مناقشة مقال القاضي عبد العزيز البغدادي الموسوم بـ (سباق الأموات على حكم المقابر)

مناقشة مقال القاضي عبد العزيز البغدادي الموسوم بـ (سباق الأموات على حكم المقابر)
- حسن الدولة
الخميس19 يونيو 2025م
في مقاله الموسوم ب: (سباق الأموات على حكم المقابر) المنشور في صحيفة الشورى الالكترونية بتأريخ 17 يونيو 2025م، كتب القاضي عبدالعزيز البغدادي منتقداً الحكم الوراثي والاستبدادي الذي حول الأنظمة السياسية إلى مقابر للشعوب والحريات، حيث سلط الضوء على إشكالية أساسية في تاريخنا السياسي تتمثل في غياب نظرية سياسية تحدد كيفية اعتلاء الحكم ومتى يتم عزله ومدة بقائه في سدة الحكم، وكذلك عرج على. إشكالية تحويل الحكم إلى غنيمة يتنافس عليها الأحياء والأموات، حيث يتم تقديس الحكام بعد موتهم رغم جرائمهم، بينما تُدفن الحقوق والحريات مع الأحياء حسبما يوحي لنا العنوان.
يقول القاضي عبدالعزيز البغدادي في مقاله المذكور أنفا عن تلك الإشكاليتين : (إنها مفتاح للتأمل في حال أمة ما تزال تقدِّسُ الأصنام وتعشق الحديث عن الموتى محاولةً قلب سيئاتهم حسنات عملا بمقولة أو حديث: “اذكروا محاسن موتاكم”!). هذه المقولة التي أصبحت أداة لتبرير جرائم الحكام السابقين ومنع محاسبتهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالوظيفة العامة والحقوق العامة التي لا تسقط بالتقادم. فمن حق الشعوب أن تعرف الحقيقة كاملة عن حكامها السابقين، ليس لغرض الانتقام، ولكن لضمان عدم تكرار الأخطاء،.
في المحور الثاني من مقاله موضوع هذه المناقشة، تناول القاضي عبدالعزيز البغدادي قضية محورية كما أسلفنا القول والتي تتمثل في غياب النظرية السياسية الإسلامية الواضحة لآليات انتقال السلطة، وغني عن البيان أن الرسول ﷺ قد أسس نموذجاً عملياً للشورى والبيعة الطوعية، حيث كان يستمد سلطته السياسية من الناس، أما السلطة الدينية فمسؤوليته فيها تقتصر على البلاغ فقط لا غير، حيث لم يعط الله سلطة دينية لإنسان على أخيه الإنسان مهما علا كعبه في الدين، وقد كان عليه الصلاة والسلام يبايع الناس رجالا ونساء تحت الشجرة أو كما في بيعة الرضوان، لكن هذا النموذج الذي كان يمكن أن ينسب لحكم ديمقراطي تم الانحراف عنه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام مباشرة حيث حصل الانقلاب عليه في سقيفة بني ساعدة.
وفي هذا العصر يقول القاضي عبدالعزيز البغدادي: (إن الأحداث والوقائع تؤكد اليوم وباستمرار بأن التفكير الجاد في بناء الدولة القوية العادلة لا يمكن أن يتحقق لبلدان المنطقة ما لم تمتلك شعوبها ونخبها القدرة على التفكير العلمي للبحث الجاد عن الطريق الأمثل لحل مشكلة الصراع على السلطة المستمر منذ أكثر من 1400 عام).
ومن الثابت تاريخيا أن الخلافة بعد النبي ﷺ تحولت إلى ملك عضوض بإجماع فقهاء الدين القدامى والمحدثين، وإلى صراع دموي، ولنعرج على ما جرى في السقيفة حيث قال عمر عن بيعة أبي بكر: (إنها فلتة وقى الله الناس شرها)، مروراً باغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وانتهاءً بتحويل النظام إلى ملك عضوض بواسطة معاوية بن أبي سفيان. وهنا يجب التوقف عند خطبة أبي بكر في السقيفة كما، حيث قال موجها خطابه إلى الأوس والخزرج (الأنصار) : (ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي – أي بيد عمر – وبيد أبي عبيدة بن الجراح).
وفي الرواية الأخرى الأكثر خطورة والتي أسست للحق الإلهي يقول أبو بكر: (ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار”، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر» فبَرُّ الناس تبع لبرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم). فرد سعد بن عبادة: (صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء)، ليصيح عمر: (هيهات أن يجتمع سيفان في غمد)؛ هذه الواقعة التاريخية تمثل أول ثلمة في جسد الأمة الإسلامية حيث تحولت السلطة من الشورى إلى الملك العضوض وادعاء الحق الإلهي وهكذا نجد أن القرشية تعتبر أس السلالية وجذرها حيث صارت أساس الحكم وقد وضع رواة الأمويين رواية تقول: (أن الإمامة في قريش ما بقي منهم اثنان)، وقد تنازع القرشيون على الحكم ، وكما قال الأولون: “ما سل سيف أو ساكت قدرة دم في الإسلام إلا بسبب الخلافة) ، فقد ادعى الأمويون الحق الإلهي وجعلوا الحكم حكرا لهم، وكذلك فعل العباسيون والعلويون الذين انقسموا إلى ثلاثة فرق فالزيدية جعلوها في البطنين إلى يوم القيامة والإسماعيلية في السبعة وفي دورة سبعية إلى يوم القيامة والاثنا عشرية في الإمام الثاني ومهديهم المنتظر.
وقد حصلت استثناءات في التاريخ الإسلامي إلا أنه لم يكتب لها الديمومة فمعاوية بن يزيد حاول أن يعيد الأمر إلى نصابه، ورفض الحكم الوراثي وقال كلمته المشهورة “لقد نازع جدي الحق أهله وأبي كان غير خليق بهذا الأمر وطلب الأمة أن تختار لها خليفة، فتم اغتياله ، حيث لم يلق المؤيدين الذين لقيهم الخليفة الخامس – بإجماع الأمة – عمر بن عبدالعزيز الذي حاول إعادة الأمر إلى نصابه فلما وصله الحكم وراثة دعا الناس إلى الجامع وقام فيهم خطيبا قائلا: (لقد وليت عليكم بدون مشورة منكم ولا رضي من نفسي فأنتم ومن تختارون) فصاح ألناس بصوت رجل واحد بل إياك نختار وبايعوه فكانت هذه الحالة استثناءً في تاريخ الخلافة. ولم تعش طويلا حيث عاد الملك العضوض بأشرس، مما كان عليه وهذه الإشكالية التاريخية تركت أثرها العميق في ثقافتنا السياسية، حيث أصبح الحكم غنيمة يتنافس عليها الأقوياء، وليس عقداً اجتماعياً بين الحاكم والمحكوم.
وغني عن البيان أن نذكر بما جرى في العصر الحديث، حيث سرعان ما انقلبت الجمهوريات العربية إلى جملكيات لم تختلف كثيراً عن سابقاتها الملكية. فلقد حاول صدام حسين توريث الحكم لابنه عدي، وحافظ الأسد ورثه لابنه بشار، ومعمر القذافي فشل في توريث ابنه سيف الإسلام، وحسني مبار حاول توريث ابنه علاء وعلي عبدالله صالح حاول توريث ابنه أحمد. هذه الأنظمة الجمهورية تحولت إلى ملكيات مقنعة، لا تختلف في جوهرها عن الأنظمة التي تحكم باسم “الحق الإلهي”، فكلاهما يصادر حق الشعوب في اختيار حكامها.
في حالة اليمن، يقدم النظام السابق نموذجاً صارخاً للحكم الأسري خلال فترة حكم استمرت 33 عاماً، تحول اليمن خلالها إلى عزبة يورثها الحاكم لغلمانه وغلمان إخوته، حيث سيطر أبناء الرئيس السابق وأبناء أخيه وإخوته من الأم وأقاربه على مفاصل الدولة والاقتصاد، وقد قامت صحيفة الشورى بفتح ملف التوريث وكان هذا الملف البذرة الأولى للثورة الشعبية ثورة الحادي عشر من فبراير 2011م فأحمد علي عين قائدا للحرس الجمهوري، وابن أخيه عمار رئيسا للأمن القومي، وابن أخيه يحيى قائدا للأمن المركزي، وطارق للحرس الخاص وعلي محسن للفرقة ومحمد علي محسن للقوات الجوية والأصهار، والأقارب عينوا في وزارات ومصالح وشركات إيراديه مما مهد الطريق لثورة الشعب في الحادي عشر من فبراير 2011م.
وفي هذا السياق، طرح القاضي عبدالعزيز البغدادي مفهوم العدالة الانتقالية كحل لمعالجة إرث الانتهاكات. يقول: (ويجب العمل على إصدار قانون عدالة انتقالية بعد تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق شروطه الموضوعية للبلد الذي يريد إصداره وتطبيقه!).
نعم إن العدالة الانتقالية ليست مجرد محاسبة للمسؤولين عن الانتهاكات، ولكنها عملية شاملة تشمل كشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات، وضمان عدم التكرار. لكنها تتطلب شروطاً موضوعية، أهمها وجود إرادة سياسية حقيقية للتغيير، ومؤسسات قادرة على تنفيذ الإصلاحات.
وعلينا أن نستأنس بتجارب العدالة الانتقالية في العالم حيث أظهرت نجاحا اعتمد على عدة عوامل:
أولاً: لا يمكن أن تصدر العدالة الانتقالية عن النظام القديم نفسه، لأن ذلك سيكون شكلياً بدون مضمون. كما يقول القاضي عبدالعزيز البغدادي عن قانون العدالة الانتقالية: (ولا خلاف جوهري في أن هذا القانون لا يمكن أن تصدره القوى السياسية المسؤولة بشكل أو بآخر عن الانتهاكات التي تمت قبل الانتقال إلى النظام الجديد أو السلطة الجديدة).
ثانياً: تحتاج العدالة الانتقالية إلى مؤسسات قوية ومستقلة، خاصة القضاء الذي يجب أن يكون محايداً ونزيهاً ومستقلا استقلالا تاما عن السلطات الأخرى، وأما في حالة اليمن، فلقد تم تدمير استقلالية القضاء خلال حكم السابق وسلطات الواقع، حيث أصبح التعيينات القضائية تتم على أساس الولاء وليس الكفاءة.
ثالثاً: يجب أن تكون العدالة الانتقالية عملية شاملة يشارك فيها كل فئات المجتمع، بما في ذلك الضحايا والمجتمع المدني. ففي جنوب أفريقيا، ساهمت لجان أطلق عليها ” لجان الحقيقة والمصالحة” في كشف الحقائق وتعزيز المصالحة الوطنية.
أما مفهوم الحكم الرشيد الذي طرحه قاضينا الجليل كبديل، فهو يقوم على عدة مبادئ أساسية يمكن أجمالها في :
المشاركة الشعبية في صنع القرار، سيادة القانون، الشفافية، المساءلة، الكفاءة، العدالة، والمساواة. هذه المبادئ تتعارض تماماً مع نظام الحكم الوراثي أو الاستبدادي، سواء كان تحت غطاء ديني أو جمهوري.
ومما سبق يتبين لنا أن القاضي عبدالعزيز قد قدم رؤية نقدية جريئة لتاريخنا السياسي، معتبراً أن غياب الآليات الديمقراطية لانتقال السلطة هو الجذر الأساسي لأزماتنا. وأن الحل يكمن في تبني نموذج الدولة المدنية الديمقراطية، حيث تكون السلطة خدمة وليست غنيمة، وحقاً للشعب وليس ميراثاً لعائلة أو فئة. حيث قال: (لا بقاء اليوم إلا للشعوب الحرة في اختيار حكامها ومساءلتهم وتغييرهم طبقا للدستور وسيادة القانون والسلام، وللدول التي يحكمها الحرص على العدل والعلم لا الجهل والخرافة!!).
اقرأ أيضا للكاتب:بين سبات التاريخ وصخب السكاكين يختطف روح الدين
