حالة الأمة واليمن
كان العام الماضي بداية مؤشر في التعافي من حالة الحرب في غير قطر عربي: العراق، سوريا، ليبيا، واليمن. شهد عام 2011 بداية انطلاقة ثورة الربيع العربي ابتداءً من تونس 14/ 1/ 2011، وكان الشعار الرئيسي في مناطق الربيع العربي: «الشعب يريد إسقاط النظام».
كان رد الأنظمة العربية منفردة ومتضامنة شن الحرب من أعلى على الاحتجاجات السلمية المدنية، وإطلاق عفاريت العنف الأعمى. حروب الطبقات والسلطات الحاكمة ضد شعوبها وضد الأمم المقهورة شيمة الطغيان في كل زمان ومكان، وجوهر سياسات الاستعمار داخلياً كان أو خارجياً. الباحث فيصل دَرّاج في مبحث له عن «التطرف الأصلي والتطرف الثانوي» في مجلة «النهج» الفصلية خريف 1999 يشير إلى «ظاهرة التطرف الأصلي والتطرف الثانوي، وترافدهما، وتزكية كل منهما للآخر». ولعل كتاب الباحث جلبير الأشقر «صدام الهمجيات: الإرهاب والإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده» رصد مهم لظاهرة العنف والعنف المضاد، لكن ميزة مبحث دَرّاج تمييزه الدقيق بين الإرهاب الخالق والإرهاب المخلوق، وتمييزه أيضاً بين مستويات الإرهاب الآتي من أعلى، وردود الفعل العمياء التي تقوم بها القوى المتطرفة.
ثورات «الربيع العربي» السلمية العفوية والتلقائية والتي كانت شاهد فشل أنظمة الطغيان، والاستبداد العربية، وعجز المعارضة السياسية وهشاشتها، وهو ما يؤكد عليه الأشقر.
الكتاب المنوه به قراءة ناقدة لكتاب هنتجتون «صراع الحضارات»، ولكن كتاب «الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات» لتزفيتان تودورفوف، هو الأكثر عمقاً نقدياً لمنهج وأبعاد كتاب هنتجتون.
حصاد العام 2018، رغم مأساويته، كشف المدى الذي وصلت إليه كوارث أعوام الحرب ضد ثورات الربيع في البلاد العربية. فالربيع ماء الحياة وشبابها يستحيل أن يموت. تشارك الطغاة الفاسدون والمستبدون في قهر الحياة، والقضاء على الاحتجاجات المدنية السلمية، ولكنهم رغم الدمار الذي ألحقوه بالأمة العربية إلا أن الحياة ما تزال تشع بالأمل، وتعد بربيع قادم. فالحياة دوماً أقوى من الموت، ولا يقهر الحرب مثل السلام.
في تونس ما تزال الثورة مشتعلة تواجه التحديات والصعوبات، لكن يقظة الشعب التونسي، مفجر ثورة الربيع العربي، تحرس الحريات، وتواجه الانحراف في الحكم، وتتصدى- في الوقت نفسه- للإرهاب الآتي من اتجاهات ومناطق عديدة. فالحرية في تونس مزدهرة، والحوار مفتوح ومتنوع.
في فلسطين، المبادِرة دوماً، تفجرَ ربيعها ضد الغاصب الإسرائيلي منذ العام 87، والانتفاضة الثانية 2002، ولا تزال الانتفاضتان متواصلتين رغم القمع الإسرائيلي. في غزة يشتد القمع الإسرائيلي، ويزداد إصرار شباب فلسطين على الخلاص من نظام الفصل العنصري. فالاحتجاجات مترابطة حد التلازم ضد إسرائيل، كما هي ضد الطغيان العربي الحاكم.
التحالف الرهيب بين الإرهاب الخالق والإرهاب المخلوق، بين العنف والعنف المضاد المترافدين لوأد الحياة، ومصادرة الحرية، وإخماد جذوة الربيع الذي- تجلى بأبشع صوره في سوريا. فلستة أشهر تتحرك المسيرات الشعبية في أرياف دمشق وبعض أحيائها؛ فيرد النظام بإطلاق السجناء من المجرمين والإرهابيين، وهم مئات وآلاف، واندغمت الشبيحة مع الجيش والأمن في قمع الاحتجاجات. عَجِزَ النظام عن قمع الاحتجاجات؛ فتقاطر الإرهابيون من تركيا والأردن مدعومين من دول الخليج ومسنودين بإسرائيل وأمريكا وأوروبا. استنجد النظام بإيران وحزب الله والروس. المعركة التي استمرت بضعة أعوام تتجلى الآن؛ لتكشف أن نظام الأسد محل قبول من الجميع، وأن تدمير سوريا، وإخماد أنفاس الثورة السلمية هو الهدف الرائس والأساس لكل أطراف الحرب.
سوريا الآن تتعافى، ومعركتها الكبرى تؤكد أن وحدة سوريا أقوى من طغيان النظام، ومؤامرات القوى الاستعمارية وإسرائيل والرجعيات العربية. والعراق أيضاً يخرج من أزمته، ولبنان، هو الآخر، يعود للتحاور؛ لتجاوز أزمة الحكم.
السودان واليمن هما العنوان الأبرز في وعد الثورة الشعبية السلمية المنذورة للحرب والإرهاب والتدخل الرجعي. ففي اليمن انطلقت الثورة الاحتجاجية متفاوتة؛ فقد هبت حضرموت ابتداءً من العام 1997، وبدأ «الحراك الجنوبي» الاحتجاج السلمي عام 2005، واشتعلت الثورة في مدينتي تعز وصنعاء في العام 2011، لتعم المدن اليمنية كلها ممتدةً إلى الأرياف.
جرى الانقلاب على الثورة السلمية بانشقاق الحكم: علي محسن الأحمر، وأعداد كبيرة من قيادات المؤتمر، وخروج آل الأحمر للالتحاق بالثورة، ومن ثم الالتفاف عليها. مبادرة التعاون الخليجي كانت التعبير السياسي والقانوني لاحتواء الثورة، وإعادة اقتسام الحكم بين ركنيه الأساسيين: الإصلاح، والمؤتمر، ومنح الحصانة لكل أطرافه، وإعفائهم من المساءلة، وإطلاق يدهم من جديد. كان الحوار – بالنسبة لهم- استراحة محارب، وظلوا يشعلون الحروب هنا وهناك، وصولاً إلى انقلاب 21 سبتمبر 2014 بتحالف صالح و«أنصار الله».
في اليمن، كما في المنطقة العربية كلها، تكون غاية الحرب والإرهاب والعنف الأعمى تدمير الكيانات الوطنية، وحرف الثورة السلمية عن مجراها الأساسي. فالحرب في اليمن إلى بوار، ولا بديل غير الحل السلمي الديمقراطي.
السودان فاتحة انتفاضات العام الجديد؛ فقبيل انطفاء شمعة العام 2017 انطلقت الانتفاضة الثالثة في السودان معلنةً مجدداً للأمة العربية كلها «الشعب يريد إسقاط النظام». نظام «الجبهة القومية الإسلامية» برأسيه: «المؤتمر الوطني»، و«المؤتمر الشعبي» يترنح تحت هتافات «الشعب يريد إسقاط النظام».
المليشيات، وبيوت الأشباح والتجويع والحروب والعنف والإرهاب لا تستطيع حماية نظام البشير والترابي، وانتفاضات السودان ضد الاستبداد المحمي بالحرب من أعلى أفق انتصارها واعد، وحراب الحامي الأمريكي والإسرائيلي لا هدف لها غير تمرير صفقة القرن، وغرس الصراعات والنزاعات في المنطقة العربية، وحشد المنطقة العربية كلها في مواجهة إيران، وتعميق الصراع العربي- الفارسي، السني- الشيعي.