كتابات فكرية

ما وراء أَكَمَةِ منتجي فيلم “العربية الوثائقي” حول مقتل صالح

ما وراء أَكَمَةِ منتجي فيلم “العربية الوثائقي” حول مقتل صالح

أكمة الفيلم ليس فقط قصة موت بل مشروع نفوذ

رواية السعودية محاولة لفتح الطريق لإعادة تطبيع العلاقة بين من تبقى من النظام السابق وبين المملكة

الحكاية ليست مجرد رواية عن اللحظات الأخيرة لرئيسٍ مقتول، بل رواية عن دور السعودية في ما بعده

  • بقلم: حسن الدولة

الاحد27يوليو2025_

ليس من عادة الدول أن تروي قصص الموتى حباً في الحقيقة، خاصة إذا كانوا خصوماً سابقين أو حلفاء محتملين، فما بالك إذا اجتمع الاثنان في رجل واحد اسمه الرئيس السابق “علي عبدالله صالح”. الفيلم الوثائقي الذي بثّته قناة “العربية” السعودية ليلة أمس السبت الموافق 26 يوليو 2025م، لم يكن عرضاً سردياً بريئاً عن نهاية رئيس يمني سابق، بل أجد وراء الحكمة ما وراءها!!.

أجد أنها رسائل مزدوجة، سياسية الهوى، تُبث بلغة بصرية ناعمة وبتوقيت شديد الدقة، أن فيها تأكيد لتلك الهبة التي دعا إليها في تلك الكلمة التي بثتها قناة يمن اليوم حينها، ورسالة تؤدي لأتباعه أن امضوا في سبيل تعزيز علاقتكم مع دول الجوار فهذه هي وصية زعيمكم.

كما أن الفيلم لم يكتفِ بسرد ما حدث في يوم 4 ديسمبر 2017، بل أعاد رسم صورة الزعيم بطريقة تبتعد عن الأسطورة التي صاغها المؤتمر الشعبي العام منذ مقتله، تلك التي تقول إن صالح قاتل حتى الرمق الأخير في منزله المسمى بدار الثنية الكائن بشارع حدة قرب مركز الكميم التجاري بصنعاء، رافضاً الهروب أو المساومة. بدلاً من ذلك، يعيد الفيلم تقديمه كزعيم كان مستعداً للنجاة، وطلب من الرياض العون والمساعدة ، بل وأرسل رسائل عبر وسطاء. هذه ليست مجرد إعادة كتابة لرواية الوفاة، بل محاولة واعية لتبديل الموقع السياسي للرجل، من زعيم مقاتل إلى زعيم تفاوضي. هذا التحول في السرد، الذي يترافق مع تصريحات نجل الرئيس السابق “مدين” علي عبدالله صالح، يشكل انقلاباً ناعماً على الأسطورة، ويقترح بديلاً سياسياً لها: أن صالح لم يكن يائساً ولا مستميتاً في القتال، بل كان مستعداً لصفقة أخيرة.

ورسالة تؤكد تورط صالح حتى العظم في الانقلاب على العملية السياسية السلمية، وأنه من خطط ومن نفذ لأحداث ثورة ال 21 من سبتمبر، وهي رسالة ضغط على المؤتمر في الخارج والداخل أنكم وراء ما جرى ويجري في اليمن من مآسي، وبالمثل الشعبي “هذه عصيدتكم متنوها”

لكن التوقيت في اعتقادي هو لبّ الحكاية!!؟؟.

ما الذي يدفع قناة “العربية” السعودية لبث هذا الفيلم الآن!!!؟؟ بعد مرور نحو ثماني سنوات على مقتل صالح؟ ولماذا تترافق هذه الخطوة الإعلامية مع تصريح لابنه مدين، الذي لم يتحدث سابقاً علناً؟ الإجابة الأرجح أن المملكة السعودية ترسل إشارات باتجاه تيار صالح، وبالذات إلى جناحه الداخلي في المؤتمر الشعبي، تقول فيها إنها لا تزال تعتبر صالح جزءاً من تاريخها السياسي في اليمن، وإن من كانوا قريبين منه وورثوا رمزيته، يستطيعون أن يكونوا جزءاً من المستقبل، لكن بشروط جديدة!!!؟؟؟

 الفيلم إذن ليس لحظة تذكّر أو تذكير بما حصل بل لحظة تفاوض قادم، ليست موجهة إلى أنصار الله فحسب، بل إلى جناح المؤتمر الشعبي العام نفسه الذي لا يزال يبحث عن موقع وسط خارطة تواجده الممزقة بين “الرياض” و”أبو ظبي” والقاهرة واسطنبول وصنعاء وعدن وتعز …!!

المفارقة الأبرز في المشهد كانت في تغييب اسم طارق محمد عبدالله صالح من رواية مدين. رغم أن طارق هو الشخصية الأقوى عسكرياً، والأكثر فاعلية على الأرض، لم يُذكر اسمه إلا عرضا حين تحدث “مدين” عن من بقي مع والده في لحظة النهاية. أشار فقط إلى نفسه وشقيقه صلاح، بينما طارق بدا وكأنه كان أول الهاربين بجلودهم مع أولئك الذين تم التواصل معهم من قبل أنصار الله بأن ينجو بجلودهم أي انه كان غائباً عن لحظة المصير الذي واجهه صالح ، وهو يتخبط في قرى سنحان لا من يلبيه أو ينقذه.

 هل تغييب “طارق” كان مقصودا، أم صدفة غير بريئة؟ في السياسة، الصدف نادرة. والمؤكد أن غياب طارق من الرواية الجديدة يعبّر عن رغبة ضمنية – سواء من داخل العائلة أو من الدوائر المحيطة بها – في تحجيم دوره أو فصله عن سردية “الوفاء لصالح ”، وهو ما يخدم مناخاً سياسياً يرى في طارق جزءاً من تحالف الإمارات، لا من تحالف صنعاء أو الرياض.

ما يفعله هذا الفيلم الوثائقي، في الجوهر، هو محاولة إعادة هندسة للسردية المرتبطة بمقتل صالح. لم يعد السؤال عن تفاصيل ما جرى فقط، بل عمّا تعنيه هذه التفاصيل للسياسة اليوم. إذا قُتل صالح وهو يحاول الفرار من صنعاء إلى قريته، ولم يجد في قرى سنحان من ينقذه ، بل وجد كمائن له بالمرصاد في كل شبر من سنحان،  ولم يكن يقاتل حتى الموت كما قيل، نخلص مما سبق بإن رمزية الرجل تُعاد تشكيلها، من قائد مقاوم إلى سياسي خاسر. وإذا كان قد طلب من الرياض المساعدة، فإن الرواية السعودية تصبح أكثر صدقية لدى جمهور المؤتمر، وتحاول فتح الطريق لإعادة تطبيع العلاقة بين من تبقى من النظام السابق وبين السعودية.

كما أنني أجد رسالة أقوى موجهة لأحمد علي الذي لم يرد له ذكر في الفيلم الوثائقي، وقد ظهر مدين أكثر كارزمية من أخيه الأكبر وأكثر لباقة فهو الذي ظل في كمين يحمي ويدافع عن أبيه الذي يواجه مصير الموت ولم يتبق سواه في الميدان مع ابن أبو شوارب.

نعم ليس غريباً أن يُعاد اليوم استدعاء هذه اللحظة. فالمؤتمر الشعبي يعاني من فراغ قيادي حقيقي، وطارق صالح الذي يبدو الأقدر عسكرياً، لا يزال محسوباً على جناح خارجي تديره أبو ظبي أكثر مما تديره الرياض. في المقابل، فإن إظهار شخصيات مثل “مدين” و”صلاح” في موقع أبناء الوفاء، قد يسمح بتشكيل مركز جديد داخل صنعاء، أقرب إلى التحالف السعودي، وأقل تصادماً مع حسابات المملكة الإقليمية.

ومما سبق فإن الحكاية ليست مجرد رواية عن اللحظات الأخيرة لرئيسٍ مقتول، بل رواية عن دور السعودية في ما بعده. الوثائقي يقول، دون أن يصرّح: إن المملكة لم تكن خصماً لصالح، بل فرصة لم يستطع الوصول إليها. ومع هذه الرسالة، تُفتح من جديد صفحة لم تُطوَ من السياسة اليمنية، تُكتب لا بالحبر وحده، بل بالكاميرا، والمونتاج، وتوقيت البث.

فما وراء أكمة الفيلم، ليس فقط قصة موت، بل مشروع نفوذ، ورسالة مفتوحة إلى من تبقّى من رموز صالح ، بأن عودتهم إلى المشهد ممكنة، شرط أن تكون من بوابة الرياض، لا من بوابة المقاومة أو الحنين إلى مجد قديم.

اقرأ أيضا:مجرد تأمل.. العبيد لا يصنعون حرية.. والجهلاء لا يبنون مجدًا

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى