات طويلة قد ولد صراعاً ظاهراً حيناً ومستتراً أحياناً أخرى، إلا أن المواجهة المباشرة بين المذهبين كانت محدودة ولم تصل إلى درجة الخلافات والعداوات التي كانت تحدث بين بقية المذاهب في اليمن وغير اليمن . ثم إن المذهب الزيدي وبرغم محدودية انتشاره في العالم الإسلامي، إلا أنه تميز بخاصية ديمومة الاجتهاد لدى علماء المذهب، حيث لا ينبغي للمجتهد تقليد غيره من العلماء، وهي القاعدة التي أفضت إلى بروز مجتهدين انفتحوا على المذاهب السنية، حتى تجاوزت شهرتهم ومكانتهم العلمية حدود اليمن.

وتميزت الزيدية تاريخيا بخاصية مزج الفكر بالحراك السياسي، ما مكنها من تجديد نفسها باستمرار، وساعدها على ذلك النفحة العقلانية في نتاجات واجتهادات أئمتها وعلمائها، وانفتاحهم على الآخر وبعدهم عن الغلو والتعصب. وفي السياق ذاته آمنت الزيدية بحرية إرادة الإنسان في جميع أفعاله وأعماله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهو ما حرر التفكير والاجتهاد الديني الإسلامي من موبقات العصمة والتقية والقداسة.

من جهة ثانية فإن المذهب الشافعي يعد أكثر مذاهب أهل السنة انفتاحاً على مذاهب الشيعة، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من ” آل البيت “، وقد مثل المذهب الشافعي بآلياته الفقهية حلقة وسطى بين مدرسة أهل الرأي القائلين بتقديم العقل على النقل، ومدرسة أهل الحديث التي تقدم النص على ما عداه. وقد انعكس ذلك في تقارب الأفكار والاجتهادات بين الزيدية والشافعية، ثم التقارب السياسي والاجتماعي كذلك.

وقد لحظ البريطانيون أثناء احتلالهم لجنوب اليمن هذا التقارب بين المذهبين وكتبوا في تقاريرهم أن أتباع المذهبين يصلون في مسجد واحد، وأنهم يتزاوجون فيما بينهم، فليس هناك من صدع واضح المعالم بين المذهبين .

واذا كان البعض قد وظف انقسام اليمنيين إلى زيدية وشافعية، في تفسير الكثير من الأحداث التاريخية، فإن المؤرخين المنصفين  لم يروا في هذا الانقسام تأثيرا كبيرا على مجريات الأحداث، فالصراع داخل الدولة الزيدية مثلا كان على رأسه قيادات زيدية، وإذا كانت الزيدية قد تصدرت مواجهة الاحتلال العثماني، فقد كان هناك من الزيدية من تواطأ مع العثمانيين، واستنجد بهم في مواجهة خصومه السياسيين، وعلى العكس من ذك ظهرت بعض الجماعات الشافعية، التي خاصمت وواجهت العثمانيين من منطلقات وطنية دون اعتبار للمذهب الديني، الذي حاول العثمانيون استغلاله والاستفادة منه في محاولة احتلال اليمن وإحكام السيطرة عليه.

بين الوهابية والشيوعية

تضاعفت محنة الزيدية بسبب الجوار الجغرافي لليمن حيث تمكنت الوهابية السعودية بفضل الطفرة النفطية من اختراق المناطق الزيدية في اليمن، التي يعيش أبناؤها أوضاعاً اقتصادية صعبة، وبالإضافة فإن سوق العمل في دول الخليج العربية الذي شهد طفرة كبيرة منذ سبعينات القرن الماضي، أسهم في التأثير على العمالة اليمنية، وأعاد تشكيل المفاهيم الدينية للمغتربين لتنسجم والسلفية السائدة في السعودية ودول الخليج، وشيئاً فشيئاً، وإذا بأبناء القبائل الزيدية، تتحول نحو السلفية والحركة الإسلامية الإخوانية.

في ظل هذه المتغيرات وبدعم حكومي رسمي، وبتمويل سعودي، تأسست المعاهد العلمية كآلية للتنظيم الإخواني، ومنها تخرج آلاف التربويين والوعاظ والخطباء، الذين اعتلوا منابر المساجد ومنحوا الاتجاه السلفي الوهابي زخماً كبيراً. وفي المقابل عجزت الزيدية أن تجاري حيوية المد السلفي، فخسرت معاركها الفكرية معها، وهي المعارك التي دخلت البيوت لتخلق خصومات داخل الأسرة الواحدة ذاتها.

في الخضم ذاته تمكن الشيخ مقبل الوادعي مع نهاية سبعينيات القرن الماضي من تأسيس دار الحديث (السلفي) في مديرية دماج بمحافظة صعدة، دونما مراعاة لمشاعر الغالبية الزيدية من سكان المحافظة. ورفع الوادعي راية الحملة ضد الزيدية والشيعة والمذهبية بصورة عامة، مستنداً في نشاطه إلى خطاب سلفي تقليدي، وهجومي حاد، ما أدى إلى ردة فعل زيدية في وجه الدعوة الوهابية القادمة بقوة من وراء الحدود .

وفيما كان المد الوهابي يجد الطريق سالكا في شمال اليمن،  فقد وجد الأبواب موصدة في الجنوب حيث كانت الثقافة الاستعمارية هي المسيطرة. ومع رحيل الاحتلال البريطاني، كانت قوى اليسار الشيوعية والاشتراكية قد استحكمت على المشهد السياسي والثقافي في جنوب البلاد، فبدت الهوية اليمنية هناك أكثر انفتاحا، حتى أنها كادت أن تذوب وتفتقر إلى الخصوصية والأصالة اليمنية لولا أن القبيلة حافظت على الحد الأدنى من الموروث الاجتماعي والديني..

أضحت عدن خلال عشرين سنة، أي ما بين 1970 -1990م، معقل الشيوعية العربية، وملاذا للأمميين الماركسيين، وغدا جنوب اليمن الذي تحول من الحماية البريطانية إلى الحماية السوفيتية، مصدر تهديد لجيرانه في الجزيرة العربية.

وتحت تجربة الحزب الاشتراكي الذي سيطر على السلطة خلال العقدين السابقين لإعلان الوحدة اليمنية شهدت عدن والمحافظات الجنوبية تحولات ثقافية واجتماعية صبغت اليمن الجنوبي بهوية جديدة متضادة مع الهوية التقليدية في الشمال. 

غير أن الهوية الجديدة في الجنوب سرعان ما تعرضت لهزة عنيفة بعيد حرب صيف 1994م، حيث أمكن للسلفية الوهابية أن تتغلغل في المجتمع من خلال النشاط الثقافي والدعوي لحزب الإصلاح أو الإخوان المسلمين في اليمن..

وهكذا عاشت الشخصية اليمنية في الجنوب صراعا داخليا بين موروث قريب تراجع زخمه عالميا، وبين مد وهابي بدا متعايشا في البداية مع البنية الاجتماعية والدينية التقليدية، ثم سرعان ما انقلب إلى حالة من الغلو والتطرف وصولا إلى احتضان التنظيمات الإرهابية المسنودة من السلطة السياسية ( جيش عدن أبين الإسلامي نموذجا ).

الهوية السياسية المعاصرة

منذ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر تشكلت هوية سياسية جامعة عنوانها النظام الجمهوري الذي شكل قفزة على النظم السابقة، وغدا معبرا عن تطلعات الشباب والنخبة الجديدة والفاعلة في المجتمع. وبالموازاة مع النظام السياسي الجديد لعب المد القومي دورا كبيرا في تغيير البنى الثقافية والاجتماعية، وربط الهوية اليمنية بالبعد العربي وتطلعات الأمة إلى وحدة سياسية شاملة كانت تبدو قريبة المنال مع العهد الناصري تحديدا.

وقد أثرت الخلفية الثقافية داخل الصف الجمهوري على مسار التغيير، الذي أراده البعض شاملا ومنفصلا عن واقع وتاريخ اليمن، بينما أراده البعض محدودا جدا ومقتصرا على تغيير الحاكم لا العقلية الحاكمة.

ولأن المحيط الإقليمي لليمن كان خارج خارطة المد الجمهوري والقومي، وبسبب سطوة الدولة السعودية النفطية، أمكن احتواء التغيير في اليمن، لتبدو الجمهورية الوليدة في أغلب فتراتها متماشية مع السياسة السعودية بل وتابعة لها في كثير من الأحيان، الأمر الذي انعكس على ثقافة وهوية المجتمع، وساعد على انتشار السلفية الوهابية، مع تعاظم دور المشيخة القبلية التي جرى إدراج أغلب رموزها في كشوفات اللجنة الخاصة سيئة الصيت.

وبرغم أن النظام السابق اعتمد في ديمومته على تحالفاته مع مشايخ القبائل، إلا أنه عمل على اختراق القبيلة، واستثار مكنوناتها العصبوية، وربط بينها وبين الكثير من السلوكيات المنفرة، كظاهرة اختطاف الأجانب، وقطع الطرقات، وتفجير أنابيب النفط، وشبكات التيار الكهربائي، وبهذا ترسخت لدى الباحثين مقولة أن القبيلة عائق أمام الدولة والنظام والقانون.

وما يؤسف له أن التجربة السياسية اليمنية بعد الوحدة، راكمت من أخطاء النظام السياسي في الشمال بشأن القبيلة وعلاقتها بالدولة، ودفعها للاصطفاف مع حزبي المؤتمر الشعبي والإصلاح في مواجهة الحزب الاشتراكي قبل وبعد الحرب.

من جهة ثانية، فقد سنحت أمام اليمن فرصة ذهبية كان بالإمكان استغلالها على نحو أفضل، فالوحدة بين الشطرين قامت على أساس تبني الديمقراطية النيابية، وما تقوم عليه من أركان أساسية كحرية الصحافة، والتعددية السياسية والحزبية، وتداول السلطة سلميا.

في ذات الإطار شهدت اليمن عدة انتخابات نيابية ومحلية ورئاسية، وبات لدينا برلمان يشرع ويراقب ويحاسب في الحد الأدنى، كما تعاظم دور الأحزاب والمنظمات الأهلية، وشهدت اليمن مرحلة من الانتقال الديمقراطي، الذي كاد أن يغير وجه اليمن، مقارنة بالمحيط الإقليمي الملكي والشمولي.

وإذ انسجم هذا التحول مع الهوية الشوروية الإسلامية والحضارية للنظام السياسي ولطبيعة الفرد والمجتمع في اليمن، فإن نكوص السلطة عن الإيفاء بموجبات الاستحقاق الديمقراطي، وتدخلها في نتائج الانتخابات، وما رافق التجربة من قمع للأحزاب والصحافة الحرة، قد ارتدت على الموقف من التجربة الديمقراطية، ومن إيمان المجتمع بجدوى النضال السلمي، بل ومن جدوى الأحزاب نفسها.

وبينما كانت المعارضة ممثلة بأحزاب المشترك وجماهيرها تعمل عل تصحيح المسار الديمقراطي، باشرت السلطة حروب صعدة، وما رافقها من خطاب تعبوي طائفي أسهم في خلخلة النسيج الاجتماعي اليمني، وعزز من قناعة بأن لا مستقبل لليمن تحت سلطة علي عبدالله صالح وأركان نظامه.

وفي هذه الفترة أيضا تخلق الحراك الجنوبي، وظهرت الأصوات المنددة بالنظام السياسي وبطبيعة الوحدة القائمة، وبضرورة العودة إلى ما قبل 1990م.

الهوية والعدوان

منذ قيام الدولة السعودية الوهابية في ثلاثينات القرن الماضي، واليمن أرضا وإنسانا في مرمى الاستهداف والع.دو ان السعودي، الذي اتخذ اشكالا واتجاهات عدة أخطرها ما يتعلق بالفكر والثقافة وبالهوية الدينية والحضارية لليمن واليمنيين.

فكما استولت الدولة السعودية على أجزاء واسعة من الأراضي اليمنية، واستغلت ثرواتها وخيراتها، فقد اتجهت إلى احتلال العقلية اليمنية، ومحاولة تغيير نمط الحالة العقدية والفكرية لليمنيين عبر المد الوهابي الذي تغلغل في جنبات الفكر والتفكير الديني اليمني، مستغلا الحالة الوجدانية لعموم المسلمين وارتباطهم بالمقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، وما توافر لمشايخ الوهابية من إمكانيات مادية ضخمة ساعدت على نشر مؤلفاتهم وأفكارهم وفتاوى علمائهم داخل وخارج السعودية.

وإضافة إلى ذلك عمدت السعودية وقد أصبحت الدولة النفطية الأولى في العالم إلى إغراء مشايخ القبائل، وربطهم بهبات ومساعدات بلغت ذروتها مع مواجهة الجمهورية وثورة 26 سبتمبر، حين أصبح للسفير السعودي كلمة الفصل في الشأن اليمني السياسي مع كثير من الرؤساء والمسئولين في شمال اليمن، ممن قبلوا الخيانة والارتزاق على أنفسهم، ورضوا لوطنهم بالتبعية والتهميش.

ومنذ سبعينات القرن الماضي وجدنا كيف أن الوهابية الدينية قد تنامت بشكل ملحوظ في عدة محافظات يمنية، مستفيدة من بريق النفط والدولار، ومستغلة تطلع اليمنيين إلى حياة كريمة قد يوفرها عائد العمل في السعودية ودول الخليج، وهو ما جعل الشباب حينها ضحية للطموح المشروع، وللفكر السلفي الوافد الذي وجد فرصته في التمدد تدريجيا على حساب المذهبين التقليديين الزيدي والشافعي.

وبعد إعلان الوحدة اليمنية عام 1990م، وظهور المشروع الديمقراطي كعنوان مضاف للهوية السياسية اليمنية، اشتغل الفكر السلفي على الضد من الوحدة والديمقراطية والتعددية الحزبية، وعملت السعودية من خلال الوهابية السلفية على محاصرة التجربة اليمنية الوليدة والتشكيك في جدوى قيام نظام ديمقراطي وسط محيط شمولي استبدادي. وبالموازاة جرى الإمعان في حصار اليمن وإفقار دولته وشعبه، كسياسة عدوانية ممنهجة، استهدفت اضعاف اليمن وزعزعة استقراره مع محاولة طمس هويته الأصيلة بشقيها الديني والحضاري.

في إطار هذه السياسة جرى تدجين الرموز السياسية والاجتماعية والدينية اليمنية، وربطهم بمشاريع صغيرة كانت على الضد من المصلحة الوطنية العليا، ولا أستبعد أن الرياض كانت على صلة بمشروع توريث السلطة الذي كان سببا في تفجير ثورة 11 فبراير، من منطلق أن وأد الديمقراطية والجمهورية كان يعبر عن مصلحة مشتركة بين النظام السابق والملكية السعودية.

وقد رأينا كيف أن سطوة السعودية على اليمن قد ساعدها على احتواء انتفاضة الشباب، وكبح جماح المسار الثوري، من خلال المبادرة الخليجية التي منحت السعودية والخارج اليد الطولى في تقرير شئون اليمن، مع الإمعان في إفقاره وتجويعه، حتى لا تقوم له قائمة.

بيد أن ثورة 21 سبتمبر قد أعلنت عن إرادة شعبية، قررت العزم على الانتصار للسيادة والهوية معا، الأمر الذي رأت فيه السعودية خروجا على المألوف، وتجاوزا للخطوط الحمراء، فكان العدوان السعودي الأمريكي الذي يعد حاليا أكبر خطر محدق بالهوية والسيادة والاستقلال.

صراع الهويات والتحديات الراهنة

الهوية الجنوبية:

بسبب القهر السياسي وتداعيات حرب صيف 1994م، وفشل النظام السياسي في معالجة القضية الجنوبية سياسيا وحقوقيا، تولدت لدى النخبة السياسية في المحافظات الجنوبية نزعة من الكراهية وإنكار الهوية اليمنية، واستدعاء هوية منحازة للجغرافيا ومنفصلة عن التاريخ اليمني، والعمق الحضاري والإسلامي.

وقد استغل تحالف العدوان على اليمن هذه المشاعر، وعزز من دورها وحضورها في واقع أبناء المحافظات الجنوبية، وأوهم نخبتها السياسية بإمكانية دعم مشروع الانفصال واستعادة دولة الجنوب، ما داموا في صف ما يسمى بالشرعية، وعلى الضد من القوى الوطنية المناهضة للعدوان.

الهوية الطائفية

باتجاه ترسيخ الهوية الإيمانية، يجدر الانتباه إلى حقيقة الخلفية المذهبية المتجذرة في المجتمع اليمني، وهي خلفية تسامحية وتفيض بالتنوع والثراء الفكري في حال استقرت الدولة، وسادت العدالة والمساواة والكفاية الاقتصادية، لكنها قد تتحول إلى أداة صراعية مدمرة تقود إلى خلخلة النسيج الاجتماعي، وإذكاء الطائفية البغيضة وما تنطوي عليه من تعصب، وتطرف، وكراهية، وماضوية..  

وما يؤسف له أن الطائفية ليست مشكلة يمنية فحسب، بل إن كثير من الدول والمجتمعات العربية التي تعاني من هذه الحالة الصراعية غدت في مرمى الاستهداف الصهيوأمريكي، الذي يجهد ليل نهار باتجاه تفكيك الدول المحيطة والمقاومة لإسرائيل، وتوجيه بوصلة العداء إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومحور المقاومة، بالاستفادة من الخطاب الطائفي الذي تتبناه الأصوات المتطرفة لدى السنة والشيعة على حد سواء.

الهوية القومية والإسلامية

ثمة جدل عربي بشأن أولوية الانتماء، وطنيا وقوميا وإسلاميا، ومع أن دوائر الهوية يمكن أن تتداخل فيما بينها دون تضاد أو تنافر بالضرورة، إلا أن الصراع القومي الإسلامي العربي على المستوى السياسي والثقافي، قد أضر بالهوية العربية، وقدم الشخصية اليمنية على نحو مرتبك، وكما غالى الإسلاميون في تصورهم لانتماء اليمن للإسلام والأمة الإسلامية قبل كل شيء، كذلك فعل القوميون العرب بمختلف توجهاتهم.

وبالمثل فإن درجة الانتماء الوطني شهدت تراجعا كبيرا كلما استفحل الصراع العربي الإسلامي، وقد رأينا كيف فرطت النخبة السياسية والقبلية اليمنية في حدود وأراضي اليمن، حين فرضت السعودية اتفاقية جدة عام 2000م كأمر واقع، بل أن البعد نفسه كان حاضرا حين رضخت صنعاء ووقعت اتفاقية الطائف مع السعودية عام 1934م.

طفلان بأزياء يمانية

 العولمة والهوية المنغلقة

لأن الهوية تتشكل وتتحول على مستوى الفرد أو المجتمع، فليس هناك ثبات إلا بمقادير نسبية، وقد يؤدي اختزال الهوية في انتماء واحد إلى الانغلاق والعزلة، وربما يقود إلى التعصب والعنف الأعمى. كما أن الهوية الأحادية ليس بمقدورها تفسير سلوك ذاك الفرد أو تلك الجماعة، فللهوية أكثر من وجه، ويتعين إيلاء كل وجه حقه من الاهتمام.

وفي المقابل، فإن الانفتاح على العالم، واقتحام مناكب الأرض، لا يعفي الفرد من الحفاظ على الهوية الأصيلة بمختلف أبعادها. صحيح أن ثمة قواسم وقضايا عالمية مشتركة لا يمكن التغافل عنها، إلا أن التماهي في ثقافة الآخر قد تقود إلى التفكك غير المحمود.

أقرأ أيضا للكاتب:جرائم تحالف العدوان لن تسقط بالتقادم

*عبدالله علي صبري

سفير الجمهورية اليمنية بالجمهورية السورية

مراجع ومصادر

1- د. سيد مصطفى سالم: الفتح العثماني الأول لليمن 1538-1635، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1999م.

2- د. صادق عبده علي قائد: الهوية السياسية والحضارية لليمن في التاريخ القديم وعصر الإسلام، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م

3- د. زيد علي الفضيل: الحركة الثقافية في اليمن وانعكاساتها السياسية، سيبويه للطباعة والنشر والتوزيع، 2012م.

4- أمارتيا صن: الهوية والعنف.. وهم المصير الحتمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يونيو 2008م.

5- اليمنيون : عراقة في الدعوة إلى الإسلام https://www.islamweb.net/ar/article/4758

6- عدن في ظل النجمة الحمراء http://www.transeuropeennes.org/ar/articles/210.html

7- محمد أحمد الحميري: القبيلة في اليمن ودورها في الاحتجاجات الشعبية 2011-2012م، المركز الديمقراطي العربي https://democraticac.de/?p=53101

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى