اخبار محليةكتابات فكرية

صنع في اليمن _  16  العودة إلى الداخل

صنع في اليمن _  16  العودة إلى الداخل

بقلم : الأستاذ زيد بن علي الوزير

تغيبت طويلاً عن مواصلة الكتابة عن “صنع في اليمن” لأسباب عدة، أجبرتني على إرجاء الحديث زمناً متعباً، وكنت قد توقفت عند وصول إخوتي الثلاثة إلى “عدن” وطرد “البريطانيين” لهم، كما سبق أن طرد أخاهم الأكبر “عبد الله بن علي الوزير” والأستاذ الزبيري وغيرهما عقب الثورة الدستورية.

وسأعود الآن إلى الداخل فأستكمل ما لم أذكره لتتكامل “الصورة اليمنية” ولنلتقط أنفاسنا بعد مشوار لاهث لنستقر في مكان ذي أربعة جدران تضطرب فيه حياة نفسين لم يجد جديد على حياتهما الرتيبة في سجن «بيت المؤيد» الانفرادي سوى تبادل الرسائل مع والدتهما وأختهما “حورية” في “صنعاء” أسبوعياً.

وقد ذكرت سابقاُ قصة مرض أختي “أمة الخالق ونزولنا “الحديدة” على سيارة حمل عليها غرائر القمح المتعرجة والتي أمكن بجهد سائقها الفاضل الحاج “أحمد بسباس” أسبل الله عليه رضوانه مكاناً مستوياً بعض الشيء، وما زلت اذكره بالخير وأترحم عليه لرعايته لها طيلة الرحلة الشاقة.

وعندما واريت أختي الثرى في “مقبرة الصديقية” موجع القلب باكياً، بقيت في “الحديدة” شهراً لا أريد أن أفارق أهلها ذوي القلوب البيضاء الرحيمة، وبقيت مع العلامة الأكبر “على الشامي” في غرفته بــ “دار الضيافة” أتزود من علمه، وكان من أوائل المعارضين لطريقة الإمام “يحيى” في الحكم وصديقا حميما لوالدي. وكان إلى جانب علمه يحب الشعر ويحب المتنبي على وجه الخصوص وكان أيضا معجبا بشعر المرحوم “أحمد بن محمد الشامي” الذي سيصبح أستاذي وعندما لقيته أخبرته بإعجاب العلامة بشعره فارتاح وعندما توفى هذا العلامة رثاه الشاعر الكبير بقصيدة عصماء جاء فيه

يامن على البعد لن أنسى مودته 

وكان هذا العلامة الجليل ينتحي جانباً فيملي على ولده “أحمد” رسائله إلى الإمام “أحمد” ينقده بقوة على احتكار وكيله لبيع “البن” ويطالبه بإطلاق المساجين.

 وذات يوم خرجت مع الصديق الوفي، بل الأخ الوفي “محمد الطشي” من علماء رداع، وخطيب مسجدها-وكان قد وصل إلى “الحديدة” لأمر نسيته، فكنا نجتمع معاً، ونتجول معاً، وذات يوم استأجرنا “سنبوكاً صغيراً ومضينا في رحلة بحرية بقرب الشاطئ كانت فيه أمواج البحر واهية ناعسة، كأنها تستريح من معاناة صاخبة. وكانت أولى نزهة بحرية بالنسبة لي، وكنت اعتقد إنني سألاقي من صراع الموج ما لا يريح، ولكنها على كل حال تجربة. ركبنا على “السنبوك ” وإذا به يجرى فوق حرير ناعم، أو انه مستقر على حرير ناعم،  وكانت ثمة هبات من رياح خفيفة تسوق السنبوك بنعومة، وأمواج البحر هادئة تتراقص على وقع نسيم عابر فلا علو ولا هبوط، وإنما سير منبسط نستمع بموسيقي النسيم العابر، وإيقاع  المجداف، وانبعاث الرشاش الأبيض المتطاير من خلفنا كأسلاك من الفضة ترتفع وتتساقط لؤلؤا  منثورا، وأمامنا ينبسط البحر يعيداً بعيداً  إلى حيث يختلط بالأفق البعيد، فيلتحمان في لون رمادي طويل، وبينما كنا نستمع بما نحن فيه،  إذ بنا نجد سنبوكا أكبر وأسرع  من سنبوكنا يلحق بنا عليه جندي مسلح من حرس البحر يطلب من الملاح المذعور أن يتوقف، وسألنا ماذا نعمل في البحر؟ قلنا: نزهة قصيرة ونعود. قال: النزه ممنوعة وبلهجة صارمة، طلب منا العودة  إلى الشاطئ،  وقال لي الصديق “محمد” أنت امشي وأنا سأتعامل معه” فسبقته في طريقي عائداً إلى “دار الضيافة” و ما لبث أن لحق بي واخبرني انه سوى المسألة مع الجندي بـ “حق القات” وانه لن يرفع بنا إلى النائب، أو غيره فيكيدون،  ولسنا بحاجة إلى كيد جديد وحسبنا ما فينا،  ولكن  الخبر شاع  ومعه إشاعة بأني أريد الهرب إلى “عدن” ولا اعتقد أن الجندي أوشى بنا لآن صاحب “السنبوك” لم يعتقل ولا أزعج الأخ “محمد الطشي” عن “الحديدة” وتمحور حديث الهرب حولي، فتقرر أن أغادر “الحديدة” إلى” صنعاء” على أول “سيارة حمل” وأنه في حالة توقف السيارة لسبب ما علي  أن اركب السيارة الثانية ودفعت الحكومة ثمن المقعدين. ولم يرافقني جندي حراسة، ولكن ربما أُخذ على السائقين تعهداً بإيصالي إلى “صنعاء” ولكني لم أحس بشيء من الرقابة، وغادرت “الحديدة” وقد تركت فيها قطعة مني. وبقلب جريح على فراقها، وبقلب يمله الحب لـ “أهل الحديدة” الذين رحبوا بنا حين هجرنا الناس، وتعاطفوا معنا حين جفانا الناس، فسلام عليهم في العشية والأبكار.

ومضينا في نفس الطريق التي ذهبنا منها، أمسينا في “قرية العبيد” وفي الليل تناهت إلى مسمعنا صوت سيارة قادمة فعرف سائقنا من صوتها أنها سيارة من نوع “شفرليت” وبالفعل كانت كذلك، وهي المكلفة بنقلي فيما اذا حصل بالتي أنا عليها خلل ، ولكنها لم تصب بخلل وترافقت السيارتان وكانا يتسابقان، ففي السهل تسبقنا “الشفر” وفي الجبال نسبقها حتى وصلنا “صنعاء” ولم تفارقني صورة أختي قط وكانت  تطالعني ذكرياتها في كل منعرج ومنبسط، وكان أنين أوجاعها بسبب “الغراير وألم المرض- في كل وقفة توجعت فيها لا تفارق أذني وصورتها وهي مستلقية على “الغراير” المتعرجة مستيقظة داخل عيوني وما زلت اسمع أنينها في كل موقف أنَت فيه. لقد ظلت معي روحا كما كانت معي جسدا.

وفي اليوم التالي مررنا بوادي “صياح” الجميل، ولكني هذه المرة لم أر فيه جمالاً، بل رأيت فيه وحشة متجهمة، وأوراقا ذابلة، وأصوات طيور نائحة باكية. لقد عكستُ نفسي عليها فكان ذلك المنظر الحزين.

 كان علينا بعد هذا الوادي أن تتسلق السيارتان “جبل الشرق” الخطير، والذي أودى بكثير من السيارات وأصحابها- وطلب من السائق ومن عليها أن ننزل ونصعد الجبل مشيا خوفاً علينا وتخفيفاً عن حملها. كانت الطريق ترابية لا تساعد السيارة على الصعود بسهولة فما تكاد تصعد بضعة أمتار حتى تتوقف، فيسرع اثنان من معاونيه وبيدهما حجارة كبيرة فيضعانهما وراء عجل السيارة حتى لا ترجع إلى الوراء، لتستأنف صعودها، وهي تحن حنينا متصاعدا لبضعة أمتار أخرى، فإذا ما استوت الطريق قليلا أمكن لها أن تواصل سيرها حتى تجد مرتفعا عائقا، وهكذا قطعنا الجبل في حوالي 3 ساعات مقلقة، وكانت سيارتنا من نوع “دودج” أقوى على صعود الجبال من “الشفرليت” فسبقناها إلى قمة الجبل، وبقينا ننتظرها وما لبثت أن وصلت مرهقة، لكنها استعادة نشاطها في السهل القادم وكانت أسرع في السهل فغابت عن أنظارنا فتبعناها بعد حين في” معبر” وأمسينا هناك.

وكان من العادات الجميلة و”العرف” الواجب عند السواقين أن (لا أحد يفارق صاحبه) لأن السائق هو المهندس أيضاً، وهو الذي يصلح الخلل، وحتى إذا عجز-وهو وحي- فعلى كل سيارة تمر به -ذاهبة أو آيبة-أن تتوقف عنده وتساعده حتى يتم إصلاح الخلل، لقد كانت عادة تعاونية حميدة.

وفي اليوم الثالث عبرنا سهل جهران الجميل وتسلقت السيارة نقيل يسلح ببطيء بدون أن ننزل منها ثم انطلقنا صوب صنعاء التي شاهدنا تربض في وسط السهل تتباهى بمناراتها الجميلة الرائعة، وبيوتها الشامخ. وبينما كنت أتملى هذا المنظر الجميل وكانت السيارة قد توقفت لسبب ما لم اعد أذكره وصلت سيارة ثالثة فتوقفت فهبط منها مسافر من “الحجاز” لا اعرفه قط، واتجه نحوي مسلما بباش، سائلا عن صحتي وأحوال عائلتي فاستغربت في نفسي وقلت لعل صاحب السيارة  كلمه عني وعن  أسرتي وانه ملزم بي في حالة خراب السيارة، ولعله قصدني بعدما تعرف عني، لأنه كان  يعرف عن ثورة الدستور وعنا بني الوزير على كل حال تحدثت معه وأخبرته باقتضاب عن حالنا وعرف مني أني سأذهب في الغد لزيارة أخي السجين “أحمد” في القصر، فقال أنه يريد أن يزوره أيضا فقلت له أن الحراس لن يسمحوا له.

ودخلنا صنعاء وكنت بقدر فرحي بلقاء أمي وأختي وأخوي “قاسم” ومحمد وزوجة أخي عباس وابنيها عبد الله وفوزية كان الخوف مما سيثيره اللقاء من أحزان يملأ عليّ أقطار نفسي. على نحو ما سبق لي شرحه في مقال سابق.

وفي اليوم التالي طلعت إلى حيث أخي “احمد” في غرفة سجن خاصة كان بها من ابن عمي أحمد بن محمد بن محمد” لأزورهما في سجنها وبينما كنا نتحدث وإذا بأخينا الحجازي يدخل علينا ويسلم عليهما ويقعد معنا وقتا، ولست ادري حتى الآن كيف سمح له السجانون بالدخول بدون أذن رسمي، وبطبيعة الحال فلم اسأله كيف دخل ولماذا جاء إلى اليمن؟ واعتقد الآن أنه الأخ والصديق المرحوم “أحمد الحازمي” رسول الملك سعود إلى اليمن عندما يحز به أمر وكان له خبرة واسعة بتاريخ اليمن وقبائلها وكان متواضعا جدا وهو قد درس وتخرج في “المدرسة العلمية” بـ “صنعاء” من “شعبة الاجتهاد” والذي ستنعقد بيننا وبينه صداقة حميمة سيأتي ذكرها في موضعه. ولقد سألته عن هذا اللقاء فقال إنه لا يذكر شيئا منه.

استأنفت وأخي قاسم ما كان  أخوي “العباس” و”إبراهيم” يسعيان إليه فكنا نواصل بأعضاء “عصبة الحق” نتشاكى الحسرة على الثورة، ونعبئ أنفسا بآمال طوال عراض، وذات مرة أثناء اجتماع  قبيل المغرب خلف “باب الروم” تعرفنا على أحد ضباط المدرسة الحربية الذي اشتهر بشجاعته أثناء حصار “صنعاء” حيث كان يركب “موتوسيكل” فيطوف ليلا من خارج سور “صنعاء” ليتعرف على مواقع قوات أعداء الثورة الليلية رغم الخطر المحدق والمؤكد، وقد نجاه الله فلم يصب برصاصة غادرة، وقد سجن بعد الثورة، ثم أطلق سراحه، وظل وفيا “للثورة الدستورية” وللرئيس جمال، وكان طيف من الحزن يغلف وجهه الوسيم الضارب إلى البياض، وكان كثير التنهد يسكب حزنه في صوته الجميل وهو يغني

سرنا وجينا والزجاج مردود وروحنا الغالي يدق بالعود.

ولست أظن أنه كان يقصد بها حبيبة غالية قابعة خلف الزجاج، تدق الحان الفرح في لقائه، ولكنه كان يريد روح “الثورة الدستورية” المنتظرة خلف الأبواب المغلقة تنتظر ثوارها، والغناء أحيانا يعكس تعبيرا كامنا في النفس، مثلما تعكسه الآهة الصاعدة أو الدمعة الهابطة.

وبعد حديث عن الرئيس “جمال” و “الثورة الدستورية” وما لاقاه طلبة “الكلية الحربية” من قسوة السيف “الحسن” غادرنا على أمل لقاء آخر، ولكنه كان أخر العهد به، كان هذا البطل هو المرحوم “محمد الحافي” وقد وصفه “أحمد الشامي” أنه تلميذ الرئيس “جمال جميل” النجيب، وأنه (أحد خريجي المدرسة الحربية، وأنجب ضابط يمني عرفته من أبناء صنعاء) ، وعندما عدت من سجن “حجة” إلى سجن “صنعاء” –كما سيأتي – سألت عنه فعرفت أنه قد رحل إلى الله ملتحقاً بركب الشهداء.

وفي نفس الوقت واصلنا الأخوة الثالثة قاسم ومحمد وأنا لدن استأذنا “البردوني” ساعات من اليوم، وساعات نمارس الرياضة على دراجتين اشتريناهم بالدين من صديق عزيز، كان يؤجر الدراجات، وكنا نذهب معه دورات خارج صنعاء إلى “آبار مطهر” أو إلى “حدة” فتعودنا على ركوبها لمسافات طويلة، مكنتنا من السفر بها إلى “السر” لزيارة بني عمنا يحيى وعبد الله.

وفي هذه الأثناء أطلق سراج “عبد الله ريحان” شقيق “محمد ريحان” رحمه الله -سائق السيارة التي حملت المكلفين بقتل الإمام يحيى- فجاء وسكن معنا، وكان يذهب فيقعد أمام منزل الأميرة تقية “بنت الإمام يحيى” وزج أخي “عبد الله” السابقة فتضايقت من قعدته، فطلبت أمه ووبختها، وسلمت لها مبلغا من المال الذي أودعه عندها “محمد ريحان” وقدره ألف ريال وهو المبلغ الذي سلم له ولغيره ممن ساهم في قتل الإمام ليعالج به وضعه في حالة انكشافه فأودعها لديها، وكانت تظن أن وقفة شقيقه عبد الله أمام منزلها مطالبته لها بالمال وكانت تخشى أن يعرف أحد أنها خبئت مال الرجل حتى لا تتهم فورا بأنها تعرف بمقتل أبيها، ووعدت “أم ريحان” بأنها ستسدد المبلغ على أقساط.

وكان “عبد الله ريحان” يهيأ نفسه للهرب، فسرق دراجتي وهرب في اتجاه “ذمار” وعرفنا بالفور فهب أخي قاسم وصديقنا “علي” فتبعوه فأدركوه في “حزيز” فاعتذر بأنه كان سيعود بها، وعاد الثلاثة إلى صنعاء وبعد حين اختفى نهائيا ولم نعرف له خبرا حتى إذا كان يوم وأنا في الحديدة بعد إطلاقي فوجئت به يأتي إلي وأنا على شاطئ البحر فقعد معي قليلا ثم اختفى نهائيا وقد سمعت شائعة أنه انضم إلى الجبهة الوطنية وقاتل معها في الجنوب وأنه قتل هناك. والله أعلم.

وعلى تلك الدراجتين ذهبنا- أخي قاسم وأنا إلى هجرة “بني الوزير” بوادي السر” التي تبعد عن صنعاء بحوالي 25 كبلوا متر في طريق ترابية تتخللها سوائل تغوص فيها العجلات فننزل عنها ونسحبها بأيدينا حتى وصلنا لزيارة أبناء عمي “يحيى” و “عبد الله” وقضينا أياما جميلة أضافنا فهيا العامل العم العلامة “أحمد بن محمد مفضل” على غداء، في دار الحكومة، فلبينا الدعوة شاكرين.

بعد أيام عدنا إلى “صنعاء” وبينما كانت الدرجتان نهبط موضع “المطلع” نادتنا سيدة مسافرة من سيدات الهجرة: مبروك أخوكم “عباس” في البيت، فغمرتنا الفرحة فذهبنا وسلمنا عليه، ولبثنا أياماً وهو يفكر بأن نذهب إلى “سجن حجة” حيث سيتولى رعايتنا وتدريسنا إخوان كرام بدلاً من البقاء في «صنعاء» وما نلقاه من ازورار الناس عنا، وكان السجن بالفعل أحب إلينا من البقاء فيها،  فراجع السيف “الحسن” بإرسالنا إلى “حجة” لزيارة أخينا “إبراهيم” وندرس فيها كمن سيق لأولاد بني عمنا، فرد السيف “الحسن” بسرعة لم تُعهد عنه بالموافقة، وكتب رسالة إلى “نائب حجة” يسمح لنا بزيارة أخينا وبالدراسة عند القاضي “عبد الرحمن الإرياني” وكان قرار أخي “العباس” نعمة إلهيه ومباركة. ورحلنا إلى حجة لنقع في السجن بعد حين. ولكنا كنا قد درسنا وتعلمنا الشيء الكثير.

 يتبع..

 اقرأ أيضا:صنع في اليمن (12)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى