الصورة والتصور في شعر الأستاذ قاسم بن علي الوزير
الصورة والتصور في شعر الأستاذ قاسم بن علي الوزير
الصورة والتصور في شعر الأستاذ قاسم بن علي الوزير
بدأ الأستاذ قاسم بن علي الوزير يكتب الشعر منذ حوالي ثلاثين عاما. ورغم جودة شعره إلا أنه لم يحفل إلى الآن بجمع شعره المتناثر في الصحف والمجلات، وفي ملفات الأصدقاء ونشره في ديوان. وربما يعود هذا إلى تواضعه، وربما يعود إلى إهماله وإشعاله بأمور أخرى، يظن أنها أهم من الشعر، وربما تكون له أسباب أخرى لا نعرفها، فالذي يهمنا هنا هو شعر الشاعر، ولذلك نأمل أن تكون هذه الدراسة مدخلا لدراسة جانب من جوانب الشعر اليمني الإسلامي المعاصر. فالشاعر قاسم الوزير سليل أسرة عميقة الجذور في تاريخ اليمن وطنية وعلما وأدبا. وقد غادر وطنه بالجبر والاختيار معا، وأصبح واحدا من الطيور اليمنية التي تعيش على الهجرة المستمرة، والطيران في أكثر من سماء، لهذا نجد في شعره خصوبة التجربة وصدق العاطفة. وإن كانت تجربته الشعرية تتفرد بما يميزها عن غيرها، إلا أنها تشترك مع تجربة شعراء اليمن الذين رفعوا أجنحتهم عن الوطن في أزمان متعددة، وحلقوا في سماوات الدنيا، لكنهم ما كفوا أبدا عن الشوق لأوطانهم والحنين إليهم. ?الرؤية والصورة الشعرية: وعلى هذا فالروح الغالبة على مجموعة القصائد التي بين يدي الآن هي روح الغربة في المكان والإغتراب في الزمان. فالشاعر كعضو حساس في جسد أمة تتداعى منذ قرون يعبر عن ألم عام يعيشه كل فرد فيها، والشاعر إذا ما صدق وأخلص في زمان الكذب والغدر يصبح ضمير الأمة صوتها المعبر عنها آمالا وآلاما. ونحسب شاعرنا قاسم الوزير من الشعراء الذين يجاهدون للتعبير عن أمتهم إسلاميا. ولذلك فنحن لا نرى في شعره الكثير من الصور الحسية. ولكن الأكثر منها هي الصور الروحية ـ إذا صح التعبير ـ والروحانية في الصورة الشعرية كما نفهمها هي أن ينجح الشاعر في مس أوتار القلب ولن يمسها إلا إذا صدق مع نفسه، إن لم يكن بشخصه فبروحه، وما أكثر ما تترك المعايشة بالروح من أثر. وإذا لم نجد كل ما نطمح إليه من مزايا التصور الإسلامي في شعره فإننا نلتقي بواحدة من أهم هذه الميزات.. نجد الكثير من لحظات الصدق التي توحي بالمعاناة التي تمس الروح وإن لم تترك على الجسد جروحا وفي نظري أنه من الصعب تقسيم الشعر الجيد إلى شعر سياسي وعاطفي وغيرها من هذه التقسيمات التي يكررها النقاد. إذا كانت القصيدة لحظة صدق فإنها تولد بلا عنوان، لأن تسمية المولود عادة تتم بعد ولادته وبعد التعرف على جنسه فمن الممكن أن نجد في قصيدة سياسية أوجها أخرى، وهذا عادة ما نجده في أجود القصائد، بصورة لا تخل بالوحدة الموضوعية للعمل الفني. ولعل أفضل الشعر هو ذلك الذي يتعرف فيه الإنسان على ملامحه الخاصة به، إضافة إلى تعبيره عن روح العصر ومقدرته على البقاء لأكثر من عصر. ? بين التقليد والإبداع: وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم شعر قاسم الوزير إلى ثلاثة أقسام: قصائد تقليدية لا تجديد فيها في الشكل ولا في المضمون مثل قصيدته الميمية صاحب الشفاعة التي يقتفي فيها أثر من سبقوه من أصحاب المدائح النبوية، دون أن يحاول تمييزها بشيء مما يميز عصرها. على أن هذا الاتجاه التقليدي قليل في شعره، ومن ثم فإننا سنتجاوزه لما هو أهم منه، ونكتفي بهذه الإشارة إليه. والنوع الثاني من شعر الشاعر هو القصائد التي تتوسل باللغة السياسية المباشرة، لكنها تبدع في خلق المعاني الجديدة، وإن سارت على درب قصائد سبقتها؛ مثل قصيدة صوت في المناحة التي ينقلنا مطلعها إلى أجواء عمر أبوريشة من حيث روح السخرية الساخطة التي تجدها في قصيدته المشهورة التي مطلعها: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم؟ وقصيدة قاسم الوزير الزاعقة تنطلق بهذه القوة في التدفق والاحتشاد، حين تتحدث عن آلام العرب والمسلمين في قافية صارخة كالرعد، حارقة كاللهب: أمة عانت من الموت طويلا فادفنوها لم تعد تجدي فتيلا أمعنت من زمن في موتها عبثا من ميت ترجو مقيلا! لا تقولوا عرب قد ذهبت نخوة كانت هي الأصل النبيلا! ذهبت غير بقايا لم تزل في ربى بيروت تأبى أن تزولا فنحن نجد القصيدة تزدحم بالحركة، وبالأصوات المدوية، وبزخم كبير من المشاعر، فكلمة فتيلا توحي بقرب الانفجار، ثم نجد الانكسار في ضياع الأصل النبيلا وفي رؤية الحق قتيلا. وعندما نبحث عن الأسباب نجدها في نهايات بعض الأبيات مثل قالا وقيلا وهي صورة لحياتنا اليومية ثم نجدها في الروح الانهزامية عندما نجد بيتا آخر ينتهي بقوله نصرا مستحيلا، ونجد الجواب في بيت آخر ينتهي بـالفعل قليلا. وهكذا إذا أخذنا آخر كلمتين في كل بيت فإننا نجدها تشكل لنا مقالا سياسيا تحليليا لقصة أمتنا. ثم يعرج قاسم الوزير على فلسطين، ويقف عندها بمرارة يلخص الواقع في بيت واحد، بيت يزن قصيدة بحالها، يقول فيه لفلسطين: فاطلبي ما شئت إلا نجدة وسلي ـ غير الفدى ـ قالا وقيلا وقد أثبتت الأيام أن نجدة من خارج الأرض المحتلة مستحيلة، وأن بركان الحجارة الذي تفجر لعدة أعوام في الداخل هو أحد سبل التحرير. وقد يتخذ الشاعر من مرثية في مناسبة سقوط شهيد وسيلة لإشهار سيفه وإعلان غضبه في قصيدة .. وغاب فارس عن الميدان. ويبدو فيها كالزبيري يعري البطولات العربية المزيفة، ويكشف الستار عن الأصنام الخشبية التي نخرها السوس والزيف ويستثير الهمم، ثم يغضب ـ ما نحسبها إلا > ـ غضبة تذكرنا بروح شاعر الإسلام أحمد محرم، غضبة تهتز لها جنبات القصيدة في أذن السامع وقلبه وهو يقول: أأذلاء والكتاب بأيدينا ويعلي رؤسنا الإيمان أجياع ونحن سخرت الأرض لنا والبحور والأكوان أو جهل والعلم بعض عطايانا وفينا تنزل القرآن أو ظلم والعدل شرع من الله فكيف الجحود والنكران ثم يصل إلى الحقيقة المرة التي يتجرعها كل مسلم وهو منكسر القلب واليد، لأنه يحسب أن لا حول له ولا قوة في شيء إن لم يكن هو قد صنعه فقد سكت عنه: نحن كنا نعم! ولكننا اليوم على الأرض سبة وهوان نحن سلم مع العدو ذليل ومع ا> ثم حرب عوان وفي قصيدة بلا سيف أو شكوى الذرى الشم نجد الشاعر يحاول أن يضع أصابعه على مواطن الداء في جسد أمته. الشاعر لا يقول ما تعود أن يسميه أو يقرأه، لكنه بإيجاز بليغ يقف وقفة صادقة مع النفس، وفي بيتين حكيمين يشخص لنا المرض وأسبابه: هنا على الناس.. إذ هانت مرابعنا ومن يهن يلق ذل العيش والعطبا إنا لنلقي على الدنيا مآسينا ونحن، في كل يوم، نصنع السببا! وفي صراحة ـ يدمى لها القلب الغيور على أمته ـ يعدد الشاعر هذه الأسباب: بأن كل شيء قد بيع.. الدماء.. المروءات.. النفوس وكل شيء حتى: بعنا عرانين لبنان وإخوته شم الأنوف! وبعنا السهل ملتهبا! بعنا الخيول على الميدان مسرجة بعنا السيوف وبعنا الشعر والأدباء وتصل عملية التعرية التي يقوم بها الشاعر للضعف في النفس العربية، وهو لم يخص القيادات العربية وحدها، ولم يقل العرب ولم يستخدم ضمير الغائب، ولو فعل ذلك لجعل من نفسه شاهدا ومتفرجا، ولكنه أشرك نفسه في المسئولية وقال نحن بعنا بهذا جعل تعبيره أكثر تأثيرا وواقعا في النفس لأنه قد أشرك القارئ واشترك معه، لأن المسؤولية جسيمة والتهمة عظيمة.. ولو برأ الشاعر نفسه منها لما خلا من اتهام: ولو قدرنا لبعنا كل عابرة من النسيم تضم العطر منتحبا لم يبق شيء بأيدينا لمدخر حتى الكرامة بعناها لمن طلبا ثم انثنينا بلا سيف ولا قلم نبيع أنفسنا التزوير والكذبا هذه لحظة من لحظات الصدق التي يتفرد بها جيل من شعرائنا المعاصرين، الذين اتجهوا في شعرهم السياسي، إلى المواجهة بالحقيقة والصدمة بالصراحة. وكان هذا الشعر السياسي المباشر الصرخة في وجوه من حطت على رؤوسهم الطير، والكي في جسد ما نفع فيه طب ولا دواء، وجاء هذا النوع من الشعر منطلقا من الإيمان بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ? التعبيرية الإسلامية: وفي قصيدة أو ليس غير الحزن يرثي أحد المجاهدين، يتفوق قاسم الوزير بما يمكن أن نسميه بـالتعبيرية الإسلامية في الصورة الشعرية (والتعبيرية هنا لا علاقة لها بمذهب التعبيرية عند الغربيين). فالشاعر يتحدث عن حمل السلاح بمفهوم إسلامي نقي، عندما يكون الجهاد فريضة وعبادة: العاكفون على السلاح عبادة الراكعون على الجهاد السجد القارئون الموت رتل بعضه ناج وجود بعضه مستشهد أدى صلاتهم صليل سيوفهم فلهم بموضع كل جرح مسجد لعل هذه الأبيات تعد من أجمل الصور التعبيرية الإسلامية في شعرنا المعاصر، إنه إحساس الشاعر الضاغط بمسئولية فريضة الجهاد، في عصر وجبت فيه هذه الفريضة أكثر من أي عصر آخر. هذا الإحساس الضاغط نجده يقف وراء الصورة الشعرية في هذه الأبيات. فكأن الشاعر يقول لمعاصريه في البيت الأول إن اعتكاف المسلمين اليوم على السلاح هو أوجب من الاعتكاف في المساجد مثلا، مادامت أرضنا تغتصب وأعراضنا تنتهك. لهذا نجد المعادلة تتساوى في كلمات البيت الأول بين كلمات الجهاد وكلمات العبادة فنجد أن: العاكفون، الراكعون، السجد، عبادة = السلاح، الجهاد. وإن لم تصح هذه المساواة في ميزان الشعر فهي تصح في ميزان التصور الإسلامي. فإذا ما جئنا إلى الصور في البيت الثاني، نجدها تزدحم بالحركة، فبالرغم مما يفيض به الموت من سكون، فإنه في هذه الصورة يبدو حيا متحركا على أكثر ما تكون الحركة: القارئون الموت رتل بعضه ناج وجو بعضه مستشهد فـالعاكفون على السلاح هم القارئون الموت. ثم إننا نجد أن المجاهدين نوعان، نوع يرتل بالحياة ونوع يجود بالموت، وإذا عرفنا أن التجويد والترتيل يرتبطان في ذهن المسلم بالقرآن الكريم، والقرآن في عقيدة المسلم هو الحياة التي لا تعدلها حياة، جنة في الدنيا إذا ما احتواها قلب المؤمن كانت طريقه إلى جنة الآخرة، فإن الشاعر عندما يجعل من المجاهدين قارئون للموت يرتله الناجي ويجوده الشهيد، فإنما هو يعكس التصور الإسلامي الذي يقول إن الموت والحياة في ساحة الجهاد يستويان في ميزان المؤمن، إن مات فهو في الجنة وإن عاش فهو في طريقه إلى الجنة. ومضمون البيت عموما يوحي بالحكمة الإسلامية: احرص على الموت توهب لك الحياة. ومن هنا كان توفيق الصورة الشعرية في الإيحاء بالمفاهيم الإسلامية في شكل جديد. وفي البيت الثالث نشهد جانبا آخر من اللوحة، جانبا يصور لنا روعة وقدسية الجهاد، فصليل السيوف هو صلاة، والجروح على أجساد المجاهدين هي مساجد: أدي صلاتهم صليل سيوفهم فلهم بموضع كل جرح مسجد وهذا لا يتم إلا إذا كان الجهاد خالصا > وحده، فصليل السيوف صلاة، وهو كناية من التكبير الذي يرتفع في ساحات الجهاد. وصليل السيوف هنا أيضا يوحي بحالة الانتصار وفيها الله أكبر، وفي الشطر الثاني لا نفتقد الله أكبر فما دام جرح المجاهد قد تحول إلى مسجد، فهناك إذن الله أكبر، وما دامت الله أكبر في شطري البيت فقد اعتدل واكتمل ميزان التصور الإسلامي فيه، وحيثما حلت الله أكبر بصدق كان هناك نصر، والله لا يضيع أجر العاملين. فهنيئا للشاعر على صدق التصور ودقة التصوير. ? شعر الرمز والإيحاء: والآن انتقل انتقل إلى الجزء الثالث وهو الأكثر في شعر قاسم الوزير. وهو في نظري أجود شعره؛ لأنه يقوم على الرمز والإيحاء أكثر من التصرح والمباشرة، ولأن الصور فيه ـ وإن كانت تعبر عن عصرها ـ إلا أنها قابلة للسفر إلى أكثر من مكان، وللحياة في أكثر من زمان. ولعل أكثر الصور التي تملأ أجواء القصائد وتسيطر عليها هي صور الغربة والاغتراب. وأهم ما يميز هذه الصور ويعطيها أصالتها الفنية وديمومتها هو الجانب الإنساني فيها. وأقصد بذلك أن الشاعر لم يتحدث في هذه القصائد عن نفسه كمغترب يمني في هذه البلاد أو تلك، ولم يتحدث عن همومه الشخصية أو هموم وطنه اليمني، لم يقل كل ذلك صراحة، ولو فعل ذلك لأصبح شعره نوعا من الأخبار الصحفية أكثر منه قصائد شعرية، ولحصر نفسه في دائرة صغيرة من الزمان، ودائرة أصغر من المكان. ولا نعني بهذا أن على الشعراء ألا يذكروا أوطانهم بأسمائها في أشعارهم، وألا يتحدثون صراحة ومباشرة عن همومها التي هي همومهم، ولكن هذا نوع آخر من الشعر، تحدثنا عنه في القسم الثاني من قصائد الشاعر، وفيه من الجيد الصادق الذي لا ينكر. ولكن هذا النوع الثالث من شعر الشاعر، والذي لا أريد أن أضع له أسما غير الشعر وهو أفضل أنواع الشعر في نظري، لأنه يتحدث عن التجربة الشخصية من منظور إنساني، أي أنه يبلور التجربة الشخصية لتتحول إلى تجربة إنسانية، فإذا قرأها إنسان في الصين أو أمريكا مثلا تنقل إليه نفس الصور والمشاعر، ولكن بنكهة عربية تميزها، ويصدق هذا على الزمان كما يصدق على المكان. وهذا اتجاه معروف في تاريخ النقد والأدب العالمي، على أن الفارق أننا لا نقول إن كل الشعر يجب أن يكون بهذه الصورة. وإنما هو من أجود أنواع الشعر. ? تجربة الغربة والاغتراب: وكما قلنا إن تجربة الغربة والاغتراب هي الهم الضاغط على معظم قصائد الشاعر، وهي اللحن الحزين والمميز لـ سيمفونية الحياة عنده. وحتى قصائد الحب التي يتحدث فيه قاسم الوزير إلى المحبوبة نجد ظلال الحزن تسيطر على ألوانها، فهو لا يفتأ يتحدث عن الغربة عن حلم العودة إلى الوطن، وفي معظم الأحوال نجد المحبوبة ترمز لوطن أو لقضية كبيرة على نحو ما نجد في قصيدة من أغاني التيه التي يتحدث فيها عن أحوال الغريب: من للغريب إذا هو اغتربا في الأرض: يضرب كل مضطرب لا تسأليني كيف أنت؟ نبا بي حظ مرتقب ومغترب ثم نعود فنجد أن أغاني التيه عند الشاعر هي معاناة الغربة والإغتراب، ولن ينتهي هذا التيه إلا بالعودة: يا أخت نفسي ليس ينفعنا هذا المتاه وليس يجدينا لن تقهر الدنيا سواعدنا إلا إذا عدنا لوادينا وحديث الغربة مرافق دائم للحديث عن هموم الوحدة التي يعاني منها الغريب، وإن كان في زحام من الناس. ويتوسل الشاعر بحديث الحب ليتحدث عن محبوبة عظيمة عاش حياته يحلم بلقاها، وسواء أكانت هذه المحبوبة امرأة أم أرضا يحلم بالعودة إليها، فخاطر الشعور بالوحدة لا يهدأ، والصراخ بالعودة إلى أحضان الحبيب يلح عليها، وهذا الشعور نسمعه عليا في مطلع قصيدة حادي الحب: يا حبيبي أين ألقاك، فقد طال عذابي؟ ومتى أنسي بأحضانك همي واكتئابي؟ يا حياة الروح في الدنيا ويا حلم الشباب شفني الشوق وألوى بأماني العذاب وأنا مازلت وحدي نائحا أدعو حبيبي وقد ولدت تجربة الغربة المريرة في نفس الشاعر رفض فكرة السفر وكل ما يتصل بالفراق. ففي قصيدة أغنية للعاصفة التي يهديها إلى الذين قالوا له: معنا غدا وأبحروا نحو شواطئ الدعة يقول لهم الشاعر: إني حطمت الشراع لأبقى على الأرض الملتهبة. لقد خرج من تجربة التجوال والترحال بحذر شديد: معنا غدا.. لا.. لا.. دعوني إني لترعبني ظنوني ماذا يخبئ لي الزمان إذا خرجت إلى السكون ورغم ما يوحي به ظاهر الصورة من مشاعر الخوف التي نجدها في كلمات الرفض لا.. لا.. دعوني ونجدها في الرعب الذي تحدثه الظنون إلا أن المفارقة تبدي لنا أن الشاعر يخاف الخروج من الخطر إلى الأمان والدعة، إنه يريد أن يبقى داخل الأرض الملتهبة ثم تجده يتساءل في البيت الثاني: ماذا يخبئ لي الزمان إذا خرجت إلى السكون وهنا تتضح لنا الصورة وتكتمل ملامحها: فهو أشجع من أن يغتر بدعوة الذين قالوا معنا غدا لأنه عرف سلفا أنهم كانوا سيبحرون إلى شواطئ الدعة، فحق له التساؤل عندما قرر البقاء، أن لا أمان للزمان إذا خرج إلى السكون. ولذلك نجده في الأبيات اللاحقة يتغنى بديار الأرض الملتهبة، كأنه يريد أن يقنعنا ويقدم مسوغاته بأسباب البقاء: تلك الديار وقد فرشت إلى مباهجها عيوني وسقيت من قطرات قلبي غرسة الأمل الحنون وبنيت لي بيتا كأحلامي من الشعر الحزين وجبلت أيامي بأشجى ما تهدج من لحوني ووضعت أفراحي وأحزاني كما تهوى فنوني أنا لا أطيق سوى البقاء.. هنا على وهج الجنون وهكذا ندرك استحالة الرحيل مع الذين قالوا له معنا غدا: كيف يرحل معهم وقد سقى من قطرات قلبه الأمل الحنون الذي غرسه في الوطن؟، أيهجر بيتا بناه على ثراه من الأمل الحزين؟ ففيه وضع أشجى ألحانه واختلط بفنه أفراحه وأحزانه، لذلك فهو لا يطيق سوى البقاء هنا وإن كان على وهج الجنون. هذا الضرب من الجنون، هو أفضل لديه من الرحيل الذي يعلن صراحة أنه يخاف منه: إني على قلق الرحيل.. أخاف منه.. من الرحيل ما قيمة الأيام فارغة من القلق الجميل إن القلق الذي يصنعه الرحيل هنا ليس من نتائج الجبن والتردد، ولكنه خوف المحب على فقدان الحبيب والقلق الدائم الذي يساور هذا المحب على المحبوب، فليس أحب إلى قلبه من الوطن، ولا أقرب إليه منه، فكيف لا يقلق وكيف لا يخاف وإن كان في الأمان الذي لا أمان بعده؟! ثم يأتي البيت الثاني ليحل لنا المسألة حين يسمي هذا القلق بالقلق الجميل، والأيام فارغة لا قيمة لها بدون هذا القلق الجميل وهذا صحيح، لأن قلق المحبين الذين لا يكف عن التوقف حتى في لحظات الأمان هو المضخة التي تكفل لهذا ا لحب الحياة والتي تضمن استمرار توقده وجذوته، وبه تتحول حياة إلى الحياة وتتحول كلمة حب إلى الحب إذ لا يكتمل معنى هاتين الكلمتين دون الألف واللام كما يقول العقاد.. وعلى هذا نجد أن النفس الأخير في القصيدة يزدحم بمعان تذكرنا بصرخات الزبيري ـ رائد الشعر الوطني في اليمن الحديث ـ تلك الصرخات التي يقبلها العقل ويستعذبها القلب وتستطيبها النفس، لأنها تتصل بأفكار هي أقرب ما يمكن أن يصل إليه عقل، ومشاعر هي من موطن القلب تنبع، وخلجات لا تنفثها إلا نفس لا تلتذ إلا بالعيش في الوطن الحبيب. لهذا يجب ألا يساورنا العجب عندما تجد المقطع الأخير في القصيدة يبدأ بـلا لأنها الحرف الرافض، والزاعق الذي يوحي بالرفض المطلق، الذي لا يقبل المساومة لكل أشكال الحلول الأخرى. فـلا كما سنرى هي الطريق الصلب أو السد المنيع، إن شئت، والذي أغلق الطريق لما قد يأتي من محاولات الإقناع قبلها، وهو الطريق الذي سهل العبور لكل جمل الرفض من بعدها: لا.. لن أسير، هنا مكاني فاتركوني يا رفاقي! أنا لهفة الشعر الطليق ولوعة الدمع المراق أنا خفقة الطير المبكر في الصباح إلى السواقي أنا بهجة اللقيا تبدت بعد غاشية الفراق أنا أنة الباكين في ليل التعاسة والشقاق أنا صيحة الثوار.. غضبتهم على عفن النفاق أنا صبح هذا الأيك: يطويه وينشره عناقي! ها قد رجعت إليه.. أنفض عنده بعض اشتياقي ولقد شربت من اللقاء.. فلن أعود إلى الفراق هنا نجد الشاعر بعد أن قال لرفاقه لا.. لن أسير، هنا مكاني وطلب منهم أن يتركوه، وجد أنه لزاما عليه أن يبين لهم لماذا قال لهم لا، ليبقى في الأرض الملتهبة. ذلك لأنه يمثل لهفة الشعر الطليق الذي يعبر عن صوت الأديب الحق الذي يعيش بين الناس يصور آمالهم وآلامهم، فمن غير الشاعر يستطيع أن يعبر عن بهجة اللقيا.. لحظة السعادة في أن يلتقي إنسان بوطنه بعد فراق طويل أو اغتراب مرير، ومن غير الشاعر يترجم أنة الباكين إلى لغة القلوب والمشاعر لأن أحدا لا يسمعها في ظلمة ليل التعاسة والشقاق. فإذا ما وصلت أنة الباكين للذين يهمهم أن تصلهم تحول الشاعر بعد ذلك إلى رمز لصيحة الثوار، لأن هذه الصيحة عادة لا تنطلق إلا إذا سمعت أنة الباكين، فيؤدي ذلك إلى أن ينهض من بين السامعين من يصيح ثائرا غاضبا على عفن النفاق. وهذه هي رسالة الحق في الأمم الحية، يعبر عن آلامها وآمالها، يبشر وينذر، ويحذر ويتنبأ والشاعر لا يستطيع أن يفعل هذا إلا إذا اشترى دينه بدنياه، لا يزيغ بصره بنجم ضال، ولا يتحول إلى صدى الصوت أي فرعون، وإنما يحل في ضمير الأمة ليعبر عنها ويجعل من نفسه أحد قلوبها السليمة ليسمع الناس دقاته وقت الخطر وزغردته وقت النصر. وربما لهذا كله أو لبعضه قرر شاعرنا البقاء في الأرض الملتهبة وحطم الشراع على الشاطئ ولم يبحر مع الذين قالوا له معنا غدا بكل ما توحيه الكلمة من إغراء بالرحيل ثم قال لهم لا، لأنه لا يستطيع أن يكون ضمير الأمة وهو بعيد عنها، وقد أدرك هذه الحقيقة عندما غاب عنها، لذلك نجده يعود ويقول بلهفة المشتاق: ها قد رجعت إليه.. أنفض عنده بعض اشتياقي ولقد شربت من اللقاء.. فلن أعود إلى الفراق! ? الشعور بالوحدة: وفي قصيدة نحو شروق لا يغرب يرسم لنا الشاعر صورة هم ثقيل يرسف في ظلمة ليل طويل، ويشكو الشاعر من معاناة الشعور بالوحدة. إن الدنيا تتحول في عين الشاعر إلى قبر صغير مظلم: ما أهولها: هذي الظلمة! والريح.. وراء الجدران تعوي.. تعوي وتتكاثف الظلمة حول الشاعر، وهو يشعر بضيق الدنيا على سعتها، وظلمتها على نورها. إنها دنيا يرى فيها انتشار ظلام الظلم والباطل على نور العدل والحق، ثم نجده بعد ذلك يرسم لوحة لدينا أظلمت جوانبها من روع الظلم.. دنيا يعاني فيها الإنسان المسكين من الجوع والخوف والحر والبرد والهم والغم والحزن، ولا أرى هذه اللوحة تنطبق على حال أصدق من حال الإنسان المسلم في كثير من بقاع الأرض الذي يصرخ: ليس هنا إلا الظلمة فتكومت على نفسي أقضم من جوع لقمة وألملم من برد جسدي وأخبىء من خوف رأسي وأنا أهذي من فرط الغمة! وطفقت أغني في سري لحنا أبكم لحنا ـ كحياتي ـ مبهم ودموعي في صمت تجري وبصمت تتجمع لكن هذا الإنسان الذي أنهكه برد الليل الطويل، وقتله الخوف حتى جعله يخشى على رأسه من الظهور في العراء لئلا يقطع بأيدي الظلمة.. هذا الإنسان أصبح مجنونا أو كاد، بعدما طال عليه الليل، وطال عليه تكميم فمه، فتمتم بلحن أبكم لا يفهمه إلا الذين يشتاقون إلى النور في عالم الظلام ثم يتكاثرون بعد ذلك كالنجوم في السماء فلا تستطيع ظلمات الليل أن تخفيهم. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (22)بتاريخ (1420هـ)