عن المطابخ التي بلا سقوف!
عن المطابخ التي بلا سقوف!
من وجهة نظري أنه لم يعد هناك مايمكن تسميته بالمطابخ الإعلامية أو السياسية ذات الاتجاه الواحد أو الوصفة الواحدة ، أو على الأقل فقد تضاءل هذا الدور بتلك السمة المعتمة إلى حد كبير، وذلك لأن كل شيء أصبح يُعد ويُطبخ في أحايين كثيرة تحت ضوء الشمس، وأصبحت توقعات الجمهور وردود أفعاله تحتل أهمية اكبر من ذي قبل وذلك عند الإعداد لأي وجبة أو وصفة يقوم بتجهيزها الشيف أو صانع القرار، فقد أصبح الجمهور أكثر تحكماً بخياراته واختياراته والتي أضحت محددا رئيسياً لنوعية ما هو معروض، ومع تنوع قنوات الإتصال والتواصل فقظ بات الأمر أشبه بـ«بازار» ينتقي فيه الجمهور المستهدف ما يشاء ويحصل من خلاله على ما يلبي احتياجاته من سلع وبضائع ويعزف عما يشاء، أو تجده على الأقل وقد أحيط علماً ودراية بكل ما هو معروض أمامه ويصعب حينها إقناعه باقتناء منتج معين أو فرضه عليه بالتجاوز لرشده الذي صار يحمله و يوجهه أكثر من ذي قبل.
إن ما أسهم في ذلك وإلى حد بعيد هو ما صرنا نشهده وماتمت تسميته بثورة الإعلام وماصاحبها من تحولات شهدتها الوسائط الإعلامية والتي أُجبر من خلالها الجميع على إسدال الستار على تلك المرحلة التي كانت الرسالة الإعلامية تسير خلالها في اتجاه واحد يُجبر فيه المتلقي على أن يكون مجرد وعاء يستقبل الرسالة الإعلامية كما هي ودون تحرًّ يستطيع من خلاله الوصول إلى معرفة ماهية مصدرها وحقيقة ما تحمله بين سطورها وما تهدف إليه من خلال مضامينها ، بل ويجد نفسه في أغلب الأحيان مطالباً بالقيام بردود أفعال محددة سلفاً من قبل المرسل، بالإضافة إلى فقدانه خاصية المشاركة في الفعل أو حتى المساهمة في صناعته على الأقل كونه المستهدف وعياً وفعلاّ ، وهو ما كانت ترمي إليه الرسالة الإعلامية في صورتها القديمة.
ولذلك فقد أصبح الحديث عن وجود مطابخ من هذا القبيل تحدد بشكل قسري اتجاهات الرأي العام مجرد هراء وتخلف أمام مايحدث في السياق العام المتحرك وفي مجمل المشهد الذي أصبحنا نرى فيه اليوم المتلقي -سابقاً- مساهماً في صناعة الحدث، وتحديد ردة الفعل عليه وذلك من خلال ما يكتبه أو ما ينشره أو ما يصنعه من محتوى حول حدث معين وذلك انطلاقاً من درجة استيعابه لمقدماته ومدى إدراكه تفاصيله، وهو مايقوده ليكون مساهماً-إن لم يكن مشاركاً رئيسياً- في صناعته وتحولاته، الأمر الذي جعل الجمهور أو المتلقي-سابقاً- في حالة جفاء شديد مع وسائل الإعلام التقليدية عدا بعض برامجها التفاعلية التي تحاول جاهدةً مسايرة مثل هكذا تحول.
لقد بتنا نعيش عصراً نشهد فيه انقلاباً في أمورٍ كثيرةٍ، وقد أمكن من خلاله ولأول مرة معايشة ذلك التغير في نوعية العلاقة التي كانت تربط بين المشهد السياسي والمشهد الإعلامي، حيث أصبح الثاني هو من يتقدم في أحايين كثيرة وبمسافات طويلة ويقود السباق على حساب الأول في أمور وقضايا عدة وذلك بعد سيطرة طويلة منه على مضمار هذا السباق امتدت ربما لعقود سابقة ، فيما نجده اليوم وقد أصبح هو صاحب ردة الفعل لا الفاعل، والمتلكك طويلاً أمام أي زخم إعلامي يتدفق رأسياً أو أفقياً، حتى بات المتابع حين يلحظ أو يشاهد خطابٍاً أو بياناً ما صادر من جهة أو طرف معين بأنه قد جاء حاملاً توضيحاً، أو كردة فعل، أو متضمناً ردوداً، بُنيت كمحاولةٍ لمواكبة تلك المحتويات المتجددة و التي كانت أومازالت تسري وتجري سراعاً في أوردة ومفاصل تلك الوسائط والتي مالم تجد منه المواكبة الحثيثة لإتسعت الفجوة ولزاد الفارق والذي لاتجدي نفعاً معه حينذاك قاعدة »لكل حادث حديث«.. إن الجمهور المستهدف أو الطرف الآخر للمعادلة الإعلامية يتجدد بصورة مستمرة من خلال سعيه الدؤوب نحو تنويع مصادره، وتقدم مستوى وعيه وإدراكه وتعدد أدواته، وتراكم خبراته، فيما يكون القائم على المشهد السياسي مايزال يلوك بأدواته القديمة وبذهنيته الجامدة، وتتلبَّسه النرجسية الزائفة والتذاكي المصطنع وهي أدوات وأساليب تتقادم باستمرار وفي طريقها لأن تتحول إلى قيود مفروضةٍ عليه بعلم أو بدون علم.
إذاً نحن أمام مشهد مختلف اصبح الكل فيه متلقياً والكل فيه مرسلاً، الجميع بات يؤثر ويتأثر بالآخر، في عصر يجب ان تتقدم فيه مكانة الشفافية المطلقة، وحيث لاتجد فيه مطبخاً ولاكواليس إلا تلك التي يفترض أنها تلبي رغبات الجميع، وتشبع نهمهم، وتواكب توقعاتهم ..ومازال للسباق بقية..
أقرأ أيضا:إنجازات وهمية للترويج الإعلامي
صحفي وكاتب يمني
مدير الإعلام الخارجي بوزارة الإعلام سابقا