أخبار عربي ودوليالكل

تقرير : اقتصاد دول الحصار الخليجية ينهار

عام 1971، كانت هناك مساحة صغيرة جدًا تنال استقلالها عن المملكة البريطانية التي غربت عنها الشمس، واحدة من أكثر المساحات القاحلة في العالم، عدد سكان قليل جدًا، وصيادون يعيشون على صيد اللؤلؤ ولا شيء آخر، ومكان بلا آمال، لكن 5 عقود كانت كافية لتطمس ناطحات السحاب وجه الصحراء، وتتحول تلك الجزيرة إلى أغنى دولة على وجه الأرض، مع نصيب فرد يقدر بـ130 ألف دولار من الناتج المحلي.

وتزامنًا مع الاستقلال القطري عن بريطانيا، وبينما كانت شركة “شل” الهولندية تنقب عن النفط في منطقة الشمالية الغربية قبالة السواحل، اُكتشف الغاز الطبيعي لأول مرة عام 1971، لم يكن خبرًا سارًا لجيرانها الخليجيين وقتها، وكانت حرب استهداف ناقلات النفط  في العراق على أشدها، ما أدى لهروب المستثمرين اليابانيين الموجودين لشراء الغاز القطري، وانسحبت شركة “بي بي” لمشكلات سيولة  لديها.

إلا أن حضور شركة “موبيل”، عملاق النفط الأمريكي، أحيا المشروع من جديد، ما أدى إلى طمأنة المستثمرين اليابانيين وعودتهم، ليكسب الأمير القطري الرهان على عكس توقعات – وربما أمنيات – دول الجوار، ومع فوائض النفط والغاز كان التحدي الجديد لأمير قطر في الطريقة الجديدة لإدارتها.

وتكشف الأيام أن فحص أنماط الاستثمار القطرية في جميع أنحاء العالم إستراتيجية شديدة التفرد، مكنت قطر من تمييز نفسها عن دول المنطقة، ومن خلال محفظة استثمارية تتوسع رأسيًا وأفقيًا، أصبحت الاستثمارات القطرية نفطًا لا ينضب، معتمدة على إستراتيجية متشابكة تركز على الاسثمارات الإستراتيجية في شراء حصص من الشركات المتعددة الجنسيات، وبالتالي بناء العلامة التجارية لقطر دوليًا، فاستطاعت قطر مجابهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية – وكان آخرها الحصار الخليجي، دون أن يطرف لها جفن.

توقعت دول الحصار أن غلق الحدود البرية والجوية على قطر سيؤدي إلى انهيار سريع للاقتصاد ويدفعها لتقديم تنازلات فورية والخضوع لها، لكن ما حدث هو العكس، فبعد 15 شهرًا من الحصار والمضايقات غير المسبوقة ومتعددة الأشكال نجت قطر وسوقها المالية من خسائر فادحة أصابت بورصات دول خليجية أخرى في مقدمتها الإمارات والسعودية، فأين مكمن الداء بالنسبة لهذه الأسواق؟ ولماذا انتعشت معدلات

النمو في قطر وارتفع مؤشر بورصتها رغم وطأة الحصار؟.

عندما فُرض الحصار الاقتصادي على قطر برًا وبحرًا وجوًا من 3 دول خليجية، وفي ركابهم مصر، كان الرهان تقويض قدرات البلاد اقتصاديًا لإخضاعها سياسيًا بعد ذلك، وتم تصوير الأمر على أن الدولة الخليجية الصغيرة يمكن أن يتلاشى اقتصادها في بضعة أيام.

لكن التقارير الدولية أشارت أكثر من مرة إلى أن الأثر الاقتصادي للحصار تلاشى خلال الأسابيع الأولى منه، وأكدت نجاح قطر في استغلال ثرواتها الضخمة من الغاز في استيعاب موجة التأثيرات على القطاع المالي وتأمين إمدادات الغذاء والطرق البحرية والموانئ؛ لتتخطى بذلك آثار أزمة الحصار وتعود إلى وضعها الطبيعي.

فقد حولت قطر أزمتها إلى فرصة استطاعت من خلالها أن تحقق معدلات نمو تجاوزت 2% العام الماضي، مع توقعات بأن يصل 2.6% العام الحاليّ، و3% العام المقبل، وهي معدلات تتجاوز بكثير معدلات النمو الاقتصادي في دول الحصار.

وواصل اقتصاد قطر تعافيه من آثار الحصار، وسجل واحدًا من أسرع معدلات النمو في المنطقة بالربع الثالث من العام الماضي، حيث نمتمعظم القطاعات الاقتصادية بما يقارب 4% باستثناء قطاع الهيدروكربونات الذي نما بنحو 20%، من جهة أخرى، زاد إنتاج قطاع التشييد والإنشاءات بنسبة 15%، الأمر الذي يشير إلى استمرار الإنفاق الحكومي على المشاريع.

ورصد تقرير أصدرته “وكالة بلومبرغ” الأمريكية المعنية بمؤشرات الاقتصاد حول العالم انتعاش الأسهم القطرية هذا العام رغم الحصار، مقابل تعطل الأسهم المتداولة في أسواق الإمارات، وتحديدًا دبي التي تراجعت فيها أسهم العقارات بسبب انخفاض قيمة الايجارات وأسعار البيع وسط ضعف كبير يعانيه الطلب المحلي.

وقد حققت بورصة الدوحة هذا العام أكبر المكاسب بالقيمة الدولارية بارتفاع اقترب من 16%، مستردة كل الخسائر التي سببتها الأزمة الخليجية، وفي تباين قاتم، انخفض مؤشر دبي إلى أدنى مستوى له في عامين ونصف العام، مسجلاً خسارة تُقَّدر بنحو 19%، استنادًا إلى تقرير وكالة بلومبرغ الأمريكية.

الفجوة في التقييم بين الأسهم في الدوحة ودبي تتسع.؟

ومقارنة بالدول الأخرى المشاركة في الأزمة الخليجية، أصبحت الإمارات، وخاصة إمارة دبي التي تعتمد على الاستثمارات الأجنبية وعلى حرية التجارة والسياحة، الضحية الأولى لسياسات دول الحصار، فبحسب تقرير لوكالة “ستاندرد آند بورز” العالمية للتصنيف، فإن إيجارات المساكن انخفضت في دبي بنسبة 10 إلى 15%، وسط توقعات بثبات النسبة خلال العامين الحاليّ والمقبل.

وقد اتخذت الدوحة خطوات خاصة بها لتحفيز اقتصادها، في وقت انخفضت فيه أسعار العقارات في دبي وتراجع الطلب، لكن هذه الجهود لم تنعكس بعد على أداء الأسهم، ففي دبي، وضعت أسهم العقارات أكبر ضغط على المؤشر القياسي حيث انخفضت أسعار الإيجارات وأسعار البيع وسط ضعف الطلب المحلي.

وردت قطر على الخلاف بخطوات لإغراء المستثمرين، فسمحت للعديد من الشركات بزيادة الملكية الأجنبية، في حين أن البلد جعل الإقامة الدائمة خيارًا لغير المواطنين، ووصف وزير الاقتصاد والتجارة أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني الحصار بأنه “نعمة” للدولة الغنية بالغاز، مع ارتفاع الصادرات والتجارة العالمية.

وفي وقت سابق من هذا العام، ارتفعت أسهم الشركات الكبرى في الدوحة، وسط توقعات تدفقات المستثمرين من مؤشرات الأسواق الناشئة بعد التخفيف من القيود المفروضة على الملكية الأجنبية، مما أضاف إلى تحسن آفاق البنوك والبتروكيماويات.

وبينما لا تظهر المواجهة أي علامة على الانتهاء، فإن الفجوة في التقييم بين الأسهم في الدوحة ودبي تتسع، فنسبة السعر إلى الربح المقدرة للأسهم في الإمارة خلال الاثني عشر شهرًا القادمة هي 7.2 مرة مقارنة بـ12.3 مرة في قطر، بالقرب من أكبر فجوة منذ عام 2011.

وبحسب صحيفة الراية القطرية، فإن هذه المؤشرات تؤكد أن قطر تسير في الاتجاه الصحيح في طريق اعتمادها على الذات وتشجيع الإنتاجية لتصل إلى نسب عالية جدًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، مؤكدة أن الحصار كان دافعًا لقطر وأهلها من أجل العمل على تشجيع المنتج المحلي ودعم نموه.

مصر والسعودية.. الحصار يعود بأثر عكسي

ليست السعودية بأفضل حال، رغم أن مؤشر سوقها المالية ارتفع قليلاً منذ بداية العام الحاليّ، فإن المعطيات الأساسية للاقتصاد لا تسير وفق المخطط له في رؤية “2030”، فعلى سبيل المثال تشير التقارير الدولية إلى أن المستثمرين الأجانب يتفادون وضع أموالهم في السعودية رغم خطط الإصلاح الاقتصادي وسياسة الانفتاح التي تبناها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وأظهرت أرقام مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الجديدة في السعودية إلى أدنى مستوياتها في 14 عامًا، ووفقًا لتقرير نُشر في الـ7 من يونيو/حزيران الماضي، انخفض صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.4 مليار دولار خلال سنة 2017، مقارنة بنحو 7.5 مليار دولار خلال سنة 2016، وهو ما يتماشى مع أرقام نشرها البنك المركزي السعودي في الأسابيع الأخيرة.

ومنذ ذلك الحين، لم يكن هناك أي مؤشر يدل على تحسن الأمور، وبحسب شركة “كابيتال إكونوميكس للاستشارات” التي تتخذ من لندن مقرًا لها، واصل تدفق رأس المال من السعودية بلوغه أعلى المستويات خلال هذه السنة، ففي تقرير نُشر في 20 من سبتمبر/أيلول، قالت الشركة إن صافي تدفقات رأس المال كانت تبلغ نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من السنة الحاليّة مقارنة بأقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر سنة 2016.

ويلقي الاقتصاديون باللوم في ضعف الاستثمار الأجنبي على انحدار أسعار النفط منذ 2014، والانخراط في حروب المنطقة ومنها حرب اليمن التي أضرت بجميع اقتصادات دول الحصار وأدت إلى الهروب من مناخ الاستثمار غير الملائم، لكن السعودية التي تعول عدد سكان أكبر بكثير وبعجز ميزانيتها الأكثر ضخامة، اضطرت إلى أخذ إجراءات تقشف أشد من جيرانها.

أما مصر، وعلى مدار أسبوع متواصل، فقد حققت بورصتها خسائر فادحة، كانت ذروتها الأربعاء الماضي حيث أغلقت تعاملات البورصة بتراجع قيمته 23 مليار جنيه (1.3 مليار دولار) ليمثل التراجع الأعلى الأسوأ منذ تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بحسب وكالة رويترز.

ويعد تراجع هذا اليوم الأكبر منذ 21 شهرًا، وقد جاء استكمالاً للهبوط الذي تتعرض له البورصة خلال الأيام الأخيرة بصورة لم تشهدها منذ سنوات، فخلال جلسات الأسبوع الماضي تراجعت الأسواق المالية بنسبة 3.1% عند مستوى 15309 نقاط، ليبلغ إجمالي قيمة التداول 6.6 مليار جنيه خلال هذا الأسبوع مقارنة بإجمالي قيمة تداول قدرها 10.5 مليار جنيه، خلال الأسبوع الماضي، فيما بلغ حجم التراجع خلال

الشهور العشر الأخيرة نسبة 1.74% عن مستواها بداية العام.

في مقابل ذلك حققت البورصة القطرية الإثنين الماضي أرقامًا قياسية، حيث ارتفعت أسهم عدد كبير من الشركات، فيما انخفضت أسعار 8 شركات أخرى، وطبقًا لصحيفة”الوطن “القطرية، فإن مكاسب بورصة الدوحة تجاوزت 19 مليار ريال قطري ( 5.2 مليار دولار).

وقد أثارت الخسائر المصرية العديد من التساؤلات، وتراوحت التفسيرات بين قضية التلاعب في البورصة التي تم إحياؤها من جديد ضد نجلي الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وثلاثة من كبار رجال الأعمال، وعدم الاستقرار السياسي وقرارات المصادرة الأخيرة لأموال 1589 من قيادات الإخوان المسلمين ومعارضي النظام.

حصار لم يثبت جدواه

لكن الحصار المفروض على قطر لم يثبت حتى الآن جدواه، بل على العكس من ذلك، فإن خسائره أصابت المحاصرِين بشكل واضح، وليس فقط اقتصاديًا، وإنما أيضًا اجتماعيًا وسياسيًا، بل وحتى أخلاقيًا عندما تجاوزت دول الحصار القانون الدولي وقواعد حفظ حقوق الإنسان الأساسية.

وفي حسابات الدول المناهضة للدوحة، كان من المفترض بهذه الخطوات أن تؤدي إلى استسلام قطر للأوامر التي تقوم بإملائها عليها، فقد تسلحت دول محور الحصار بالتصور القائل بتفوقها الساحق في مجال القوة التقليدية، فضلًا عن الخلل الهائل لصالحها في ميزان القوى، وهو الأمر الذي كان من المفترض ألا يترك للدوحة أي فرصة للمناورة أو الصمود، فضلًا عن المواجهة.

لكن أبدت قطر علنًا، ومنذ وقت ليس بالقصير، مخالفتها الاقتداء بخط السلوك المطلوب منها من السعودية والإمارات والبحرين من خلال اتباع سياسة مختلفة تجاه الإخوان المسلمين، وإبرام شراكة مع إيران وتركيا، كما سجلت قطر أيضًا انفتاحًا على روسيا، ما جعلها تملك المناخ الأكثر جذبًا للاسثمار في المنطقة، مقارنة بجيرانها الخليجيين.

كما عملت قطر على ضمان استمرار وجودها باتباع توجهين رئيسيين: تمثَّل الأول في تحالفها مع الولايات المتحدة، والثاني في شراء كميات ضخمة من العتاد العسكري، فضلاً عن قبول استقبال معارضي أنظمة دول مجلس التعاون الأخرى على أراضيها، وتمويل منصات إعلامية منتقدة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وهي خطوات اعتبرتها دول جوار قطر الكبرى استفزازات لا تُغتفر.

لقد ساعد اعتماد قطر على هذه الإستراتيجيات بدرجات مختلفة إلى تحول سريع في المعادلة مع دول محور الحصار، وبعد أكثر من عام على الحصار، تُبدي الدوحة بشكل متزايد قدرتها طويلة الأمد على تجاوز مفاعيل الحصار إلى مستوى جديد مختلف كليًّا، وهو توطيد النفس على هذا الوضع المستجد في التاريخ القطري والتأقلم معه بما يلغي مفاعيله بشكل تام على المدى البعيد.

وكالة الصحافة اليمنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى