إرادة السلام وأفول نجم القوة
يوماً بعد يوم تتزايد مؤشرات فشل القوة في غير مكان. ففي فلسطين لا تزال جذوة انتفاضة أطفال الحجارة مشتعلةً، وقد تحولت إلى «مسيرة العودة»، وكما عجز الجيش الأقوى في المنطقة من كسر إرادة الاحتجاجات السلمية، فسيجد نفسه عاجزاً عن هزيمة احتجاجات الفلسطينيين الساعية للعودة.
اشتداد القمع الإسرائيلي، وقوانين الفصل العنصري تقوِّي عملياً، وتوسع دائرة الاحتجاجات السلمية، سواءً في الداخل الفلسطيني أو في الضفة والقطاع. كرست دولة الفصل العنصري وجودها في فلسطين بسلاح القوة، وهي الآن تواجه الحق الفلسطيني والشعب الأعزل بهذا السلاح.
السلاح «المنتصر» منذ 48 وما قبلها لا يزال يعلن عجزه عن كسر إرادة الطفل الفلسطيني، وما تكرار إعلان انتصاره اليومي لأكثر من ثلثي قرن إلا شاهد الفشل والإخفاق. فالسلطة الغاصبة المحمية بالقوة، والمجردة من الحق والقيم والعدالة مآلها الهزيمة. فالتاريخ البشري كله، وتجارب الحياة والشعوب تؤكد أن «قوة الحق» أقوى من «حق القوة».
القرن السابع والثامن والتاسع عشر هي عصور الاستعمار، وكذلك هي عصور الثورات: الفرنسية، والبريطانية، والأمريكية. وكانت خاتمة القرن التاسع عشر عصر الثورات: ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، والثورة الكمالية في تركيا، والثورتان: الإيرانية، والمصرية.
القرن العشرون عصر تحرير الشعوب، وقرن الثورات والانقلابات العسكرية، وقد شهدت خاتمته الثورات السلمية: الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية في فلسطين، وثورة الربيع العربي في البلاد العربية. وبرغم الانتكاسة والالتفاف على هذه الثورة وقمعها، والحرص على عودة النظام القديم إلا أن شرارة هذه الثورة ما تزال كامنة، ومؤشرات انفجارها قائمة في غير منطقة.
لم تعد الاحتجاجات السلمية محصورة في البلدان العربية. فإيران تشهد موجات من الاحتجاجات في العديد من البلدان الرئيسية هناك، وتركيا -برغم القمع الشديد والاعتقالات الكيفية بالمئات والآلاف- تشهد تململاً ورفضاً لنهج الحكم، وهو في تزايد.
في فلسطين لا تزال جذوة ثورة الحجارة مشتعلة؛ فمسيرات العودة- منذ بضعة أسابيع- تمثل استمرارية الثورة الشعبية لمقاومة الاحتلال. ولعل الاحتجاجات العراقية أبرز مؤشرات استمرار «الربيع العربي» الذي أصبح البديل الأفضل لنهج الفساد والاستبداد والفتن والحروب التي دمرت المنطقة، وهي الرد الصائب على الانتخابات المغشوشة التي تعيد إنتاج النخب الفاسدة والمستبدة.
وتشهد المغرب- منذ أشهر عديدة- تحركات الريف التي تمتد إلى المدن، مبشرةً بأن فجر «الربيع العربي» لا يزال هو الأفق المفتوح أمام الأمة العربية.
التلاعب بالانتخابات، والعجز عن حل قضايا المجتمعات، والفشل في خلق البديل الديمقراطي، وتحقيق التداول السلمي للسلطة في العديد من دول العالم، بما في ذلك بعض البلدان الأوروبية- يدلل على أن الاحتجاجات السلمية هي سمة القرن الواحد والعشرين، وهي الوسيلة المثلى للتعبير عن إرادة الشعوب، ورفض احتكار الحكم، سواءً عبر القبضة الحديدية، أو عبر الانتخابات المغشوشة التي لم تُستثنَ منها حتى بعض البلدان المتقدمة: (أنموذج ترامب في أمريكا).
الانتخابات الفرنسية، وسقوط ممثلي الأحزاب الكبيرة مؤشر مهم في اتجاه التجديد والتغيير.
في «اليمن السعيد» سابقاً، وقبل الحروب المتسلسلة والمتناسلة، نلمس فشل الحربين: الداخلية، والخارجية. فبعد مضي أكثر من ثلاثة أعوام، عجزت «مليشيات» مدججة بالسلاح حتى الأسنان، وتتلقى كلها دعماً وإمداداً بالعدة والعتاد من المحيط الإقليمي، وعجزت- في المقابل- السعودية والإمارات اللتان تقودان تحالفاً اثني عشري عن تحقيق حسم عسكري في كل الجبهات المفتوحة كأبواب جهنم.
«المليشيات» الداخلية هي الأخرى منغمسة في الحرب، وتقوي بعضها بعضاً، وتعطي المبرر والذرائع لإطالة أمد الحرب، والاستفادة منها وإلى أبعد حد، وجر الصراع الإقليمي إلى توسيع رقعة الحرب، واستمرار الرهان على حسم عسكري «منتظر».
مأساة «المليشيات» الداخلية أن طول أمد الحرب يفقدها الوزن والتأثير، بالقدر الذي يضعف الأحزاب والقوى المساندة لها؛ لتصبح الأوراق كلها بيد الأطراف الإقليمية التي توظف الحرب لصالحها ولصراعاتها في أماكن أخرى، وتفتح الأبواب أمام الصراع الدولي.
المؤشرات في غير مكان تدلل على أن الاحتجاجات السلمية هي السمة الرئيسية في عصرنا، وهي البديل الأروع والإنساني للانقلابات والحكم بالغلبة والحروب الأهلية، كما أنها الرد الصائب والعملي على تزييف الانتخابات، والافتئات على إرادة الشعوب ومسخها.
احتجاجات العراق فاتحة التحول الأجد. ويمكن لحادث فردي أن يشعل الأرض: البوعزيزي في تونس في 2011، وخالد سعيد الذي قتل في الإسكندرية تحت التعذيب، ومحسن فكري بائع السمك الذي دهسته سيارة الشرطة في الحسيسة بالمغرب.
إرادة الحياة هي الأقوى دوماً من الموت، وقد تعبر عن نفسها بصور وأساليب مختلفة، كما أن فشل الحرب أيضاً لا يُدلَّل عليه بالخسائر الباهضة فقط، ولا بطول أمد الحرب، على أهمية ذلك.
لنقف على فظائع وكوارث الحرب في اليمن، ودلائل وشواهد فشلها الكاثرة. فالحرب التي تلج عامها الرابع، وتشترك فيها أو تنخرط قوى إقليمية: إيران من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، (تقودان «التحالف» وتتمتعان بمساندة لوجستية أمريكية وأوروبية)، لم يستطع أي طرف من أطرافها تحقيق انتصار حاسم، وفشلها يتأكد في تزايد جرائمها بدون نهاية، وفي المآسي الكارثية التي طالت الكيان اليمني: أرضاً وإنساناً. فهنا ما يقرب من أربعة ملايين مشرد يقولون للمتحاربين: كفى! مئات الآلاف من المعاقين يستصرخون «المليشيات»: كفى! القتلى، وهم عشرات الآلاف، يقولون: كفى! المدمرة مزارعهم، ومنازلهم، وقراهم، وأسواقهم، ومدارسهم، ومساجدهم يصيحون: أما لهذا الدمار من منتهى؟
جرائم استهداف المدنيين والأحياء السكنية والأسواق الشعبية، التي تكررت أكثر من مرة وكان آخرها سوق السمك في الحديدة، تبعث الأسى في القلوب.
تقرير الأمم المتحدة قد رصد صورة الكارثة وحدد أبعادها: 18 مليوناً لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم القادمة، ومواطنون لا يأكلون إلا وجبة واحدة في اليوم أو اليومين، وهناك 8 مليون في جوع شديد. 7 محافظات في حالة طوارئ، وهي مرحلة ما بعد المجاعة، و22 مليوناً بحاجة إلى مساعدة غذائية، بحسب تقرير «برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة».
«منظمة الصحة العالمية» تحذر من عودة الكوليرا، داعيةً إلى وقف مؤقت لإطلاق النار لتتمكن من التلقيح وإيصال الدواء. فهل من حاجة للتدليل على فشل الحرب بعد أن تحول «اليمن السعيد» إلى أسوأ كارثة على وجه الأرض؟
إرادة السلام كإرادة الحياة واحدة، وهي قضية قضايا شعبنا وأمتنا. لا يمكن حل قضايا الجنوب بمعزل عن الشمال، والعكس صحيح. الصراع اليمني مرتبط بالصراع الإقليمي المفتوح على الصراع الدولي.
السعي الدائب للسلام، وتحركات المبعوث الأممي، واللقاءات هنا وهناك لا بد وأن تدرك التلازم بين أبعاد الصراع في هذه المستويات.