إبراهيم بن على الوزيرالكل

في ذكراه

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام لكم وسلام عليكم..

للمرة الثانية وفي فترتين متقاربتين ألتقي معكم في إحياء ذكرى راحل عظيم،  إن دلتا على شيء فعلى مكانة  الراحل الكبير عند أصدقائه ومحبيه، بل وعند من لم يتفق معه في أفكاره  إلَّا أنه لا ينكر عليه مكانته العالية. إن هذا الحب والتقدير له من ناحية ثانية يسكب في نفوسنا الجازعة ما يهدهد  به القلوب الواجفة، ويسكن الضلوع الراجفة، فشكراً أخينا الكريم “ضياء السعداوي” على تفضله بإقامة هذه الفعالية، وإصراره على أن تكون في مكتبته العامرة “الحكمة”، و في اختياره هذا لفتة ذكية حيث أن الحكمة يمانية كما في الحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فجميل أن تعقد الحكمة فعاليتها لمفكر حكيم  من بلاد الحكمة، والشكر  موصول إلى الأخ العزيز “صبحي” على ما سلفت له من أياد نحو الراحل الكبير، والشكر أيضاً موصول لمن حضر هذه وتلك  شكر المعترف بأفضاله وكرم مجيئه.

سوف أختصر كلمتي هذه حتى لا أسرق الوقت على أخي قاسم كما فعلت في المرة السابقة، وأترك له المجال ليحلق بأجنحة طوال في أودية خصبة، وسأركز في هذه  الورقة على نقطتين: الأولى نبوغه العلمي المبكر في الحقلين الاجتهادي ونضاله المبكر في الحقل السياسي الثوري والنقطة الثانية ما أضافه على الفكر من جديد مما يجعله في مصاف المجددين الكبار.

أستطيع القول بكل اطمئنان إن نبوغه العلمي ظهر عليه من وقت مبكر، وعندما كنا نحن إخوته ننصرف بعد المدرسة إلى اللعب مع رفاق المدرسة، كان هو يأوي إلى مجالس أبيه العلمية  فينهل من علمه، وإلى حلقة الدراسة في الجامع مع الكبار فيتزود منها، وكان حريصاً ألَّا يفارق أباه في أكثر أوقاته، ولكن عندما علم أن في “هجرة بني الوزير”  مدرسة تدرس العلوم والآداب الحديثة، وتلقي المحاضرات المتفتحة أستأذن أباه أن يسافر إليها للدراسة فمانعه أبوه لما كان له في قلبه من حب، فأصر هو على ذلك لما عنده من طموح علمي رغم حبه الشديد، فسمح له والده لما شاهد عليه من توقٍ للتزود بالعلم والمعرفة. ولما ذهب هناك دخل إلى عالم كبيرٍ من دنيا الجديد لما كان يسمعه من مدرسة العلامة أحمد بن مُحمد الوزير” عن النهضة الجديدة والإصلاح متأثراً بزعيم الإصلاح اليمني عبد الوهاب الوريث”،  ومن خلال مكتبة والده العامرة و ما فيها من كتب قديمة وحديثة وتفسيرات قديمة وحديثة  فالتقى عنده الماضي المجيد بالحاضر الواعد. ولما ودع أباه كان آخر العهد بينهما فلم يلتقيا إلَّا عند ذي العرش المكين.

ومرة أخرى يلتقي الماضي بالحاضر عند نبوغه السياسي، وأستطيع أن أجزم بأن وراءه عاملين: الأول: الإعجاب بصمود أهل البيت عليهم السلام بالرغم من كثرة دمائهم المسفوكة وتساقط شهدائهم الواحد بعد الآخر، وقد خرج من تلك المعرفة بانطباع قوي أن الهزيمة والنصر لا تقاس في معارك الميادين كرًّا وفرًّا، بل في الثبات على المبدأ وإن لم يتقدم في حينه فسينتصر فيما بعد. فعدم استسلام المبدأ هو الانتصار الحقيقي. والثاني تأثر – من خلال مطالعته من كتب والده- بصوت جمال الدين الأفغاني والكواكبي الثوري،  وبأفكار محمد عبده التجديدية، ومن خلال راديو والده تابع جهاد المفتي الأكبر وتأثر بصموده وصلابته، ومن مكتبته الغنية طالع قصص الثورة الفرنسية وتأثر بثوارها  وبشعاراتها. وبالرغم أنه عاش في بيت موفور النعمة إلَّا أن والدته علمته وبنيها الآخرين على شظف العيش.

وهكذا لما سقطت الثورة الدستورية، وذهب العز، وأقبل البؤس قَابَل إبراهيم وإخوته الحالة الممضة بتحد كبير، حمل راية الدستور بعد استشهاد من استُشهد، وسِجن من سُجن، وتشرُّد من تشَرَّد. كان عمره 17 عاماً. ووقف بهذا العمر ليصد تياراً جارفاً في استبسال رائع، وأثبتت الثلاث السنوات القادمة أنه تمكن من إقلاق العهد المنتصر فزُجَّ به في السجن وعمره 20 عاماً.

أحيت “عصبة الحق والعدالة”- التي كان قد كوَّنها قبل سجنه- آمال بقية الثوار الدستوريين المعتقلين، فاحتفلوا بمقدمه في السجن أيما احتفال، وأقروا له بالفضل في إحياء روح الثورة في وقت ظن فيه الناس أن صوت الدستور قد أخمد إلى النهاية، نجد ذلك في ترحيب الشاعر الكبير  الشهير “أحمد بن محمد الشامي” عندما قال في حفل تكريمه داخل السجن:

أأشكر الدهر رغم الهمّ  والألم؟

وهل أبشُّ بقلب غير مبتسـم؟

 

وهل يليق بمثلي أن يُسـرَّ  بما

قد كنت أحسبه ضرباً من الألم؟

 

وما جزاء وصالٍ حف مورده

بالشوك إلاَّ  بكاء غير منفصم؟

 

لكنه الدهر قد جُمَّت غرائبـه

حتى قنعنا من الموجود بالـعدم

 

لما طلعت علينا أشرقت مهج

كانت تخبَّط في بيدٍ من الظلم

 

وعانقت أملاً كمْ طاف مزدهراً

كالضوء أو كعروس الطيف في الحلم

 

وأذّكرت عهدها الماضي فأيقظها

إلى الحياة حياة المجد والكرم

 

تجسمت فيك أمال تهيم بها

قلوبنا يا ابن خير الخلق كلهم

 

فرفرفت حولك الأرواح وانتعشت

بك الحياة ودب البرء في السقم

 

يا كعبة المجد أنَّى للقريض بأن

يفضـي بودي وودي غير منكتم

 

لسادة أنت منهم سوف أجعلهم

ما عشت كعبة آمالي ومعتصمي

 

وليس ذاك لما أرجوه من نشب

كلَّا. ولكن لما أرعاه  من ذمم

 

إن الوفاء لَعهدٌ لا يضيعه

إلاّ لئيم وليس اللَّؤم من شيمي

 

وحيَّاه الشاعر الكبير والمربي الرشيد المرحوم «أحمد المروني» بقصيدة تُرينا الفرحة عند المساجين بتكوين «عصبة الحق» ويقظة الشباب، كما تُرينا كيف كان اليأس يحف بهم في مناخ لا تزال دماء الشهداء تفوح برائحتها الزكية:

هاتها توقظ الشباب النؤُوما 

وتهز الدنيا وتسبي النجوما

 

هاتها شعلة من القبس الخا 

لد تفري ليل الحياة البهيما

 

هاتها قطعة من النغم العلوي 

تحيي النهى وتشفي الفهوما

 

هات ما شئت من حديث المعالي 

قصة تبعث الفخار الصميما

 

وصغ المجد في شعاع من الفـ

كر نشيداً وحي «إبراهيما»

 

أمل لاح في سماء الأماني 

فمحا وحشةً وأجلى هموما

 

ورسول من «عصبة الحق» وافا 

نا بما أفعم النفوس نعيما

 

وبشير بالخير قد حمل البشـ 

رى كما يحمل الربيع النسيما

 

أنت طمأنتنا بأن «شباب الحق» 

يبني   للشعب نهجاً قويما

 

وبأن الجمهور يوقد للطاغـ 

ين نارًا تحوي عذاباً أليما

 

وبأن الزمان سوف يذيق المسـ 

تبدين من لظاه حميما

 

فعلى الرحب قد نزلت وآنست 

نفوساً للظلم باتت رجيما

 

فهي إذ تحتفي بمقدمك السامي 

تحيي  فيك الشباب الكريما

 

وتحييِّ «آل الوزير» حماة الحق

راموا للشعب خيراً عميما

 

فقضـى البعض منهم في سبيل الله 

والبعض لم يزل مستقيما

 

بذلوا المال والنفوس رخيصا 

تٍ لكي ينصـروا الحمى المظلوما

 

عصفوا بالضلال والظلم والدجل 

وشادوا للعدل ركناً جسيما

 

ركبوا الهول والخطوب إلى المجـ

د وخاضوا إلى الخلود الجحيما

 

ولقد أصبحوا بـ«فاتحة التاريخ» 

رمزاً للتضحيات عظيما

 

يا حماة الفخار والحق لا هنتم  اليـ 

وم ولا زال خصمكم مذموما

 

قد أقمتم للدهر أخلد برهـ 

انٍ  بأن   العظيم  لن يستنيما

 

سادتي إخواني..

إننا إذ نحتفل بالسيد النبيل إبراهيم بن علي نحتفل بالشباب الطامح الوثاب، وإننا إذ نحييه نحيي فيه شهداء الحق والوطنية. ولقد كانت محاولتي فاشلة في صوغ التحية اللائقة بالضيف الكريم إذ أن شيطان الشعر لم يرقه الأسر والدخول إلى السجن فأرسل هذه الكلمات المتعثرة باللاسلكي عن طريقة الشفرة فلم أتمكن من فهمها إلا بصعوبة، وإني معتمد على وحدة الشعور، وتجارب العواطف وتفاهم القلوب والأفكار؛ لذلك فإني أرجوكم أن تغضُّوا الطرف عن تقصيري وأن تتموا النقص من وحي مشاعركم الحساسة الكريمة وسأتلقى هذا النقص في فرصة أخرى.

وإني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن إخواني أرحب بالضيف الجديد علينا بشخصه المعروف لدينا بروحه ونبل عواطفه.

وأحيي في شخصياتكم جميعاً أرواح الشهداء الأبرار الذين صرعوا في سبيل الحق والعدالة واستشهدوا في سبيل القضية الوطنية الخالدة التي لن تموت وقد تغذت بتلك الدماء الطاهرة والمهج العالية التي احتلت في فاتحة التاريخ السطور الأولى. وسبقتنا إلى جنة الخلد تردد مع الملائكة قوله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب/23]. رضي الله عنهم وأسكنهم فسيح جناته. وحيَّا الله المجاهدين الأبرار وبارك في عددهم وحقق أماني الكل كما يرضى الله والسلام عليكم). وإعجاباً بشخصية إبراهيم ونضاله وفكره بايعه القاضي العلامة عبد الرحمن الإرياني -رئيس الجمهورية فيما بعد- بعد إلحاح إماماً دستوريًّا، وبايعه الباقون.

سآتي الآن باختصار إلى النقطة الثانية وهي ما أضافه على الفكر الإسلامي من جديد، ويمكن الإشارة إليها في أربعة أفكار جديدة، هي تفسير الأسماء، الفكر البقري، الفكر الكهفي، الفكر المارق، وعلى حد علمي فهذه أفكار لم أقرأها لأحد من قبله، وقد أُعجِبَ بجديدها علامة إسلامي كبير هو المرحوم “محمد الغزالي” ومفكر كبير هو المرحوم “أحمد بهجت” وغيرهما كثيرون، ولن أشرحها لأني سأترك المنبر الآن لفارس المنبر أخي قاسم الأكثر قدرة ومعرفة بفكر هذا المجدد الكبير، إسلام رافقه في كل مراحل حياته، وعاش سراءه وضراءه، وعافيته ومرضه، ولم يفارقه حتى سار معه في موكب الوداع من لندن إلى المدينة المنورة حيث ووري جسده الطاهر في ثراء البقيع المبارك، بجوار جده الرسول الكريم وآبائه الشهداء، وحسن أولئك رفيقا، رحم الله إبراهيم، وحفظ لنا قاسم: حامل رايته من بعده، وشاعر هذا البيت ومفكره.

وسلام عليكم وسلام لكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى