قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي ورسالة القاضي عبد الرحمن الإرياني .. تداعيات العلاقات السعودية اليمنية عبر التاريخ

قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي ورسالة القاضي عبد الرحمن الإرياني .. تداعيات العلاقات السعودية اليمنية عبر التاريخ
- حسن الدولة
الأربعاء21مايو2025_
في مقالته الصادمة “يوميات البحث عن الحرية”،التي تنشرها صحيفة الشورى الالكترونية في عددها الصادر يوم أمس لثلاثاء20 مايو 2025م طرح القاضي عبد العزيز البغدادي سؤالاً وجودياً عن طبيعة العلاقة بين اليمن والسعودية: “متى يعلم الورثة أن أمن المملكة من أمن اليمن؟!”، مستشهداً بما يُنسب للملك عبد العزيز من وصية غامضة: “خيركم من اليمن وشركم من اليمن“. هذه العبارة التي تفتقر إلى سند تاريخي موثّق، تظل مفتاحاً لفهم العقلية التوسعية التي حكمت علاقة المملكة باليمن. فمنذ معاهدة الطائف عام 1934 التي فرضت شروطاً مجحفة على اليمن، وحتى اتفاقية جدة المثيرة للجدل سيئة الذكر التي وقعت عام 2000م، ظلّت السعودية تعامل اليمن حسب القاضي عبد العزيز ، كحديقة خلفية، مستغلةً انقسامات اليمنيين الداخلية لابتلاع أجزاء متتالية من أراضي اليمن.
وأما تلك الوصية التي يلوكها اليمنيون كاسطوانة مشروخة، فإن الواقع يقول عكس ما تعنيه، وذلك لأن الواقع والأدلة التاريخية تؤكد بأن خير المملكة من اليمن فأكثر من ثلثي مساحة المملكة مبتلعة من أراض اليمن ، لان الجزيرة العربية مكونة من :نجد” و”الحجاز” و”اليمن” ، وأن الربع الخالي رفع احتياطي المملكة من الغاز والنفط عشرات أضعاف ما كان عليه احتياطي المملكة قبل اتفاقية جدة ، سيئة الذكر حسب محلل اقتصادي أمريكي، كما أن الثابت منذ مذبحة الحجاج اليمنيون في تنومة حيث ذبح اجلاف إخوان نجد الوهابية أكثر من ثلاثة ألاف حاج يمني اعزل وحتى حروب صعدة الست التي مولت من قبل المملكة وما تلى الانقلاب على العملية السياسية السلمية بقوة السلاح في 21 سبتمبر 2014م من حرب لم تحقق سوى تدمير البنى التحتية لليمن مرورا باغتيال الإمام يحيى والتأمر على الإمام احمد وحروب بين الجمهورية والملكيين اللذين دعمتهم المملكة ودامت سبع سنوات ، وحرب صيف عام 1994م وشراء ذمم المشايخ حتى تجرأ احدهم أن يقول أن المملكة أحب إليه من حفنة تراب معتبرا أن ٨٢٠ ألف كم٢ ضعف مساحة اليمن الحالية ما هي إلا حفنة تراب.
وفي المقابل سوف نتناول رسالة القاضي عبد الرحمن الارياني التاريخية المؤرخة في 24 أكتوبر 1979م التي ضمنها مذكراته “الجزء الرابع” ص: (675) التي وجهها إلى الرئيس علي عبدالله صالح رحمهما الله، حيث كشف القاضي عبدالرحمن الإرياني عن جانب آخر من هذه المأساة، وهي محاولات المملكة المتكررة للتوسع على حساب أراضي اليمن، كما أنه – طيب الله ثراه في الجنة – حذر في رسالته تلك من مغبة الخوض في النزاعات الحدودية مع “الإخوان الجيران”،مذكرا بأن الإمام احمد لما علم من القبائل اليمنية الواقعة في الحدود أن المملكة وضعت نقاط تفتيش في الحدود الشرقية – تجاه الربع الخالي – وجه الإمام احمد تحذيرا للمملكة مطالبا إياها أن ترفع تلك النقاط فورا، كما طالب رحمه الله بسحب القوات السعودية من المناطق اليمنية التابعة لقبيلة وايلة.فاستجابت المملكة لذلك التحذير وذلك عام 1956م.
ولما كانت القبائل اليمنية أكثر ولاء لوطنها فقد كانت هي التي تحمي الحدود وكانت كل قبيلة تعرف حدودها جيداً، وقد أدركت التوسعية ذلك فبدأت بشراء ذمم المشايخ بعد المصالحة بين الجمهورية والملكيين حتى اشتهر عن الملك فيصل أنه قال لو كان “يعلم بأن الجمهوريبن هكذا لما حاربهم” وفي مذكرات القاضي عبدالرحمن وبخاصة الجزئين الثالث والرابع نجد أنه كان في صراع مع المشايخ والضباط الذين كانت تصرف لهم المملكة رواتب شهرية، وشمل الكشف الرئيس “علي عبدالله صالح”نفسه. وقد سمعت من احد السبتمبريين أن الرئيس القاضي عبدالرحمن استدعى ضابطين كبيرين احدهما اللواء حسين المسوري رئيس أركان القوات المسلحة حينذاك وقال لهما : (يا ولدي انتم تعلمون أن الأولاد حين يخرجون من بيت أبيهم يستأذنوا الشاب !) في إشارة إلى زيارة قاما بها للملكة دون إذن منه ثم قال أن خلافه مع مراكز القوى من المشايخ والضباط ومنهم الشيخ محمد علي عثمان والأستاذ النعمان، لأنه يحرص على استقلالية القرار اليمني تجاه التغول السعودي.
كما نصح القاضي عبدالرحمن الارياني الرئيس العقيد علي عبدالله صالح في رسالته المذكورة أنفا أنه في حال إصرار المملكة على وجود نقاط في مناطق يمنية يجب أن يُقابل بمطالبة يمنية باستعادة شرورة والوديعة والربع الخالي، مستنداً إلى وثائق تاريخية مثل كتاب “صفة جزيرة العرب” الذي حدد حدود اليمن قبل 1500 عام.
ولكن الأكثر إيلاماً ووجعا هو ما كشفه الرئيس القاضي “عبدالرحمن الإرياني”، عن تفاصيل مؤامرة التخلي البريطاني عن الوديعة والشرورة نكاية في الثورة، وفي هذا الصدد كشف الأستاذ راشد محمد ثابت من الله عليه بالشفاء العاجل ، أن الانجليز اتفقوا مع المملكة أن تقوم بدفع تعويضات نيابة عنها مقابل أن تتنازل للملكة بآبار نفط كانت قد حفرتها وأغلقت فتحتها ووضعت على أغطية الآبار العلم البريطاني، فلما سلمت الشرورة والوديعة قامت السعودية باستبدال تلك الأغطية، بأغطية تحمل اسم وعلم المملكة، والمحزن حقا أن الانجليز ابلغوا وفد الجبهة القومية المفاوضات في جنيف ومن ضمن الوفد الأستاذ “عبدالفتاح اسماعيل” أن ينتظروا للوفد السعودي لحضور. المفاوضات والتعهد بدفع التعويضات المفروضة على بريطانيا مقابل استغلال الأراضي اليمنية اليمن نيابة عنها – أي عن بريطانيا – لكن كان رد الوفد الجنوبي المفاوض مخيبا للآمال حيث قال للمندوب السامي المفاوض “أننا أتينا إلى جنيف للتفاوض على الرحيل ولم نأت للتفاوض من أجل التعويضات” مما سمح للسعودية بضمّ الشرورة والوديعة دون مقابل، وبالتالي تخلت بريطانيا عن دفع التعويضات ، وهكذا حصلت المملكة على آبار نفط تنتج مليوني برميل يوميا وارض مجانا!!!.
والسياق التاريخي لاتفاقية جدة 2000م سيئة الذكر التي لا يمكن فهمه بمعزل عن صراع القوى العظمى على المنطقة. فبينما كانت السعودية تدعم الملكيين في حرب 1962-1970 ضد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، كانت تمدّ نفوذها في الربع الخالي، مستغلةً غياب الترسيم الحدودي في معاهدة الطائف وعدم ذكر تلك المعاهدة لأي حدود شرقية للمملكة السعودية تجاه “الربع الخالي” باعتبار الربع الخالي يتبع اليمن كاملا بنص معاهدة الطايف وكان يسمى فناء اليمن – بكسر حرف الفاء المعجمة بنقطة- وكما أشرنا أنفا أنه عندما حاول الإمام أحمد رفض تجديد المعاهدة عام 1954م، وكذلك الإمام البدر من بعده ، حيث قال كلمته الشهيرة التي سمعتها من اثنين كانا حاضرين الموقف – وهما العم احمد بن قاسم الدولة، والعم حسين عبدالعزيز المتوكل رحمهما الله- فحين زار الأمير سلطان الإمام المنصور محمد البدر إلى مقر إقامته في الرياض طالبا منه أن يوقع على شهادة مفادها أن والده كان موافقا على تجديد معاهدة الطايف لولا إصابته بمرض ثم تلى ذلك أحداث انقلاب 1955م الفاشل.
إلا أن الإمام البدر اخذ القلم وكسره حتى تطاير حبر منه إلى عباءة الأمير سلطان ، وقال له يا صاحب السمو بلّغ “جلال الملك” ، أن الكرملين أقرب لي من الرياض ولا أتنازل عن شبر من أراضي بلادي”. هذه العبارة لم تكن مجرد موقف وطني، بل كانت صرخة أمام سياسة التوسع السعودي المدعوم غربياً.ثم طلب الإمام البدر من صديقه التاجر الحاشدي أن يقطع له تذكرة إلى لندن بشكل سري ويحصل له على تأشيرة دخول من السفارة البريطانية وتم ذلك خلال يومين وغادر المملكة وطلب اللجوء في بريطانيا ، ومن هناك أرسل رسالة إلى سلطان مناشدا إياه أن لا يعكس موقفه على اليمنيين اللاجئين في المملكة وان يعتبروا موقفه من الحدود موقفا شخصيا. وتجد الإشارة إلى أن القاضي الارياني رفض تعميد التجديد الذي وقته الحجري ومحمد احمد نعمان وقال كلمته المشهورة ” والله لن اقبل أن أكون اقل وطنية من الإمام احمد” في إشارة إلى رفض الإمام احمد التجديد عام 1954م.
المفارقة أن علي عبدالله صالح، الذي حذره الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني، هو نفسه من تحالف مع السعودية في حرب صيف عام 1994م التي اجتاح خلالها المحافظات الجنوبية، وبسبب تلك الحرب تم التوقيع على اتفاقية جدة سيئة الذكر ثم نشب حروب صعدة الست بغية إخلاء القرى والسكان الواقعة في الخط الفاصل بين الحدود التي حددتها اتفاقية جدة 2000م بعشرين كيلو متر طول بالنسبة للحدود الشمالية وضعف تلك المساحة على طول الحدود مع المحافظات الجنوبية وبسبب اجتياح الرئيس السابق على عبدالله صالح – أقول سابق لان لا شرعية للعليمي- للمحافظات الجنوبية عام 2015م بالتحالف مع أنصار الله فإنه قد أعطى الفرصة المملكة لتلتهم ثلاثة أرباع الربع الذي بقي من ارض اليمن بعد اتفاقية جدة سيئة الذكر، حيث تركز على حضرموت والمهرة وأجزاء من شبوة.
وها نحن اليوم، وبعد ثلاثين عاماً من تلك الأحداث، تتكرر المأساة بأدوات مختلفة. فالحرب الحالية التي تشن في أكثر من منطقة في اليمن منذ 2015، تحت ذريعة مواجهة الحوثيين، تهدف في جوهرها إلى إعادة رسم الخريطة اليمنية وفق الرؤية السعودية. كما أن رسالة القاضي عبدالرحمن الإرياني عن “الربع الخالي” الذي بدأت السعودية استغلاله نفطياً منذ توقيع اتفاقية جدة سيئة الذكر ، مذكرا بما جرى بين الإمام احمد عام 1956م وبين المملكة حين علم بأن التوسعية وضعت نقطة تفتيش وتم رفعا، كما يذكرنا القاضي عبدالرحمن بأن الصراع ليس على الأرض فحسب، بل على ثرواتها أيضاً. وفي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن السلام، تظل اليمن تُقسّم ليس فقط بين أطراف محلية، بل أيضاً بين مصالح دولية متعاركة عبر حلفاء لها من أطراف الصراع في الداخل حتى صار لدينا أكثر من ست سلطات واقع تعمل حثيثا على تشظية اليمن.
وقبل أن ننهي هذه القراءة ، وحتى لا يقول أولئك الذين يقولون بأن معاهدة الطايف قد تم بناء اتفاقية سنة 2000م عليها بأن كيسنجر الذي استعانت به المملكة قد قال للملكة بأن أي اتفاق يبنى على معاهدة الطايف التي لم تجدد وتعتبر معاهدة اذعان مادتها الأولى تنص على وقف الحرب بين البلدين وفيها شرط أن يعامل المواطنين اليمنيين معاملة العنوان السعودي داخل المملكة فهو باطل وفقا للقاعدة “ما بني على باطل فهو باطل” ولذلك سعت المملكة على توقيع مذكرة التفاهم التي نصت مادتها الأولى على : (اتفق البلدان الموقعان على هذه المذكرة على شرعية والزاوية معاهدة الطايف) وقد ناقشني احد أعضاء وفد التفاوض الدكتور صالح سميع حيث كان ضمن الوفد الذي ذهب للتفاوض مع الدكتور رشاد العليمي والدكتور احمد البشاري، ويومها توجه الشيخ عبدالله إلى بروكسل لمهمة متعلقة بالبغشيش وكان هو العراب مع الراحل عبدالقادر باجمال.
ويبقى السؤال الذي طرحه القاضي عبدالعزيز البغدادي: “متى يستفيق اليمانيون من سباتهم؟” أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فما بين وصية الملك عبدالعزيز المزعومة، وتحذيرات الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني، ووقائع التوسع السعودي، تبرز حقيقة واحدة: اليمن لن يتحرر إلا بوعي أبنائه بحقوقهم التاريخية، وبإدراكهم أن الحرب ليست حلاً، وأن الأرض لا تُستعاد إلا بالوحدة وإعادة اللحمة، لا بالتنازلات والوصايات. كما قال الإرياني: “اليمن ليس حديقة خلفية لأحد”، وهذه العبارة يجب أن تكون شعاراً لكل يمني يرفض أن يكون ضحية لتاريخ من التقسيم والهيمنة.
اقرأ أيضا :الأستاذ عبد العزيز البغدادي .. متى يعلم الورثة أن أمن المملكة من أمن اليمن؟!
