كتابات فكرية

الحق الإلهي بين أهل السنة والشيعة… تقاطع في الادّعاء، واختلاف في التفاصيل

 الحق الإلهي بين أهل السنة والشيعة… تقاطع في الادّعاء، واختلاف في التفاصيل

  • حسن الدولة

الاثنين 6 أكتوبر 2025-

)إعادة نشر مقال كتبته في 6 اكتوبر 2016م)

إذ أعيد اليوم نشر هذا المقال الذي كتبته في مثل هذا اليوم من عام 2016، فإنني أجد نفسي أكثر قناعة بما ذهبت إليه حينها: إن التفرقة بين الناس على أساس النسب أو السلالة ليست من الإسلام في شيء، وإن الأساس الذي بُنيت عليه السلالية السياسية في الفكر الإسلامي يعود إلى ما ادّعته قريش من أن الخلافة لا تكون إلا فيها.

لقد تم تسويق هذه الفكرة عبر جملة من الأحاديث التي استخدمت لإقصاء بقية الأمة عن موقع القرار والقيادة، مثل الحديث المشهور: “إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين”، وحديث “الأئمة من قريش”، وهي روايات شكلت الأساس النظري لحصر الخلافة في البيت القرشي، فصار الخلفاء لا يُسمَّون كذلك إلا إذا كانوا من هذه السلالة، كما حدث مع الأمويين والعباسيين والفاطميين، بينما ظل غيرهم يحمل لقب السلطان، لأن لقب “الخليفة” احتُكر لسلالة بعينها، وهذا جوهر السلالية التي ننتقدها اليوم.

إن المثير للسخرية أن جماعات الإسلام السياسي اليوم، سواء منها السنية أو الشيعية، تتبنى ذات الفكرة القديمة وإن اختلفت في التفاصيل. فمنهم من يتمسك بأن الإمامة لا تصح إلا في قريش، وآخرون لا يقبلون إلا بحصرها في الفخذ العلوي، أو في البطنين، أو في نسل الحسين وحده، أو حتى في ذرية العباس. وما يجمع هؤلاء جميعًا أنهم يتكئون على “الحق الإلهي” كأساس للحكم، في تجاهل تام لمبدأ الشورى الذي جاء به الإسلام، وتعدٍّ صريح على حرية الأمة في اختيار من يحكمها.

كل طرف من هؤلاء يظن أن مذهبه هو الإسلام، وأن فقهه هو الشريعة، وأن فهمه هو المعيار الوحيد، بينما بقية المسلمين فِرق ضالة، وأتباعهم خصوم تجب إزاحتهم. وكل طرف يدّعي أنه وحده يمثل الله في الأرض، وأنه المخول بتنفيذ ما يسميه “حكم الله”، في حين أن كل اجتهاده إنما هو فهم بشري للنصوص، لا وحي منزل.

ومن المحزن أن نرى من يُصعّد هذه الخطابات على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، مستخدمًا لغة دينية يغلف بها سموًا عرقيًا أو تفوقًا مذهبيا، والكارثة أنهم يزعمون أنهم يقاومون “الحكم الثيوقراطي” الذي كانت تمارسه الكنيسة في العصور الوسطى، وهم في الحقيقة يمارسونه بصورة أكثر قسوة. فهم يرفضون أي حديث عن الدولة المدنية، ويرون في الديمقراطية كفرًا، وفي المساواة تهديدًا لشرع الله، ويضعون أنفسهم أوصياء على الناس، في تكرار لا يختلف عن دور قساوسة الكنيسة الذين خلطوا الدين بالسلطة، ولا عن حاخامات اليهود الذين زعموا أن الحكم لا يكون إلا في ذرية هارون.

إن هذه العقلية، التي تحصر الحكم في نسب أو سلالة أو مذهب، هي عقلية متخلفة عن مقاصد الإسلام، ومجافية لروحه، فالله لم يفضل أحدًا بنسبه، بل قال بوضوح: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، وقال تعالى عن الإمامة: “وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون”، فالإمامة بالعمل والصبر، لا بالدم والنسب. والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتِ ليؤسس ملكًا وراثيًا، بل جاء ليحرر الناس، ويؤسس مجتمعًا يتقدم فيه الأتقى لا الأغنى، والأصلح لا الأقرب نسبًا. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: “من وُلّي أمر الناس، فوجد فيهم من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين”، فهل بعد هذا الحديث من حجة؟

وليس ثمة فرق جوهري اليوم بين من يريد أن يفرض حكمه باسم “الإمامة الإلهية” في البطنين، وبين من يحتكر الخلافة في قريش، أو من يزعم أن حزبه وحده يمثل “الفرقة الناجية”، فكلهم يسيرون في طريق واحد، طريق الإقصاء والتفرد والوصاية. والحقيقة أنهم جميعًا يعادون الحرية وإن ادّعوا غير ذلك، ويريدون دولة دينية بثوب مذهبي، سواء كانت زيدية أو سنية أو شيعية أو سلفية.

إن الخلاص من هذه العتمة لا يكون إلا عبر الدولة المدنية التي تقوم على المواطنة والمساواة والعدالة، لا على العصبية ولا على المذهبية. دولة تقف على مسافة واحدة من جميع المذاهب، وتحتكم إلى دستور يُلغي التمييز العرقي والطائفي، ويرسخ مبدأ أن الشعب وحده هو مصدر السلطات، لا سلالة ولا مرجعية مذهبية ولا حزب ديني. وإن تنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل هو الطريق الواقعي والآمن لبناء دولة حديثة، يتعايش فيها الجميع، لا تُقصي أحدًا، ولا تمنح الامتياز لأحد على حساب الآخرين.

فليس من حق أحد، لا باسم قريش، ولا باسم البطنين، أن ينصّب نفسه ظلًا لله في الأرض، ولا أن يحتكر الإسلام في فهمه أو نسبه أو جماعته. فالدين ليس وراثة، والحكم ليس اصطفاءً، والإسلام لا يُختزل في مذهب، ولا في حزب، ولا في بيت. ومن يرفض هذا المنطق، فهو يدين بدين العصبية لا بدين الرحمة، ويمارس باسم الله ما حرّمه الله ذاته.

وفي الختام، أعيد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من دعا إلى عصبية”، وهذا وحده يكفي لإسقاط كل دعاوى الحق الإلهي التي تقسم الأمة وتزرع الفتنة وتعيق قيام الدولة التي تحترم إنسانية الإنسان، لا سلالته.

اقرأ أيضا: الأستاذ عبد العزيز البغدادي يتساءل.. أهذه غزة أم الدمار العالمي الجديد؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى