صنع في اليمن .. (8) المعاناة
قدمت فيما سلف جانبا من المعاناة التي قاسيناها فجر عمل المقاومة، وذكرت إلى جانب النضال السياسي معاناة الفقر والجوع و الإذلال حيث لم يكن لنا من ثياب إلا التي علينا وأننا لم نعد نعرف مذاق اللحم إلا نادرا، وأن طعامنا كان الخبز الجاف و “القفوعة القافحة” نأكلها على “المطيط القافحة” و “الحلبة” بالماء الفائر، بدون مرق الخ ، واليوم سأروي معاناة من نوع أخر من المعاناة لا بهدف ما قاله الشاعر “أحيحة بن الجلاح”
مَهلاً بَني عَمِّنا فَإِنَّكُم أجَرتُم في الضَلالِ فَاِقتَصِروا
ولكن من اجل التاريخ واستخلاص العبر والعظات، حتى لا تتكرر المظالم بين الناس، وحتى لا تختفي الجرائر عن أعينهم في طي النسيان فلا يتجنبونها ولا يستفيدون من عظاتها، ويعلم ألله أنني ما كنت أرغب في الحديث عنها من أجل ما حل بنا من قسوة، ولكن ليستفيد من ينوي الظلم أن يتجنبها، ويتجنب آثامها ويعرف أنه بمظالمه يعلِّم الناس كيف يظلمونه، وأن مظالمه دروسا يطبقونها عليه إذا دال أمره.
وألفت النظر- للعبرة والعظة- أن المظالم التي أنزلت كانت على من لم يبلغ سن الرشد ولم يتجاوز الثامنة من عمره، ولم يكن شريكا في العمل لقيام الثورة الدستورية. أما الذين قاموا بالثورة فقد اعدم كبار قادتها وسجن البعض وتشرد البعض، فما بال الرضع والأطفال والنساء والعجزة. ومع ذلك فلم أنو كتابة ما اكتب من اجل ما حدث بنا- ولي الحق في ذلك- وإنما من أجل إلا تتكرر المظالم التي يمارسها أي ظالم، فالتاريخ عبر وعظات.
التيفوئيد
إلى جاب المضايقات النفسية وقعنا-أختي حورية وأنا- طريحي الفراش بمرض خطير “التيفوئيد”، ويدعى أيضا مرض السباعي لأنه يحل في الجسد أسبوعا فأما يشفى أو يموت ولا ثالث له، فراجعوا السيف “الحسن” بإرسال صحي لمعالجتنا، ولما وصل كان موضوع ضيافته مشكلة كبرى، فلا نملك قوتا يناسب ضيفا، وفي الوقت نفسه أبت نفوس العائلة أن تظهر له فقرنا وعوزنا وبؤس معيشتنا، فجاءت النجدة من بعض “أهل الهجرة” فزودنا بما يلزم من سمن وعسل الخ، وأمكن-بمساعدتهم الكريمة- تلافي مظهر الفقر، فقدمنا له فطورا لائقا، وليتنا لم نفعل، لأنه عندما عاد إلى “صنعاء” طلبه السيف “الحسن” ليسأله عن أحوالنا وطأنه أرسله ليستطع له حقيقة أحوالنا في داخل بيتنا، وإلا ما عرفناه يقابل صحيا، فقال له: أنه يتمتعون بعيش رغيد.
على كل حال لما شفيت أنا وأختي من هذا المرض، كنا نعيش في حالة جوع شديد، وكان شم الأكل يفتح الشهية بكل طاقتها ولم أطعم في حياتي زادا ألذ ولا أشهى من كسرات الخبز، أو قطعة اللحم إن تحصلنا عليها في تلك الفترة.
وفي خلال المرض لم نعد نعرف ما يجري، وعندما أفقنا، علمنا بأن الأخ “يحيى” قد أعطي الأمان، وزال عنه الخطر فخرج إلى الناس فرحا بحريته المحدودة. لكنه جوبه بمرض زوجته السيدة “خديجة الأهدل” بمرض في العظام يحرقها، لم يعرف سببه وكانت تعاني منه معاناة شديدة ولا من طبيب ولا من علاج، وكان المصدر المتوفر الطب الشعبي القائم على الوراثة وتشابه الأمراض والشعوذة، ، ولم يترك الأخ يحيى بابا إلا طرقة مع شدة فاقه وعزة نفس تمنعه من أن يمد يده إلى أحد سوى ما يأتيه من أمواله – التي لم تصادر- والذي كان منه أيضا يصرف علينا جميعا على قلته.
وأمرّ من التيفوئيد
وفي خلال هذه الأثناء قدم علينا الوالد العلامة “عبد الرحمن الشامي” لزيارة حفيدته من جهة الأم أختي “أم هاني”، لقد كنا في فقر مدقع فعلا، لم أعد أتذكر كيف استقبل ولكنه-وليته لم يفعل- ترك لنا طاقة بز “مريكني” نخيط منها ثيابا، أمر بها السيف “الحسن”، وهو نوع من الثياب الذي يلبسه الفقراء المدقعون، ولم وهو لم يكن يفعل في الماضي حيث كانت هداياه –ونحن لسنا بحاجة لها- من نوع آخر، أما اليوم ونحن بالحاجة إلى هدايا تليق بحالتنا النفسية ولا تعرضنا للإذلال، فقد كان من المفروض أن تكون في نفس المستوى الأول، أو على الأقل إلا تكون إطلاقا. وعلى كل فقد غادرنا رحمه الله مخلفا ورائه حسرة على فراق أختنا، وعلى ألم لما ترك من هدية أساءت إلينا.
المقذي
وفي مجتمع خلى من طبيب وخلى من علاجات أصبح للشعوذة مكان فسيح، وللسحر محال رحيب، وقد شاهدت المقذي وهو يتلو على أحد مريضاتنا ويمسح بالعطب الأبيض- بعد أن أرانا صفائه ونظافته- على صدر المريض وهو مستمر في التلاوة، ثم يبعدها عن صدره فإذا فيها دم اسود ويخبرنا أنه قد انتزع “العين” الخبيثة، ويغادر المكان بعد أن يتقاضى أجرته. ومع أن بعض المرضى يحصلون على الشفاء بفعل مقاومة الجسم لمرضهم إلا أن فضل النتيجة تعود “للمقذي”، وإذا لم يشف المريض فهم يتطلبون “مقذيا” أقوى.
فيا ظمئ وهذا الماء جار
وصادف فترة موسم العنب. وبحكم مصادرة أموالنا فقد حرم علينا حتى جني عنقود من العنب. ويبدأ الخريف عادة من شهر مايو، ويستمر إلى نهاية سبتمبر وبعد شهر على فشل “الثورة الدستورية أي في شعبان/ مايو، بدأ موسم العنب، وكان غدقا مثمرا، وكنا نرى كل أموالنا من حولنا وعناقيد العنب تتدلى من غصونها فلا نقدر على المساس بها لا من خوف السلطة فقط، وإنما من جشع معظم الشركاء الذين كانوا يرفضون أن يمدونا حتى بتنكة عنب أيضا، وإزاء هذا قررنا السطو على ممتلكاتنا فكنا نذهب ومعنا تنكة فاضية فنملأها ونعود، وأحيانا نصدم بـ “الشريك” فندخل معه في معركة كلامية ونقول لهم: هذه أموالنا ولن يمنعنا عنها ظالم، أو يردنا عنها ظلم، وذات يوم ذهبنا – “إبراهيم” و “علي ابن محمد الكدف” وأنا، إلى مزرعة عنب فوجدنا “العجل” شريكنا في موضع “حق الغيثي”- وهي من أجود أنواع العنب، وقد أوصى بها أبي مخرفا لـ “أهل الهجرة”- ، وكان شيخا عجوزا، فطلبنا منه أن يسمح لنا بقطف بعض العناقيد أو يقوم هو به، فرفض رفضا باتا، وتلاسن مع الأخ “علي الكدف” ودنى منه “علي” ومسك بلحيته وقال له: استحي من هذا الشيب أن المال مالهم، وكأنه شد عليه فانقصفت بعض الشعيرات البيض، وقد رأيتها بين أصابع الأخ علي تتطاير، فرفع عصاه ليضربه فاحتضنه علي ورفعه إلى الهواء: وأبقاه على ما هو عليه بدون أن يلحق به أذى، فقال له: اتركني وإلا سأعيّب، قال: عيّب؛ فرفع صوته صارخا: ياعيباه، فخفنا أن تلتف علينا بعض أفراد أسرته فيلومننا وربنما يلحقون بنا ضرار اعتمادا على الدولة ضدنا ومعهم، فتركناه وعدنا خائبين بدون عنب، وكان صوته ما يزال يعيّب عندما غبنا عنه، ولم يكن لحسن الحظ حوله أحد، وعندما جاء الليل جاء أبناؤه في المساء عاتبين علينا، غاصبين منا، وانتهى الحوار إلى أنهم سيزودوننا ببعض العنب ليلا بين الحين والأخر خوفا من أن تعرف السلطة بذلك، ومرة ذهب أخواي “قاسم” و “محمد إلى “الشعب” وكان شركاؤه هم ابنا “العجل العجوز” نفسه، ورجعهم الشريك بعنف ولم يسمح حتى بعنقاد عنب واحد، فما كان من الإخوان إلا أن تسللوا إلى تحت “السريف” وقطفوا العناقيد وتركوها في الأرض وذهبوا، وذهب الشريك إلى العامل يشكو بهم، وكان صعبا على سمعة العامل أن يتخذ منا موقفا شديدا خشية ملامة الناس له، فوعده بضبط الأمر ولكنه أوعز إلى احدهم أن يسوي الأمر فسوي بنفس الطريقة التي سويت مع أبيهم، وهكذا كنا نظفر ببعض العنب.
وكانت هناك طريقة أخرى لأخذ العنب من الأماكن البعيدة، تولته أمي فكانت تستعير حمارا أو حمارين، وتهبط إلى “حقو الخير” ومعها بعض المرافقين فتصلي العشاء بجانب “البركة” بينما المرافقون يقطفون العنب والشركاء لا يتكلمون بشيء خجلا منها، ولطفا منهم.
*
على أن أصحابنا من “الهجرة” وهم لا يملكون إلا نزرا يسيرا من الأعناب كانوا يستضيفوننا إلى حقولهم أحيانا. كالعم المرحوم “علي بن حسن عثمان” الذي كان يستضيفنا إلى حظيرة عنب في “بير عقيل” وكذلك المرحوم الأخ “عبد الله الغزي” رغم مرضه حيث كان يتحامل على نفسه ويذهب بنا إلى حظيرته فيقطف لنا ما شئنا من عناقيد العنب، أما العم “إسماعيل بن أحمد عثمان” وهو لا يملك إلا غرسة أو غرستين من العنب فقد أعطانا مفتاح كرمته لنأكل منها ما نشاء. لقد وهبنا كل ما يملكه حتى لا نحس بالحرمان من تذوق العنب. لقد كان أكرم من رأينا في حياتنا فعلا.
وكان بعض شركائنا الأخيار يصعد قبل الفجر في خوف وتوجس فيترك لنا تنكة من العنب أمام المنزل وينسل في جوف الليل راجعا. وفيما بعد عرفنا أنه الحاج “منصر” شريك الجوفية فرحمه الله. وذات يوم وقفت أمام البيت سيارة محملة بالعنب أرسلها السيف النبيل “يحيى” هدية لنا ولأولاد العم “مُحمد الوزير” من أعنابه بـ “وادي رما” فكنا نتقاسمها ونشرك معنا بعض أصدقائنا.وكان السيف “يحيى” هو الذي تمكن من الانقلاب على الثورة وألقى القبض على “إمام الدستور”، وكان هو الذي رفض بشجاعة أن يبايع الإمام الدستوري، لكنه كان يعاملنا كما كنا في الماضي بلا شماتة ولا احتقار، لقد كان يحارب بطبيعة فارس.
على أن هناك بقيت شجيرات بلس التين مباحة فكنا نذهب إلى “باب القلت” فنجني منها ما يكفي لساعة الإفطار الرمضاني ونضعها في قصعة مفتوحة ونذهب إلى المسجد فنحطها فوق “سور الصوح” لتبرد وعندما يؤذن السيد “محمد عثمان” لـ “صلاة المغرب” كنا نتناول منها ويشاركنا فيها العم “عبد الوهاب الأشول” بوجهه الضاحك وقامته الطويلة.
والمعانات مستمرة