فلسفة “الحرب الزائفة” و”شيوعية الحرب”
فلسفة “الحرب الزائفة” و”شيوعية الحرب”
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك يتحدث للميادين نت، عن نظرياته الفلسفية، وآرائه الجدلية بالحرب في أوكرانيا، ونظرية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما ينتقل إلى أثار السياسات الحالية للقارة الأوروبية.
السلوفيني سلافوي جيجيك (74 عاماً) فيلسوف سياسي وناقد ثقافي، ومن أبرز المنظرين للتيار اليساري في أوروبا والعالم. قدّم مساهمات كثيرة في النظرية السياسية، التحليل النفسي، والسينما النظرية، والاقتصاد والدين. وهو أحد كبار الباحثين في معهد علم الاجتماع بجامعة لوبليانا. يلقي محاضرات ويدرس في كلية الدراسات العليا الأوروبية. يوصف بأنه أخطر فيلسوف سياسي في الغرب، بعدما أحدث في رسائله ونظرياته حالة جدلية في المشهد السياسي – الثقافي.
1 – مؤيّدو سلافوي جيجيك وصفوه بأنه أخطر فيلسوف في العالم، لكن خصومه يصفونه بأنه مهرج، كيف يصف جيجيك نفسه؟
المفارقة هي أنّ الرجل الذي ادّعى أنّني أخطر فيلسوف ليس من أنصار حزبي. كان يتقصّد الهجوم عليّ، وقول إنّني خطير على المؤسسة الأميركية. علماً، أنّني أتعرض للهجوم في الغالب من الجانبين، من هذين المعسكرين الكبيرين اللذين لدينا اليوم، مِمَّن يُسمَّون بالمحافظين الجدد، والأصوليين الجدد، ومن الليبراليين… وما إلى ذلك.
أنا أعارضهم، وأعتقد أنّ الحرب الثقافية الكبيرة اليوم هي “حرب زائفة”. لكن كل ما يمكنني قوله هو أنّني أستمتع بهذا الموقع. جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي العظيم، قال منذ ما يقرب من مئة عام، إنّ التعرض للهجوم بسبب النص نفسه من الجانبين، اليسار واليمين، هو إحدى العلامات القليلة الموثوقة على أنّك على الطريق الصحيح. هذه الهجمات لا تزعجني.
2 – يعدّك البعض هيغلياً وليس ماركسياً، ومن المعروف بين الماركسيين أن ماركس قلَب الهيغلية لتقف على قدميها، بعد أن كانت تقف على رأسها. هل يقف سلافوي جيجيك على قدميه أم على رأسه؟
بفخر، أقف على رأسي. جسدياً، أنا أقف على قدمي، لكن الوقوف على رأسي لا يعني أنّني مجنون، بل يعني التفكير بعمق لتحديد كيفية التصرف. أنا هيغلي. وبالنسبة إلى هيغلي، كان ماركس ثيوصوفياً للغاية، فالتاريخ لا يتحرك نحو التقدم. أعتقد أنّه لم يعد صحيحاً أنّنا قد نفسد الأمر، وقد يموت الجميع في حرب، لكن التاريخ يتحرك تدريجياً نحو نوع من الاشتراكية الجماعية.
أعتقد أنّ الاتجاه الموضوعي للتاريخ، إذا تركنا التطور التاريخي كما هو الآن، يميل نحو تدمير الذات، وكارثة في العلاقات الدولية والاحتباس الحراري.
بهذا المعنى، أنا هيغلي أكثر لأنني متشائم. لم أعد أعتقد بأنّ موضوعاً ثورياً عالمياً جديداً سوف يظهر ويجلب الشيوعية. الأمر الثاني هو أنّني، إلى جانب بعض اليساريين الآخرين مثل صديقي يانيس فاروفاكيس، أرى أنّ الرأسمالية النيوليبرالية آخذة في الاختفاء بالفعل.
تحتكر الشركات الكبيرة مجالاتها، وتهدد سيطرتها حرية السوق. لم يعد لدينا رأسمالية كلاسيكية، هناك قواعد أخرى. قبل انتشار جائحة كورونا، كان الاقتصاديون يقولون إنّ للرأسمالية قوانينها، فلا يمكن فقط طباعة النقود، أو رفع الضرائب، بلا مبالاة. لكن، بعد الجائحة، بدأت الدول الغربية تطبع النقود بكثرة، وأنفقت تريليونات على محاربة الجوع.
بعض الأموال استُغلّت بطريقة جيدة، لتأمين حد أدنى من الدخل، وإعطاء الناس بعض المال للبقاء على قيد الحياة، لكن معظمها ذهب إلى الشركات الكبيرة لإنقاذها.
شيء جديد يظهر بالفعل، ليس لدينا له اسم بعد، لكنّه ليس رأسمالية نيوليبرالية، وأعتقد أنّ النيوليبرالية كانت دائماً أسطورة في الدول الغربية المتقدمة. كانت أجهزة الدولة والشرطة والجهاز المالي دائماً منخرطةً بشكل كامل في السياسة، ولم تقف السوق بمفردها. أعتقد أنّ فكرة وجوب ترك مساحة للسوق النيوليبرالية كانت تستخدم للضغط على دول العالم الثالث لتسهيل استعمارها.
اللغز الأكبر بالنسبة إلي هو ما يحدث للرأسمالية اليوم. ماذا يحدث في الصين؟ من الصعب تحديد ما إذا كانت دولة رأسمالية أم نوعاً آخر من الدول. فيها منافسة شرسة، والاختلافات بين الأغنياء والفقراء أقوى من أي بلد في أوروبا الغربية. وفي الوقت نفسه، ثمة حزب شيوعي مسيطر يحاول تنظيم السوق. ثمة شيء جديد آخذ في الظهور.
3- لقد كتبت سابقاً “إنها الأيديولوجيا أيها الأحمق”. هل ما زلت تعتقد أننا في عصر الأيديولوجيا؟
عندما أتحدث عن الشيوعية، فأنا، كما أكرر دائماً، لا أستخدم هذا المصطلح بالطريقة القديمة الساذجة التي تشير إلى بلوغ مجتمع مستقبلي نكون سعداء فيه، وتتوفر فيه جميع احتياجاتنا. أتحدّث عن “شيوعية الحرب”، نحن نقفز الآن من حالة طوارئ إلى أخرى. الحرب في أوكرانيا، وكوفيد، والاحتباس الحراري، كلها مشكلات تتطلب إجراءات أسمّيها “شيوعية الحرب”، وهي تُطبّق بالفعل. كان على ترامب أن يسيطر على بعض الصناعات. لقد أمر ببساطة ماذا يجب أن يُنتَج. وسيتعيّن على المجتمع التدخل في السوق وتقييده وفرض إجراءات.
الشيء الثاني الذي نحتاجه هو تعاون دولي أقوى بكثير. لا يمكن لدولة واحدة أن تتعامل مع الاحتباس الحراري مثلاً، يجب أن يتم ذلك على مستوى العالم. ولا أوافق على أنّ الحل لمشكلة المهاجرين هو مجرد ترك أوروبا الغربية تفتح حدودها، بل يجب أن نسأل عن سبب مجيئهم. بالطبع الغرب مسؤول هنا. لكن يجب أن يتدخل بعد ذلك على هذا المستوى. من الضروري إجراء تغيير جذري في العلاقات الدولية، ليس على الصعيد السياسي فحسب بل الاقتصادي أيضاً، وإلا فإنّنا نقترب من كارثة، ربما ليست حرباً عالمية، ولكن على الأقل شبكة كاملة من الحروب المحلية قد تهلكنا جميعاً.
4 – كيف يتعامل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أوروبا.. وإلى أين تتجه القارة العجوز؟
بوتين يريد تفكيك أوروبا، وهو يدعم التوجه الجديد للمحافظين الجدد، وليس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وحده الشعبوي في الولايات المتحدة الأميركية، بل هناك آخرون أيضاً.
لا أرى أنّ بوتين أفضل من رأسمالية أوروبا الغربية بأي شكل من الأشكال. وما يمكن فعله اليوم هو شيء سمّاه الفيلسوف الألماني بيترز سلوتردايك “الديمقراطية الاجتماعية الموضوعية”، وهي ليست ديمقراطيةً اجتماعيةً على شكل حزب، بل تدابير ديمقراطية اجتماعية: رعاية صحية شاملة، تعليم مجاني، نظام تقاعد..
كل هذه الأشياء يجب أن تصبح جزءاً من الدستور والحياة اليومية للشعب، بصرف النظر عمّن في السلطة. انظر إلى السويد أو النرويج، لا يهمّ حقاً من سيفوز في الانتخابات، فدولة الرفاهية مُحافظ عليها. لهذا، أعتقد أنّ أوروبا الغربية تقف اليوم بين هذا التوجه الديمقراطي الاجتماعي واليمين الشعبوي الجديد.
5 – تناقضت أفكارك مع المنظر الفكري الروسي ألكسندر دوغين بشكل كبير.. أين تتفق معه؟
فكرة دوغين هي كما يلي: “في الغرب، لدينا الكثير من الليبرالية والحرية الفردية. في الشرق الأقصى، الصين والهند بلدان آسيويان، لا يمنحان الحرية الفردية. الأرثوذكسية الروسية هي الحل للعالم كله”. فكرته هي فكرة الأورو-آسيوية ” . يجب أن يهيمن هذا التوليف بين أوروبا وروسيا على العالم. أنا لا أتفق مع هذا الطرح.
6 – خلال جائحة كورونا تصرّف الغرب الرأسمالي بمنتهى الوحشية عندما منع التطعيمات عن الدول الفقيرة، خاصة في أفريقيا. تعزّز هذا الرأي في الأزمة الأوكرانية عندما قال جوزيب بوريل إن “أوروبا حديقة” ولكن “معظم العالم عبارة عن غابة، ويمكن للغابة أن تغزو الحديقة”.. هل الغرب سقط أخلاقياً ولا يملك شيئاً يقدّمه للعالم سوى الحروب؟
في أزمة كورونا، كانت الكارثة الحقيقية في بعض الدول الأوروبية، وأنا أتّفق معك، كان هذا إخفاقاً تاماً للقارة. أما عند الحديث عن المهاجرين، فأعترف أنّ الغرب مسؤول، فلولا الهجوم الأميركي على العراق، وانخراط القوى الأجنبية في حرب أهلية في سوريا، والمساعدة الغربية للإطاحة بالقذافي في ليبيا لما كانت هناك مثل هذه الموجة القوية من المهاجرين.
لكن، أولاً، ولقد راجعت هذا بالإحصائيات، كم هو عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى الدول العربية؟ وبالدول العربية، أقصد المملكة العربية السعودية والكويت والبحرين والإمارات. كم من المهاجرين استقبلوا؟ لديهم مهاجرون، أجورهم منخفضة، بعضهم يعمل في ظروف عبودية. لماذا لم يستقبلوا مئات الآلاف من المهاجرين؟ كان بإمكان الإمارات والسعودية والكويت تقديم بعض الدعم. لماذا اضطر المهاجرون جميعاً إلى الذهاب إلى أوروبا الغربية؟ هنا المشكلة عندي. هذه الدول الغنية بالتحديد، وربما غيرها، أقامت علاقات مع “إسرائيل”. علمنا مؤخراً أن أجهزة المخابرات وحتى الهيئات العسكرية في “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية تتبادل الاستشارات بانتظام وتنسّق أنشطتها. بالنسبة لي، هذا هو الأمر محزن. يوجد في الشرق الأوسط الآن محور شر جديد، كما قال الأميركيون في الأيام الخوالي، يضم “إسرائيل” والسعودية والإمارات.
7 – لقد تحدثت سابقاً عن الهوية الأوروبية، بعد الحرب في أوكرانيا وأسعار اليورو ومشكلات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هل ستبقى هذه الهوية التي تحدثت عنها صامدة في مواجهة هذه التحديات؟
ربما لا. أعتقد أنّ الوضع مفتوح على كل الاحتمالات… أولاً، كل اليمين الجديد في العالم يكره الاتحاد الأوروبي. الاتحاد الأوروبي هو دولة غير قومية، بل اتحاد عابر للحدود. إنّه نموذجي، علماً أنّه يرتكب مئات الأخطاء.
8 – هل ترى أن الأحداث يمكن أن تتطوّر إلى حرب بين الصين وتايوان؟
لا آمل ذلك، آمل ألا يهاجموا عسكرياً. أتفهّم رغبة الصين في توحيد كل الصين، لكنّنا نميل إلى نسيان رعب القرن التاسع عشر، بعد ما سميّ بحرب الأفيون، بالنسبة للصين. ففي عام 1820، كانت الصين، بفضل عدد سكانها أيضاً، أقوى اقتصاد في العالم، وكانت دولةً منظمةً جيداً. ثم حلّت الكارثة: هجوم القوى الغربية على الصين لمجرد أنها منعت استيراد الأفيون.
في 230 عاماً، خسرت الصين، بقدر ما يمكننا حسابه اليوم، 30 إلى 40% من (الناتج القومي الإجمالي)، وبالعودة إلى التيبت، وافقت الولايات المتحدة وجميع القوى الغربية دائماً على أنها جزء من الصين. كذلك الأمر مع تايوان، فهي ليست مثل أوكرانيا. تايوان جزء من الصين، ولن أؤيد الصين في مهاجمة تايوان، لكنني أعتقد أنّ مطلب دمج تايوان بالصين مبرّر.
أقرأ أيضا:ماذا تعرف عن معاهدة ستارت التي أعلن بوتين تعليق العمل بها؟