الكلكتابات فكرية

الطريق الي المستقبل

 

الطريق إلى المستقبل (1)

 

 

لقد آن أن نولي وجوهنا وعقولنا ، وجهودنا شطر المستقبل ، وحيثما كنا -ايدولوجياً أو حزبياً أوميولاً – يجب أن نولي وجوهنا شطره ؛ فإننا – وحتى الآن – ما زلنا نعيش في الماضي – أو على الأصح – نعيش الماضي : نستجر آلامه ومواجعه ، ونستحيي ذكرياته ومصطلحاته ومدلولاته وشعاراته ، ونشتبك مع وقائعه وأحداثه في معارك حقٍ أو باطل لن تغير منها – على كل حال – في قليل أو كثير .. ولكنها تحبسنا في مجالها فنضل ندور فيه دوران جمل المعصرة في المعصرة ، ومن ثم نستدعى منطقه وننزله على واقع بائس يتخبَط في مآسيه فتزيده إرباكاً وبلبلة وحيرة بدلاً من اتخاذه قاعدة انطلاقٍ واع ورشيد إلى مستقبل منشود : مستقبل نريده ولا نعمل من أجله . نستدبره ونستقبل الماضي باستدعاء منطقه ولغته طارحين مشاكله على واقع لا يقبله وعلى مستقبل يرفضه ، وهذا هو العبث بذاته . بل هو الضلال البعيد الذي يجعل القضية الأساسية تعاني الاغتراب في حومة الصراع !

وما هي القضية ؟ 

إنها المستقبل : كيف نريده ، وكيف نبنيه ، وكيف نصل إليه وكيف نجعل من حاضرنا سبيلا إليه لا صداً له.

أسئلةٌ يركب بعضها فوق بعض لا تكاد تسمع لها ركزا في صخب الحرب ولا تلمح لها طيفا في غيبة الفكر وغربة الوعي . قد شغل عنها ” المثقف ” بالانتماء إلى هذا الفريق أو ذاك أو قنع – في أحسن الأحوال – بالتعليق على الأحداث وتحليلها بمتقتضى الميول والأهواء وكذلك شغل عنها ” الجمهور ” باعباء الحرب وتداعياتها ومآسيها ، وأثقال العيش التي أصبحت أشد وطأة من الحرب وأفدح أثاراً من القتال !..

وهنا أحب أن أكون واضحا كل الوضوح ؛ فأنا لا أنكر أهمية النظر إلى الماضي بعين فاحصة ودراسته بأسلوب علمي ، فذلك شرط لفهم الحاضر وشرط من الشروط الأساسية لبناء المستقبل ..

نعم ! يجب أن ندرس الماضي أعمق الدرس ، ونقرأه أعمق القراءة ، ولكن نقرؤه لا نعيشه وندرسه لا نستعيده ، ونستوعبه لا نكرره ونفحصه فحصا يميز بين ترابه وتبره ، ونستخلص دروسه وعبره : ندفن الرمم الميتة منه ولا نبعثها ، ونستثمر العناصر الحية إمداداً للمستقبل بمصادر للقوة والتجربة والفعالية في تقدمنا إلى الأمام .. نحوالمستقبل ..

ومن البلية أننا لا نفعل ذلك، بل إننا نغرق في الماضي نردد مقولاته ونستحيي تقاليده ونتراشق بهذه أو تلك من عواره فنحيد بالقافلة عن الطريق ونتنكب بها عن سواء السبيل:

أنظر – إذا شئت – إلى ثقافة الإقصاء بمنطق القدرة عليه وحدها، وإلى ممارسة الاستعلاء بحجة القوة وحدها، وإلى الاحتكام إلى العرف الجائر لا الشرع العادل. أنظر إلى ذلك كله وإلى غيره من الظواهر السلبية تجد البرهان الساطع على أننا نعيش الماضي القريب المظلم ونسحبه سحباً إلى الحاضر الدامي ألذي أصبح امتداداً له لا حقلا خصبا تبذر فيه بذور المستقبل الذي نريده وتقوم عليه أسس الغد الذي نتطلع إليه ..

ثم أصخ السمع – إذا شئت – فهل تسمع إلا مكاءاً وتصديه لشعارات مندثرة، وتنابز بعنصرية فجة ومذهبية شاذة لا مكان لها في قاموس من يؤمن بمبدأ المواطنة التي يتساوى بها الجميع، وتتكافؤ بها الفرص، وتكتمل بها المساواة في الحقوق والواجبات. ويتحقق بها العدل.

ألا ترى أن إحياء تلك المقولات وترديد تلك النعرات على اختلافها وانتمائها إلى ماض أنقضى – إنما هو استدعاء لها للإقامة بيننا والاستيلاء على الواقع الراهن المفرغ من كل معنى إيجابي؟ وإذا كان ذلك لا ينسجم مع منطق التاريخ وحركته، فانه قد ينسجم مع ” مكر التاريخ ” حسب تعبير ” هيجل ” ! .

لقد اغتالوا عمداً ثورة 2011 م لأنهم يريدون بهذا كله أن يهيلوا عليها التراب حتى لا يقوم عليها المستقبل كما ينبغي أن يقوم …

وعلينا أن نحفظ العهد ونحمي المستقبل : ندق بابه ليفتح ، ونبذر ثقافته لتنمو ونرسى قواعده لتقوم ..

هذا هو الطريق ..

وأول العمل في هذا ومن أجله.. إنما يبدأ بالاستعداد له، والاقتناع به ومن ثم حشد طاقات المؤمنين به لإيقاف هذه الحرب العبثية الظالمة بكل وجوهها الكريهة، وبكل عناصرها إذ لا يمكن – في مصطرع رياحها الهوج – للعمل الجاد في بناء المستقبل أن يمضي لوجهته أو يبلغ غايته.

إن إيقاف الحرب وإنهاء العدوان هو الأولوية الراهنة التي يتوقف عليها أمل الآمل، ونجاح العامل. وعلى عاتق القوى الوطنية المستنيرة كافة ومن أي اتجاه – والعلماء منهم والمثقفين خاصة – تقع مسئولية الاضطلاع بهذا الدور. وهذا الدور بذاته يقتضي التجرد من كل انتماء ضيق فاؤيا، أو حزبياً، أو مناطقياً، أو مذهبياً، أو عائلياً، والتلاحم ضمن موقف وطني شامل وجامع لإيقاف الحرب المدمرة حفاظاً على كيان الأمة من التشظي والانهيار وعلى معايش الناس من الاندثار وطريقاً وحيداً إلى مغادرة الحاضر البائس إلى المستقبل .

هذا واجب لا يشذ عنه إلا ناكر لحق الوطن عليه أو عالم خائن لأمانة علمه، أو “مثقف” جاحد لدوره متخل عن رسالته:

إن السبيل إلى ذلك هو – أولاً – تأييد أي صوت يرتفع، ومساندة أي جهد يحتشد من أجل ذلك بصرف النظر عن هوية مصدرة، ثم – ثانيا – المبادرة العاجلة لتجميع هذه الأصوات البارة والجهود المحمودة في تكتل وطني شعبي جامع يشكل قوة ضغط فعال تقف به قوى السلام في جانب ودعاة الحرب أعداء السلام في جانب ويتميز بذلك الحقُ من الباطل، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر المستقبل،

هناك مبادرات سبق بها لفيف من الوطنيين وكتابات بادر بها بعض الكتاب المستنيرين، عليها يجب أن تبنى الجهود حتى يتحقق الائتلاف الوطني المنشود.

إن السلام هي الأرضية المشتركة التي تنطلق منها طلائع المستقبل وهي – كذلك – الأرضية التي ستتيح – متى تحققت – لكل فرد وكل جماعة الحرية الحقة في وطن يتسع لجميع أبنائه في إطار مواطنة تتساوى فيها الحقوق والواجبات.

إن المستقبل يبدأ من هنا! وإن صوت الفكر والمنطق يرتفع عندما يخفت صوت العنف. وإن الحرية إنما تشرق شمسها عندما تنزاح غيوم الاقتتال ببروقها و صواعقها، وإن العدل إنما يتحقق عندما تصبح القوة للحق وليس الحق للقوة التي يفرضها منطق البندقية وبطش الاستبداد! 

فلنتفق الآن على هذا، ولنعطه موثقاً من الله أن نخلص له الإخلاص كله ولا ندخر جهداً على مستوى الفكر والعمل وعلى مستوى الدعوة إليه والتبشير به وعلى مناهضة من يقف في وجهه بالقول الشارد أو الجهد الحاقد أو طرح الشروط التعجيزية التي تباعد ولا تقرب وتنفخ في النار ولا تطفؤها .

 دعونا نآمل .

ودعونا نعمل .

وعلى الله سبحانه وتعالى فليتوكل المؤمنون ؛؛..

       قاسم بن على الوزير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى