حجة الثمرة الأطيب في كرمة الحضارة اليمنية
إذا كانت الحضارة شجرة فغصن السلام فيها حجة ومن تلاقح ـ التنوع والثراء وسعة السلام والحوار والقبول بالأخر ـ واسمي القيم الإنسانية ببيئة الحياة المكانية أخرجت عملية الفوح واللقاح أجمل وأطيب ثمار حضارة اليمن السعيد ،وكان أطيب الثمار حجة منذ الأزل وحتى ألان فمنذ أن بدأت رحلة الحضارة في جنوب جزيرة العرب وحجة حاضرة في المشهد فقد دلت الحفريات على وجود متعلقات وأدوات حجرية تم العثور عليها بضفاف وادي مور على أن الإنسان استوطنها في العصر الحجري ،وتشير المخربشات والإشارات التي يمكن ملاحظتها على جدران الكهوف والمغارات في مديرية المفتاح إلى أن علاقة الإنسان بالمكان تعود إلى عصور موغلة في القدم . وإذا كانت الحضارة في أي مجتمع من المجتمعات تتأسس على التالي :ـ البيئة والمكان وما يزخر به من مقومات الاستقرار .ـ والإنسان وما لديه من الخبرات والمعارف في جوانب الحياة المختلفة .
فان الموقع الفريد لحجة التي تمثل مركز اللقاء لسلسلة المرتفعات الجبلية القادمة من الشمال سراة الحجاز والمتجهة نحو الجنوب حتى باب المندب ،ونقطة اللقاء بين الهضبة والسهل الساحلي لتهامة ،فان هذا الموقع المتميز جعل من انسانها اكثر سعةً ،واكسبه من سمات الهضاب وخصائصها ومن سمات السهل وخصائصه فجمع بين رقة السهل وأباء الجبال وتماسك الهضاب ووفر له من الخبرات مالم يتاح لسواه ،ووفرت الوديان التي تعبر عبرها ـ وعلى راسها وادي مور اكبر وديان اليمن ـ ما يحتاجه الإنسان من مقومات الاستقرار والتمدن والنماء ،الأمر الذي يوضح الدور البارز الذي لعبته حجة في مختلف مراحل التاريخ من فجر التاريخ ومرحلة تشكل الحضارة وحتى يومنا هذا. وقد خلصت من خلال قراءتي التاريخية إلى أن المسار التاريخي للحضارة في جنوب الجزيرة تشكل من ثلاثة خطوط هي: ـ 1ـ الخط الشرقي وهو الخط السبئي الذي اتجه من مأرب والجوف ونجران شمالاً وشبوه وحضرموت وجزء من ابين جنوبا.2ـ والخط الجنوبي وهو الخط الحميري الذي اتخذ من السلسلة الجبلية الجنوبية مسارا له ذمار وأب وتعز والبيضاء وابين والضالع ولحج وعدن .3ـ الخط الشمالي الغربي وهو الخط الهمداني ويعتبر الخط المحلي المركزي الرابط بين الخطين الشرقي والجنوبي ،والممتد من البحر غربا مروراً بسهل تهامة والمرتفعات الجبلية حتى صنعاء ومن مكه وعسير ونجران في الشمال حتى جبال حراز وريمه في جنوب هذا الخط ويربط هذا الخط بين الحجاز واليمن ،ويعتمد على قدراته وامكانياته المحلية ولذا لم يشهد أي من الانكسارات التي شهدها الخط الشرقي او الجنوبي ولاغنى لأي منهما عنه فكما كانت نجران وصعده نقطة اللقاء مع السبئيين كانت جبال حراز وكوكبان والسهل التهامي المحاذي لها منه نقطة اللقاء مع الخط الحميري .وعندما انكفأ الخط الشرقي والخط الجنوبي ظل هذا الخط حاضرا ومن خلاله استطاع الخط الجنوبي ان يعود الى المشهد في الألف سنه الأخيرة من عمر اليمن واعتقد ان طاقة نماء واستمرار الخط الشرقي لا تكمن فيه او في الخط الجنوبي الذي دخل معه في صراعات داميه إضافة الى الصراعات الداخلية التي دخل كل منهما فيها وانما في علاقتهما بالخط الشمالي الغربي الذي لم يدخل في أي صراعات معهما ولم تكن لديه أي نزعه للسلطة والاستئثار بها كحالهما مما جعل مكوناته متماسكة بعكسهما الامر الذي وفر له كافة الامكانيات التي مكنته من القيام بمسئوليته تجاه اليمن لا كثر من عشره قرون.
ويمكن ان نوجز بعض المميزات ـ اضافة لما سبق ـ لهذا الخط في التالي: ــ قامت فيه اشهر اسواق اليمن منذ الجاهلية ويعتبر سوق قطابه الشهير الذي تحدث عنه الهمداني ويصفه بانه كسوق عكاظ من حيث المكانة والشهرة ولازالت اثاره باقيه في مديرية كحلان عفار والمغربه حسب التقسيم الاداري المعمول به اليوم .وسوق الجريب الذي يصفه المؤرخين بانه كان يفد اليه اكثر من عشره الف في يوم السوق وهو بمنطقة الشرفين مديرية قفل شمر ولازلت اثاره باقيه .وسوق الصلبه الذي وصل ازدهاره الى الحد الذي استقطب له التجار الاجانب والذين كان يطلق عليهم البانيان وهم التجار الهنود والباكستانيين والفرس وغيرهم من الاسيويين وكان اشبه بالمنطقة الحرة في 1100هجريه ولازالت اثاره في مديرية الشغادرة حاضرة الى الان ،وقد ازدهر هذا السوق في هذه الفترة التي لم يكن في اليمن دوله مركزيه واحده وانما كان في المنطقة امام محلي ،مما يجعلنا امام تجربه فريدة تستحق الدراسة والبحث عن ثراء هذه التجربة التي لم تعتمد على قوة السلطة المركزية في نماءها واستمرارها ولا على الخلفية الدينية المقدسة ،وانما على الاعراف القبلية المحلية ،الامر الذي يوضح لنا السمة المحلية لهذا الخط التي اشرنا اليها سابقا.ـ تميز هذا الخط وخاصة حجة بالسلم والتعايش والقبول بالآخر طوال فتراته التاريخية فلم يشهد أي صراعات على خلفية دينيه سوءً قبل الاسلام بين اليهودية والمسيحية الذي تدل الحفريات اللغوية على وجودها، ولا أي صراع مذهبي بين المذاهب التي تعايشت فيه وكانت في صراعات وحروب خارجة فقد تعايشت الاسماعيلية والزيدية لفترات طويله والزيدية والشافعية ولم تذكر لنا كتب التاريخ أي صراع نشب بينها على خلفية مذهبية ،عدى حركة المحطوري الذي احرق ودمر سوق ومدينة الصلبة ولازال سبب حركته ودوافعها مجهولة الى حد الان . وقد تعايش اليهود جنباً الى جنب مع المسلمين ولم يكونوا في تجمعات محصورة كحالهم في بعض المناطق الاخرى ،واكبر تجمعاتهم كانت في حجة بل انهم كانوا يمارسون ذات العادات والتقاليد القبلية ويفرقون ويغرمون مع المسلمين اذا واجهت المنطقة أي مشكلة بل انهم كانوا يقومون بأعمال بطوليه للدفاع عن مناطقهم او انقاذ قادتهم اذا تعرضوا لمحنه وحادثة تهريب اليهودي لناصر مبخوت الشهيرة عندما سجنه احد الائمة لازالت تتناقلها الالسن الى اليوم .ـ استوطنت قبائل همدان مناطق هذا الخط والذي يذكر الهمداني في الاكليل انها حاشد وبكيل التي استوطنت حجة وعمران وقبائل يام التي استوطنت نجران وقبائل الكثيري بحضرموت الا ان اغلب تجمعاتهم في حجة وعمران والمحويت ،ويروي المؤرخين انه بإسلام همدان اسلمت اغلب قبائل اليمن ولازال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بلغه اسلام همدان فسجد لله شكراً وقال : ما اسرعهم الى النصر واصبرهم على الجهد منهم الاوتاد ومنهم الابدال. وصدق رسول الله الامر الذي جعلهم يتبؤن دورا كبيرا في الفتوحات الاسلامية والدفاع عن الاسلام ،ورغم قوة همدان وشجاعة رجالها وكثرتهم الا انه لم يكن لديهم أي هاجس للسلطة وانما كان همهم هو البحث عن مشروع الحياة عن الحق لا القوة والهيمنة التي استهوت الاخرين.
ولذا لم يكن يهمهم من اين الحاكم ونسبه وانما كيف يحكم وسلامة حكمه .واشهر اقيال همدان هو قدم بن قادم صاحب الجنة المذكورة في القران وقد وزع ابنائه في حجة والشرفين ولقبت اغلب مناطقها بأسمائهم الذين ساروا على نهجة واسسوا في حجة جنة المغارب رغم ذهاب جنة ابيهم الذي اضاعها بعض اخوانهم، ويروي المؤرخين ان الهمدانيين اول من نجروا الابار في الصخور لحفظ مياه الامطار .ـ انطلق من هذا الخط اشهر من اسسوا لخط الاستقلال عن الهيمنة عن الحكومات المركزية وذلك عندما ساءت سياسة الولاة الأمويين والعباسيين وأشهرهم القيل الهيصم بن عبد المجيد الحميري الذي ثار على حماد البربري عامل الرشيد على اليمن واستطاع ان يقاومه ل8سنين وقد بذرت ثورته بذرة الثورة والاستقلال التي قادت الى تغير المعادلة السياسية في اليمن وقد تمكن الحسن بن حوشب الملقب بمنصور اليمن الى استثمار طاقة هذا الخط لينتزع هو وعلي بن الفضل الاستقلال وتوحيد اليمن ،وقد ارتبط خط عدن لاعه بعدن ابين منذ ذلك الوقت كأهم خطين للتمكين في اليمن ،وقد استثمر طاقة هذين الخطين علي بن محمد الصليحي وبني رسول من بعده ولذا لا غرابه اذا ما شهدت اليمن بشطريها الجنوبي والشمالي ازهى عصورها في عهد سالمين والحمدي اللذان تمثلا هذين الخطين ووضعت القواعد الاساسية للوحدة اليمنية في عهدهما ،واعتقد ان بقاء واستمرار تحالف الرئيس صالح والنائب عبدربه يكمن في ادراكهما لأهمية هذا الخط .وعندما سقطت مفردة التوازن الخارجية بسقوط دولة المماليك حلفاء بني طاهر سقطت مفردتي التوازن لتتفرد حجة بحكم اليمن وذلك بسبب تغير موازين القوى العالمية لصالح الدولة العثمانية التي اعتمدت على ذاتها في الحكم بخلاف من سبقها من الامبراطوريات لذا تتصدى حجة للعثمانيين ومنذ الامام شرف الدين في عام 1500م وحتى خروج العثمانيين من اليمن في 1918م ـ الذي اعلن دعوته من حجة واستولى على صنعاء وتوجهت جيوشه للقضاء على الطاهريين والاستيلاء على المذيخرة التي بسقوطها سقطت دولة بني طاهر وسقطت معها معادلة التوازن بين الخط الجنوبي والخط الشمالي لتتفرد حجة بحكم اليمن الى 1962م حتى اخل ائمة بني المنصور بوجبات التفرد واخلت المعادلة الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بموازين القوى الا ان الملاحظ طوال الفترة السالفة الذكر ان جميع الحركات المنظمة التي تصدت للأتراك هي من حجة مما يبرز قوة السمات المحلية التي يعتمد عليها هذا الخط .ـ اشتهر هذا الخط بالتنوع المعرفي والثقافي في مختلف المراحل التاريخية وفي مختلف جوانب الحياة الامر الذي اشاع ثقافة التسامح والتعاون والانفتاح وعمموا الخبرات الحياتية وجعلوها مشاعاً بين الناس ،كما اصبح مأوى لكل من ضاقت بهم السلطة وفيه استطاع الاحرار بلورة المشروع الوطني لثورة 26من سبتمبر المجيدة ،ولازال هذا الخط قادرا على رفد اليمن بكل ما تنشده من مقومات الامن والاستقرار والحوار والتعايش والقبول بالأخر وما التجربة الثقافية الفريدة التي يجترحها مثقفوا ومبدعوا حجة الا مثال على الثراء المعرفي الذي يتميز به هذا الخط .