حوارات

“التشعبينة وسيدنا رمضان”.. طقوس جزائرية للشهر الكريم

“التشعبينة وسيدنا رمضان”.. طقوس جزائرية للشهر الكريم

تشتق “التشعبينة” اسمها من شعبان، وهي عادة جزائرية قديمة، تحرص العائلات على إحيائها في أسبوعه الأخير، وفيها يتجهّز الفرد لشهر رمضان، روحياً ومادياً.

لرمضان مكانة خاصّة عند الجزائريين، يعتبرونه سيّد الشهور. “سِيدْنا رمضان”، هكذا يسمّونه، ولا يقاسمه تلك الدرجة العالية سوى “سِيدْنا شعبان”، فلا عجب أن يأخذ هذا من نفحات ذاك، ويستعدّ لاستقباله بحفاوة بالغة وطقوس مميّزة، وأن تعبق آخر أيامه بـ”رِيحْة رمضان” (رائحة رمضان) التي تنثرها عادة “التشعبينة” أو “الشعبانية” على البيوت والحارات والمساجد والأسواق، استعداداً لاستقبال “ضيف عزيز” يأتي “زائراً خفيفاً” مرّة كل عام.

تشتق “التشعبينة” اسمها من شعبان، وهي عادة جزائرية قديمة، تحرص العائلات على إحيائها في أسبوعه الأخير، وفيها يتجهّز الفرد للشهر الفضيل، روحياً ومادياً.

تلبس “التشعبينة” رداء التصوف في مناطق، وتأخذ بعداً إنسانياً في غيرها، بينما يغلب عليها طابع استهلاكي في مناطق أخرى.

“تشعبينة” أهل الصحراء .. “لا صيام مع خصام”

تعدّ هذه العادة من الطقوس المقدّسة لسكّان الصحراء، تنتشر على نطاق واسع جنوب وجنوب غرب الجزائر.

في واحدة من أكثر مناطق البلاد تدّيناً، تفرض العادات على المكلفين بالصيام الاستعداد الروحي للشهر الفضيل، بـ”تطهير” النفس من العداوة والقطيعة مع الغير.

“في عرف أهل المنطقة لا يصحّ صيام من كان في قلبه عداوة أو خصام أو ضغينة لقريب أو جار”، يقول حسان مولاي جلول، من أعيان ولاية بشّار، لـلميادين نت.

لهذا “يُكره انتظار عيد الفطر للتغافر والتسامح”، ويفضّل اغتنام مناسبة “التشعبينة” من أجل “الصلح” قبل حلول شهر رمضان.

يتمّ إحياء هذه العادة، في أواخر أيام شهر شعبان، حيث يجتمع الأعيان وكبار العائلات على وليمة يدعى إليها جميع أهل الحي أو العشيرة، ويتجاوز عدد المدعوين المائة شخص أحياناً. 

بعد تشارك الطعام، وانتهاء الوليمة، تعقد “لمّة” (جلسة) “طلب السماح”، فينشُد المتخاصمون العفو من بعضهم البعض، ولا تتفرّق “اللمة” إلا بزوال الخصام، ووصل الأرحام.

تختتم “التشعبينة” بقراءة جميع سور القرآن الكريم، ثمّ الدعاء بالرحمة للأموات، والهداية للأحياء، لتحلّ البركة”على أيام شهر رمضان، وفق معتقدات أهل المنطقة.

يعتبر مولاي جلول “طلب السماح” القيمة الأساسية لهذه العادة الاجتماعية، التي رسّخت ضرورة استقبال “شهر الرحمة والغفران” بقلوب “طاهرة وصافية”، لا تعكّر صيامها بذات بين، ولا تنقص من أجرها أحقاد ولا خلافات.

“جبرُ السوايل” عادة أبناء قسنطينة في التكافل الاجتماعي

يقول أهل قسنطينة في فضل شهر شعبان: “يا سايلي في ليلة الوديعة أنا جبّارك، ادعي لي يا عزيزي تكون الجنة رباحي، وأنا خدامك”. أي: يا سائلي في ليلة الشعبانية أنا أجبرك بالجواب، ادع لي يا عزيزي أن أكون في الجنة من الرابحين، وأنا سأكون خادماً لك.

تحيي عاصمة الشرق الجزائري “الشعبانية” ليلة 27 من شعبان، وتسمى “ليلة الوديعة”، وأيضاً “ليلة جبر السوايل” أي (ليلة التصدق بالأموال المودعة والمدّخرة لجبر السائلين من المحتاجين).

سُمّيت كذلك لأنها ليلة يجمع فيها الأغنياء الصدقات لجبر “مكسوري القلب” من الفقراء والسائلين تطبيقاً لأمر الله: “وأما السائل فلا تنهر”.

تأخذنا السيدة زينب كورتال من قسنطينة (73 عاماً) في رحلة روحية صوفيّة، إلى مدينة “العلم والعلماء” والصخر العتيق، مأوى “البايات” وملاذ الأندلسيين، لعيش أجواء “الشعبانية” على أصولها، وفق تعبيرها، قائلة إن الاستعدادات تبدأ عند انتصاف شهر شعبان “ليلة لْنْصافْ”، لإحياء عادة تحرص قسنطينة على الحفاظ عليها منذ قرون.

تجتمع سبع نسوة من العائلات العريقة في البيت الذي ستقام فيه طقوس “الشعباية”، تحدّدن المطلوب وتتقاسمن المهام بينهنّ.

لكلّ واحدة عمل تؤديه: تنظيف البيت وتبخير زواياه، غسل الآنيات (الأواني) وتلميع النحاس، فَتْل “النَّعْمَة” (الكسكسي) وتحضير “الثريدة” (رقائق عجين يشبه النودلز)، غسل وتجفيف “الفريك” (قمح مهروس يشبه البرغل، تحضّر به الشوربة الجزائرية)، الخ..

بعد الانتهاء من ورشة التحضيرات، توجّه الدعوات لنساء المدينة (المتزوجات فقط) لحضور “ليلة لْنْصاْف”.

تجتمع النساء في بيت إقامة “الشعبانية”، بحلول ليلة السابع والعشرين شعبان، لتحضير أطباق “الوَعْدَة” أو “الفطور” بعد يوم صيام.

تضعن “المراشن” وهي آنيات من النحاس في مجلس الرجال، وفي مجلسهّن “القراطل” وهي قفف من الظلف أو الحلفاء.

بعد وقت العصر، يبدأ توافد الرجال وفرق “العيساوة” التي تؤدي المدائح الصوفية حتى يؤذّن المغرب، ويفطر الصائمون.

وبعدها يضع المشاركون في “الوعدة” صدقاتهم النقدية في “المراشن”، كل حسب مقدوره، ويقدّم بعضهم رؤوس ماشية أو “السعايا” مثلما تسمّى محلياً.

أما النسوة فتملأن “القراطل” بـ”الفريك” وعجائن “الثريدة” و”النعمة” والتوابل والطماطم المصبّرة والفواكه المجفّفة، وغيرها من مواد المطبخ.

فور الانتهاء من الإفطار تتحّول “السعايا” إلى “ذبائح”، يتولى الرجال عملية الذبح والسلخ والتقطيع، ثم يحرصون على تقسيمها بالعدل على “القراطل”، التي توزّع على “السوايل” أي المحتاجين والفقراء والسائلين.

وكذلك يوزّع عليهم أيضاً ما تمّ جمعه في “المراشن” من أموال، ليسدّوا بها حاجتهم ما استطاعوا خلال الشهر الفضيل، من دون أن يحرجوا من السؤال ومدّ اليد.   

أوانٍ جديدة وبيوت “ناصعة” احتفاءً برمضان

يشترك أهالي وسط وغرب البلاد في إحياء “التشعبينة”، لكن يختلفون في تفاصيلها عن تلك الموجودة في ولايات الجنوب والشرق.

تتراجع الطقوس الروحية هنا، فاسحة المجال أمام عادات استهلاكية “لا غنى عنها”، من اقتناء لأوانٍ جديدة، وإعادة طلاء للمنازل، و”تبييض” للجدران الخارجية (دهنها بطلاء أبيض أو جير)، لاستقبال رمضان في أجمل صورة وأبهى حلّة.

الميادين نت رافقت السيدة فاطمة مسعودي (45 عاماً) في جولة إلى سوق “باب الدزاير” الشعبي في مدينة البليدة غرب العاصمة، للتعرف على عادات أهل المنطقة في إحياء “التشعبينة”.

“سِيدْنا رمضان ضيف عزيز، يجب استقباله بأوانٍ جديدة وجميلة لتليق الجلسات العائلية بمقامه”، تقول مسعودي.

تبدأ فاطمة تسوّقها من محلّ بائع النحاس، فتقتني “سينية الديول”، لإعداد أوراق “الديول” وهي عجين رقيق جدّاً يلفّ به حشو “البوراك” سيّد موائد الإفطار، الذي لا تحلو “شوربة الفريك” إلا بمرافقته.

الوجهة بعدها إلى بائع الأواني الفخّارية، فتحرص فاطمة على اقتناء قدر و”طاجين” فخار، إذ نادراً جدّاً ما تحضّر أطباق رمضان في أوانٍ معدنية، لأن ذلك ينقص من لذّتها، حسب اعتقاد ربات البيوت.

تكتمل المشتريات بطقم الشاي، وتختاره من أجمل نوعيات الزجاج، ليليق بمشروب يعدّ ملك السهرات الرمضانية.  بعدها، تتّجه إلى محلات التوابل والفواكه المجفّفة. تختارها فاطمة بعناية فائقة، فلأطباق رمضان رائحة مميّزة ومختلفة، ولا بدّ أن تخترق نوافذ المطبخ وجدرانه، لتخبر من في الخارج أن سيّدة البيت “شاطرة” (ماهرة في الطبخ).

بعد ذلك، يتم اقتناء أجود أنواع “الفريك” لتكتملّ لذّة طبق “الشوربة” الذي يزيّن موائد الجزائريين طيلة 30 يوماً من الشهر الفضيل.

ويختتم التسوق بشراء الزبيب، المشمش والبرقوق المجفّفين، واللوز والجوز، لتحضير “طاجين الحلو” (طبق مالح وحلو يتكون من لحم، مشمش وبرقوق مجفّفين، لوز، قرفة وماء الزهر أو الورد المقطّر).

بالعودة إلى البيت، ينتظر فاطمة عمل آخر، غسل الجدران وتنظيف الأفرشة، وهي عادة موروثة عن نساء الأحياء الشعبية قديماً، اللائي كان شعارهن “لا صيام إلا على طهارة”.

حيث يقمن بغسل البيت، ومن أسعفها الحظّ تقوم بإعادة الطلاء بمادة “الجیر” من أجل بياض ناصع.

ولا تقتصر هذه العادة على البيوت فقط، بل تنطبق على المساجد والزوايا أيضا، ويقوم الرجال بطلاء جدرانها وتنظيف سجّادها، استعداداً لصلاة التراويح بالنسبة للأولى، وجلسات التلاوة والحفظ للثانية.

“التشعبينة” من تحضير لرمضان إلى “تكلّف” في شعبان!

في حديث لـلميادين نت يتأسّف الباحث في التاريخ الإسلامي نور الدين بامون لما يعتبره “انحراف التشعبينة عن غاياتها الدينية والإنسانية السامية”. وتحوّلها من “عادة حميدة” لا تخرج عن المألوف، إلى “تفاخر وتباهٍ وبهرجة بين الأسر والعائلات”.

فقد تراجعت، حسبه، عن مظاهرها جلسات صلح ذات البين، وإعانة المحتاجين، وأصبح تجديد المطبخ أولى من تجديد الإيمان، وغسل الجدران أهمّ من تطهير القلب، لدى البعض.

حتى بات الجيل الحالي يظنّ أن “التشعبينة” عبارة عن  ولائم ونفقات مرهقة ومكلفة لا داعي لها ولا جدوى منها، في حين كان الأجداد يستعدّون خلالها لاغتنام أجر شهر تتضاعف فيه البركات وتزيد النفحات الربانية.

أقرأ أيضا:اتحاد القوى الشعبية يهنئ بقدم شهر رمضان المبارك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى