صنعاء تغيّر قواعد الاشتباك

صنعاء تغيّر قواعد الاشتباك
صنعاء تغيّر قواعد الاشتباك: اليمن من الدفاع إلى هندسة الردع
- د : عبدالرحمن المؤلف
الأربعاء2يوليو2025_
لم يعد اليمن مجرد “طرف داعم” لفلسطين، ولا مجرد “جبهة رديفة” في محور المقاومة. صنعاء اليوم تصنع التحول، وترسم معادلات جديدة في أمن المنطقة، بل وتفرض على القوى الكبرى إعادة صياغة مفاهيم الصراع وموازين الردع.
إعلان صنعاء الأخير عن توسيع نطاق العمليات العسكرية لتشمل العمق الصهيوني، واستهداف مدينة بئر السبع، كأكبر مركز صناعي بعد تل أبيب، هو تتويج لتصعيد استراتيجي مدروس، وتحول نوعي يحمل رسائل عسكرية وسياسية واقتصادية تتجاوز حدود الجغرافيا اليمنية.
من البحر إلى العمق: كسر احتكار الضربات
الاستخدام الصهيوني للسفن الحربية في مهاجمة الموانئ اليمنية، في ظل امتناعه الواضح عن الزج بطائراته الحربية فوق سماء اليمن، لا يُظهر تفوقًا بل يكشف عن هشاشة ردعية متصاعدة لدى تل أبيب. في المقابل، لم تكتف صنعاء بالرد البحري أو الميداني، بل اختارت نقل المعركة إلى قلب الكيان، عبر صواريخ شظوية ومسيّرات هجومية طويلة المدى.
ولعل أبرز ما يميز هذا التطور هو تحطيم أسطورة الأمن المطلق الصهيوني، وتأكيد أن العمق الإسرائيلي لم يعد خطًا أحمر، وأن الحماية الأمريكية ليست درعًا منيعًا أمام تصميم اليمن على دعم غزة وفرض ثمن مكلف للعدوان.
أبعاد إستراتيجية للتصعيد اليمني
1. عسكريًا: كسر احتكار إسرائيل لضرب العمق
بضرب بئر السبع ومطار بن غوريون، أثبتت القوات المسلحة اليمنية أنها باتت قادرة على فرض التهديد في أي مكان داخل الكيان، وأنها تملك من الوسائل والمعلومات ما يكفي لتوجيه الضربات ذات التأثير المؤلم.
2. سياسيًا: إعادة هندسة محور القوة
يؤكد هذا التصعيد أن موازين القوة التقليدية تنهار، وأن الأطراف المستضعفة نظريًا، باتت تمتلك زمام المبادرة، وتستطيع فرض قواعد اشتباك خارج حسابات القوى العظمى.
3. نفسياً: زعزعة اليقين الصهيوني بالأمن
إدخال سلاح الصواريخ الشظوية يعيد شبح “حرب المدن” إلى وعي الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فيجعل من كل موقع محتملًا للهجوم، ويحول مسألة الحماية إلى وهم نفسي لا أكثر.
4. اقتصاديًا: استهداف بُنى الكيان الصناعية
ضرب بئر السبع يحمل رسالة مزدوجة: للأوساط الصناعية والاستثمارية الإسرائيلية، وللشركات العالمية، بأن الاستثمار في الكيان لم يعد استثمارًا آمنًا، وأن الحرب مع غزة تُكلّف الاحتلال اقتصاديًا من حيث لا يحتسب.
تقارير دولية: أنصار الله يفرضون المعادلة
تقرير دولي حديث صادر عن “منظمة رصد النزاعات المسلحة” أكد أن أنصار الله نفذوا أكثر من 520 عملية عسكرية منذ أكتوبر 2023، منها 155 ضربة دقيقة استهدفت العمق الإسرائيلي، و176 عملية ضد سفن تجارية مرتبطة بالكيان أو حلفائه.
التقرير أشار إلى استخدام اليمن صواريخ فرط صوتية من طراز “فلسطين 2” وطائرات مسيرة متقدمة من طراز “يافا”، ما مكّن صنعاء من شل مطار بن غوريون وتعطيل حركة الملاحة الجوية في أكثر من مناسبة، في حين عجزت القبة الحديدية عن التصدي لكافة الهجمات.
كما لفت التقرير إلى أن 774 غارة أمريكية على اليمن منذ يناير 2024 فشلت في تقويض قدراته أو منعه من الاستمرار في عملياته، ما وصفته المنظمة بأنه دليل على فشل القوة الأمريكية في بيئة حروب غير تقليدية.
الردع اليمني: بين المكاسب الهامشية والاستراتيجية الذكية
صنعاء لم تسعَ إلى دخول حرب شاملة، بل تبنت ما وصفه التقرير الدولي بـ”إستراتيجية المكاسب الهامشية”؛ ضربات صغيرة لكن ذات أثر كبير، اقتصاديًا ونفسيًا، وبكلفة منخفضة جدًا. هذه الإستراتيجية لا تستنزف القدرات اليمنية، لكنها تشل قدرة الاحتلال على الاستقرار والتموضع.
واشنطن: من الفارس الخشن إلى حرب الظل
الولايات المتحدة، التي قادت عملية “الفارس الخشن” في مارس 2025، بتكلفة تتجاوز مليار دولار خلال أسبوعين، اضطرت إلى القبول باتفاق وقف إطلاق نار في مايو 2025، بعد فشل ذريع في تحقيق أهدافها العسكرية ضد صنعاء. واليوم، يقرأ المحللون ما بعد العملية على أنه نهاية لمرحلة “الاحتواء بالقوة” وبداية لما يسمى “حرب التفكيك الناعمة”، التي تديرها واشنطن من تحت الطاولة.
هذه الحرب، كما يُحذر بعض المراقبين، تستهدف الداخل اليمني استخباراتيًا واقتصاديًا ونفسيًا، وتسعى لبناء خلايا عميلة، وزعزعة النسيج الاجتماعي، وإضعاف المؤسسات، في محاولة لتفكيك النموذج اليمني الصاعد دون مواجهة مباشرة.
خاتمة:
ما بعد النصر… معركة أخرى
الانتصار في الحرب لا يعني نهاية الصراع. هذا ما تدركه صنعاء جيدًا، ولهذا تنتقل اليوم إلى مرحلة “معركة تثبيت الاستقلال”، التي تتطلب مناعة سيادية شاملة: وعيًا، وبناء مؤسسات، وتماسكًا داخليًا.
فالعدو – كما تشير المؤشرات – خسر الأدوات الصلبة، وسينتقل إلى أدوات ناعمة وخفية، لكنه سيبقى عاجزًا طالما أن الردع اليمني مستمر، وقواعد الاشتباك الجديدة تُكتب بلغات لا يفهمها المحتل، لكنها تُقرَأ جيدًا في غزة وطهران وبيروت ودمشق.
صنعاء لم تفتح فقط باب التصعيد العسكري، بل فتحت مرحلة جديدة من الصراع الإقليمي، عنوانها: “ما بعد التفوق الإسرائيلي، وما بعد الهيمنة الأمريكية”.
اقرأ أيضا:طريق_القــدس .. انـتصار إيران انـتصار للمقاومة وغــزة
