بين تبعية الجغرافيا واستقلال القرار اليمني

بين تبعية الجغرافيا واستقلال القرار اليمني
- بقلم: حسن الدولة
الاربعاء 17 سبتمبر 2025_
نُشر في صحيفة الشورى الإلكترونية يوم الثلاثاء الموافق 16 سبتمبر 2025م
في هذا المقال الذي كتبه القاضي عبدالعزيز البغدادي بعنوان ” حول دور القاضي عبدالرحمن الإرياني في تثبيت النظام الجمهوري”، حاول من خلاله تقديم صورة متكاملة عن شخصية القاضي عبدالرحمن الإرياني ودوره المحوري في تثبيت النظام الجمهوري، وقراءته للعلاقة المتوترة بين اليمن والسعودية، لا سيما من منظور السيادة والاستقلال. وقد حاول المقال تجنب ذكر مرجعية القاضي الزيدية حتى لا يثير حفيظة خصوم المذهب، فاكتفى بوصف مرجعية القاضي الوسطية الإسلامية الاعتزالية القائمة على اتباع منهج عقلاني (1).
لقد استعرض المقال ثمانية محاور رئيسية يمكن دمجها في خمسة محاور جامعة، نوردها مع التعليق على كل منها على النحو التالي:
اولا: الخلفية الفكرية والسياسية للقاضي الإرياني:
أشار القاضي عبدالعزيز إلى وسطية ثقافة الإرياني الإسلامية، واعتزاليته العقلانية (2)، ووعيه العميق بأن الثورة يجب أن تقوم على رفض العنصرية وأسباب التخلف. كما أبرز شخصيته التوافقية وقدرته على إدارة التناقضات بين التقدميين والرجعيين على حد سواء. والحق أن الإرياني لم يكن مجرد سياسي جمهوري، بل مثّل ضمير الثورة ومؤسسة الحكم المتزن، وقد تجلى ذلك في نجاته السياسية التي أذهلت خصومه وأغاظت بعض رفاقه. فقد قال الأستاذ النعمان إن الإرياني كان محظوظاً، يخرج من السجن إلى الديوان الملكي، بينما الآخرون يتنقلون بين السجون والمنافي. وأورد الأستاذ أحمد الشامي في كتابه “رياح التغيير” مشهدا دراميا حين تشفع هو وولي العهد البدر لصديقيهما الإرياني والسيد محمد عبدالقادر، فإذا بالإمام لا يرى مانعا من العفو عن القاضي بينما يرفض الصفح عن السيد. كل هذا يدل على حنكة القاضي ودهائه، وقدرته على تجاوز العواصف دون تنازلات جوهرية في مواقفه. كما أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان يقدّر الإرياني، فقد اختاره لإلقاء كلمة اليمن في أول قمة عربية بعد الثورة، بدلا عن الرئيس السلال الذي كاد ينسف العلاقات مع المملكة بكلمة متشنجة،(3) فأنقذ الإرياني الموقف بخطابه المتزن، وأبدى الملك سعود رضاه عن ذلك الأداء.
ثانيا: دور القاضي الإرياني في تثبيت النظام الجمهوري:
تسلّم القاضي الإرياني رئاسة المجلس الجمهوري بعد انسحاب القوات المصرية، وهي مرحلة مفصلية كادت تعصف بالجمهورية الوليدة، حيث حوصرت صنعاء لسبعين يوما من قبل الملكيين المدعومين سعودياً. إلا أن الشعب أظهر مقاومة ملحمية حقيقية، برز فيها دور القيادة السياسية، وعلى رأسها القاضي الإرياني، في الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية. هذه اللحظة أثبتت أن الإرياني لم يكن مجرد رئيس شكلي، بل قائد وطني شجاع، استطاع أن يثبت أركان النظام الجمهوري في ظل ظرف إقليمي ودولي معقّد. ومن المفارقات أن هذه النجاحات لم تكن محل ترحيب من قبل السعودية، التي رأت في الرجل عقبة أمام مشروعها في اليمن، فحاربته سياسياً رغم محاولاته المتكررة لمد الجسور معها على قاعدة الندية وحسن الجوار.
ثالثا: سياساته تجاه السعودية وعلاقاته الخارجية
رغم الجهود الصادقة للقاضي الإرياني في بناء علاقة سوية مع المملكة تقوم على احترام السيادة، إلا أن السعودية قابلت ذلك بالاستعلاء، وظلت تتعامل مع اليمن كحديقة خلفية لمصالحها. وكما قال البغدادي، فإن “الجار السعودي يقابل كل ذلك بالاعتماد على سياسة الاستعلاء والرغبة المريضة في إبقاء اليمن حديقة خلفية”. وكان القاضي يرى أن السعودية لا يمكن أن تحترم اليمن إلا إذا وجدت في صنعاء قيادة مستقلة قادرة على فرض احترامها، وقد بذل جهوداً عديدة عبر مذكراته وخطاباته لتأكيد هذا المبدأ. في إحدى رسائله إلى الرئيس علي عبد الله صالح، أشار القاضي إلى ضرورة الضغط على السعودية لاستعادة الحقوق اليمنية في الوديعة والشرورة، لكنه فوجئ بتوقيع مذكرة تفاهم ألغت كل تلك الجهود، حين نصّت على “شرعية وإلزامية معاهدة الطائف” المنتهية، وبذلك تم التنازل عن أكثر من مليون ومئتي ألف كيلومتر مربع من الأرض اليمنية، ولم يبق من اليمن سوى ما يمكن أن يُطلق عليه “الربع اليمني”.
رابعا؛ الموقف من التدخلات الأجنبية والصراعات الداخلية
انتقد القاضي في مذكراته بشكل واضح تدخلات السعودية وعملاء الداخل الذين سهّلوا لها التمدد على حساب اليمن. كما رفض القاضي بشدة الانقلابات والصراعات المسلحة بين اليمنيين، وكان يرى أن كل حرب عربية – عربية هي عبث سياسي مرفوض، فآمن بالسلام العالمي وساهم في حركة عدم الانحياز. وأنا أرى أن الإهانة لم تكن في التسمية فحسب، بل في الأهداف الحقيقية التي هدفت إلى تنفيذ مشروع تشظية اليمن والأستيلاء على المزيد من الأرض اليمنية (4)، ظهر من خلال تكريس سلطات متفرقة في عدن، وسقطرى، والمهرة، وحضرموت، ومأرب، وتعز، وصنعاء، والمخاء، وغيرها، ما يفتح الباب لتدويل القضية وتمزيق اليمن جغرافياً وسياسياً.
خامسا: الإرث الديمقراطي للإرياني ومواقفه من الحكم الفردي؛
كان الإرياني أول وآخر رئيس مدني حقيقي في الجمهورية اليمنية الشمالية، وقد عُرف بمقولة خالدة تلخّص فلسفته في الحكم: “لن أقبل أن تُراق قطرة دم طائر دجاج من أجل الحفاظ على الكرسي، لأن السلطة ليست مغنمًا ولكنها مغرم”. آمن بالحكم الجماعي، ورفض الديكتاتورية، ووقف بصلابة في وجه من حاول تحويل الجمهورية إلى ملكية جديدة بغطاء جمهوري. وبسبب موقفه هذا، انتهى به الأمر إلى الاعتكاف مرارًا أو تقديم استقالته، احتجاجاً على تدخلات المشايخ والضباط الموالين للسعودية. وقد اتُهمت السعودية لاحقًا بالضلوع في اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، لأنه مثل امتدادًا واضحًا لنهج الإرياني في السيادة والاستقلال.
توضيحات ما اجملت في المقال:
أخلص مما سبق أن أجمل رأيي الشخصي في المقال بأنه
حاول الابتعاد عن ذكر المرجعية الزيدية التي شكلت جزءا من هوية القاضي الفكرية، لعله تجنب استفزاز خصومها، واكتفى بوصفها بالاعتزالية، وهذا الوصف وإن كان فنياً دقيقا من حيث الأصول الكلامية الخمسة للزيدية التي هي عينها عند المعتزلة، إلا أنه يُفقد المتلقي بعدا مهما من أبعاد شخصية الإرياني، إذ إن الزيدية كما هو معلوم هي المذهب الإسلامي الوحيد الذي وضع اربعة عشر شركا لمن يتولى رئاسة الحكم – الإمامة -، يصلح معظمها لأن يحتذى به في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، لولا الشرط الرابع عشر ذو النزعة العرقية السلالية – شرط البطنين- وقد مثل القاضي، بخلفيته الفكرية وسيرته السياسية، استثناء يمنيا نادرا في تاريخ الحكم، إذ نجا من ساحة الاعدام (4) ومن عسكرة السلطة ومن تبعية المشيخة، لكنه لم ينجُ من عزلته السياسية التي فرضتها عليه شبكة الفساد والارتهان. وإننا إذ نعيد قراءة هذه المرحلة المهمة من تاريخ اليمن، فإننا نؤكد أن القاضي عبد الرحمن الإرياني لم يكن مجرد صفحة في كتاب الجمهورية، بل هو عنوان لمرحلة كان يمكن لليمن أن يستقر فيها، لو أن صوته العاقل كان هو الأعلى.
—————————–
هوامش:
(1) الاشارة واضحة بأن القاضي الارياني زيدي لأن الزيدية كمنهج تعتمد على. الأصول الخمسة عند المعتزلة وباختصار الزيدية معتزلة في الأصول- الدين – واحناف في الفروع – في فقه المعاملات.
(2) اعتزاليته يقصد القاضي عبدالعزيز معتزلية القاضي الإرياني القائم على منهج تقديم العقل على النقل.
(3) حدثنا الأستاذ عبدالوهاب جحاف مد الله بعمرة أنه حضر مع الرئيس السلال اول اجتماع قمة عربية عقدت في للقاهرة وكان ضمن الوفد القاضي عبدالرحمن الإرياني وما أن جلس الملك سعود صاح السلال بلغة غير دبلوماسية ما بطننا لك يا سعود حتى تحاربنا فامر الرئيس جمال سامي شرف ان يبلغ السادات أن يسكت وان يتولى القاضي الارياني القاء كلمة اليمن.
(4) استطاعت المملكة السعودية ان تعيد لمعاهدة الطايف شريتها والزاميتها بعد ان انتهاء صلاحيتها فالامام احمد رفض التمديد عام 1954م وعندما جدد الحجري والنعمان الابن التجديد رفض القاضي عبدالرحمن الارياني تعميدها قائلا: ( لن ارضى لنفسي أن أكون اقل وطنية من الإمام أحمد،) وموجب مذكرة التفاهم سيئة الذكر بين اليمن والسعودية نصت المادة الأولى منها على اتفاق البلدين على شرعية وإلزامية معاهدة الطايف فكانت التوقيع على اتفاقية جدة الحدودية والتي بموجبها تم التنازل على 1.2 مليون كم2 مربع.
