اخبار محليةنافذة على كتاب

الأستاذ البغدادي يكتب عن بعض إضاءات الأستاذ القاسم بن علي الوزير وفكرته عن معنى الحرية

الأستاذ البغدادي يكتب عن بعض إضاءات الأستاذ القاسم بن علي الوزير وفكرته عن معنى الحرية

الخميس26سبتمبر2024_ حاول الأستاذ عبدالعزيز البغدادي الكتابة عن بعض الإضاءات الفكرية، للفقيد الكبير الأستاذ القاسم بن علي الوزير ، وذلك في قراءة  الأستاذ البغدادي  لفكر الراحل  لمجلة المسار العدد 74.

الاستاذ عبدالعزيز البغدادي

وقال البغدادي بأن قراءته حول قطوفٌ من حقول العقل والقلب للأستاذ القاسم ستقتصر على مجرد إيماءة إلى قبس من فكر الأستاذ القاسم بن علي الوزير ،حول محاولة الإجابة على النهضة -السؤال الأزلي الذي شغله كما شغل ويشغل كل حر يبحث عن إجابة فيها معنى الحرية، وفي الجزء الثاني قراءة عابرة وسريعة لقصيدة “صنعاء” أولى قصائد مجموعات الفقيد الشعرية، وهي قراءة متواضعة أُسهم بها في إحياء ذكرى الأربعين لرحيل هذا المفكر والشاعر المبدع، أما الدراسة النقدية الجادة

 كما تحدث الأستاذ البغدادي عن رؤية الأستاذ القاسم لمشكلة السلطة في عاملنا الإسلامي ، والتي تعتبر أم المشاكل الكبرى في الوطن العربي والأمة الإسلامية .

 مضيفا إن هذه المشكلة ما تزال، بل وستظل مصدر الصراعات والفتن، وتسيء بشكل قاطع وواضح للدين،وستستمر جرحًا مفتوحًا يجعل كثيرًا من الحقوق والحريات عرضة للانتهاك لما يؤدي إليه من علاقة ملتبسة بين العلم والدين، فالعلم مجاله مختلف عن الدين، وله نظرياته وأدواته، وللدين كرؤية كونية وليس أيديلوجية سياسية محصورة، تصوراته وقواعده الفقهية.

قطوفٌ من حقول العقل والقلب..إلى روح فقيد الفكر والأدب قاسم بن علي الوزير

 د. عبد العزيز البغدادي

ما إن بدأت بقراءة كتاب “حرثٌ في حقول المعرفة”، للفقيد العزيز العلامة والمفكر والأديب والشاعر قاسم بن علي الوزير، والذي تضمن عددًا من المحاضرات ألقى معظمها في مركز الحوار العربي بمنطقة واشنطن الكبرى بالولايات المتحدة، ما إن بدأت بقراءة هذا الكتاب، وكذا مجموعاته الشعرية الثلاث التي جُمعت في كتاب بعنوان “مجموعات شعرية”، والكتابان أهدانيهما صديقي العزيز الناقد والأديب الموسوعي الأستاذ حسن حمود الدولة، رعاه الله، مع بداية القراءة غمرني شعور بحالة انتشاء وجدانية غريبة شدتني بقوة للغوص في بحار فكر الفقيد العميقة، شعرت كأنني أعرف الفقيد منذ زمن طويل!

ومثل هذا الشعور لعله من أسرار خلود الروح بعد فناء الجسد الذي اعتبره كثير من المبدعين كفنًا أو سجنًا للروح يتحرر منه بالموت، وهذا ما جعل كثيرًا من الشعراء يكرسون تأملاتهم الشعرية في تخليد هذه المعاني، وعلى سبيل المثال ها هو الشاعر والفنان التشكيلي والأديب المبدع عبد اللطيف محمد إسماعيل الربيع، يتخذ “الكفن… الجسد!” عنوانًا لأحد ديوانيه المنشورين، سماهما كتابين، وهما: 1. كتاب “الكفن… الجسد!”، 2. كتاب “فازعة”، معتبرًا الموت في إحدى قصائده خلاصًا من الكفن، وفي قصيدة أخرى تنبأ بموته المبكر والمفاجئ، بقوله:

“في مواجهة مقبرة خزيمة يوجد شرطي

يؤشر للناس باتجاه المقبرة

يوم الجمعة أغتسل من نفسي”

 وحسب الموعد غادر دنيانا يوم الجمعة.

ولأن الشاعر والمفكر والفنان المبدع في أي فن، إنما هو شمعة تحركها وتحرقها حروف ولون وصوت إبداعه، يستوي أن يكون شعرًا أو نثرًا أو أية صورة أو مادة إبداعية أو نتاج فكري أو فني أو أدبي طالما كان نابعًا من وجدانه الصادق الحي الصافي.

ومن الواضح أن كلمة وجدان ذات البعد الروحي مشتقة من الوجود المادي الذي لا ينفصل، وهما وجودان لا ينفصلان، إلا أن الوجود الفكري والمعنوي الذي يطلق عليه البعض الوجدان المعبر عن هذا الوجود، أقدر على البقاء والخلود!

ويبدو أن عزوف فقيدنا العزيز خالد الذكر قاسم بن علي الوزير، عن نشر أعماله حسب تأكيد شقيقه الأستاذ المفكر والشاعر الجليل زيد بن علي الوزير، أطال الله عمره، في مقدمته لكتاب “حرث في حقول المعرفة”، يأتي من منطلق فلسفي أساسه الإيمان بأن الله المحبوب الأعلى -بلغة الصوفية- هو الأقدر على حفظ أعمال المخلصين، وجعل الابتلاء بالحياة محكومًا بخفايا ألطافه التي تبقى سرًا من أسرار التواصل بين الخالق والمخلوق.

كثير ممن يسوِّدون البياض بترهات يزعمون أنها من جواهر الشعر والفكر والأدب، ويتباهون بكثرة مطبوعاتهم التي تنتهي إلى العدم بموت كاتبها لأنها ولدت ميتة، أما الشعر والكلمات المضيئة الصادقة فإنها تولد مرتين؛ مرة يوم “إبداعها”، وأخرى يوم رحيل مبدعها، وتبقى في حالة ولادة تتجدد بتجدد من يجيد القراءة!

هذه الكلمات أو القطوف السريعة سأخصصها أولًا للإطلال على بعض إضاءات الفقيد الفكرية، وستقتصر على مجرد إيماءة إلى قبس من فكره حول محاولة الإجابة على النهضة -السؤال الأزلي الذي شغله كما شغل ويشغل كل حر يبحث عن إجابة فيها معنى الحرية، وفي الجزء الثاني قراءة عابرة وسريعة لقصيدة “صنعاء” أولى قصائد مجموعات الفقيد الشعرية، وهي قراءة متواضعة أُسهم بها في إحياء ذكرى الأربعين لرحيل هذا المفكر والشاعر المبدع، أما الدراسة النقدية الجادة والمتعمقة فأتركها للمتخصصين من النقاد والشعراء، لأنها جديرة بالدراسات النقدية التي تليق بمكانتها في ساحة الفكر والإبداع العربي.

أولًا: قطوفٌ من حقول المعرفة:

في توطئته لكتابه الفكري “حرثٌ في حقول المعرفة”، خلص فقيدنا إلى أن قضية النهضة ما تزال سؤالًا قائمًا، وأن من أسباب فشل الرد على هذا السؤال كما قال: هو استمرار المراوحة في محاولة الإجابة عبر “الانطلاق من ذات الواقع الذي أدت إفرازاته إلى الخروج أصلًا من الحضارة والوقوع في بؤرة التخلف، ولا يمكن ذلك إلا بتصفية ينابيع تلك الإفرازات في الفكر والنفس والثقافة، وذلك بتصفية المفاهيم على المستويات التاريخية النفسية والاجتماعية” .

وهذا محل اهتمام وملاحظة كثير من المفكرين الذين قرأوا ويقرأوا واقع الأمة العربية والإسلامية المحزن.

أما المنهج والطريق الذي ركز عليه الفقيد من خلال رؤيته وتصوره للمنطلق الذي يتوجب الانطلاق منه لتصفية هذه المفاهيم، فإنه يرى أنه مازال كامنًا في ذات “العقيدة التي أرست الدفعة الأولى الرائعة، وصنعت الحضارة” (2)، مشيرًا إلى مقولة الإمام مالك: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.

ولا يزال كثير من المفكرين يبحثون عن إجابة لأسئلة أخرى تبدد حيرتهم حول تاريخ وواقع أسباب الصراعات البينية، واستهداف العقول النيرة على مدى التاريخ الذي يرويه الرواة عن الإسلام والمسلمين، وأسباب ما وصلوا إليه من ضعف وهوان. من هذه الأسئلة الحائرة المحيرة: متى صلح أول الأمة؟ وكيف؟!

إنني أظن أن محاولة الإجابة على هذين السؤالين تمر عبر الإقرار بأن نظرية الإمام مالك المُشار إليها، مثلها مثل كثير من النظريات، ما تزال محل خلاف، على الأقل من خلال ما توجبه من ضرورة تأمل المسار السياسي للأمة، وقراءة سلوك وممارسات الإمبراطوريات التي حكمت باسم الإسلام، وآخرها الإمبراطورية العثمانية، والانتقامات المتبادلة بين الأمويين والعباسيين وغيرهما من الإمبراطوريات التي نشأت باسم الإسلام، والتي يتوجب تحليل ومعرفة أسباب وعوامل سقوطها جميعًا، وآخرها ما سميت الخلافة العثمانية،أقصد الأسباب الداخلية والخارجية، وعدم القدرة على تجاوز ما وصلت إليه الأمة حتى الآن من انهيارات متلاحقة ومستمرة دون أن نلحظ بصيص ضوء يشير إلى نهاية للنفق!

وفي تصوري أن الأسباب والعوامل كثيرة، منها سببان رئيسيان:

الأول: إشكالية عدم وجود نظرية متكاملة لنظام الحكم في الإسلام تحدد كيفية الوصول إلى الحكم واختيار الحاكم ومدة ولايته، وفي ظل هذا الفراغ النظري أصبح الاستيلاء على السلطة سواء باسم الخلافة أو الإمامة، مسألة مشروعة، وكذلك البيعة التي هي أقرب إلى الانتخاب، وفي اعتقادي أن الإشارات القرآنية إلى مبدأي الحرية والشورى بمعناهما العام تؤكد هذا المنحى، وإذا ما حاولنا تفسير ما سميناه الفراغ قد نصل إلى نتيجة تأويل إيجابي لعدم وجود نصوص قطعية الدلالة على تنظيم كيفية الوصول إلى السلطة وممارستها وتداولها، والتفسير والتأويل المقبول عقلًا هو أن الله عز وجل قد ترك موضوع السلطة الدنيوية للبشر، أي للاجتهاد الذي يخضع لظروف الزمان والمكان.

أما السبب الثاني: فهو أن المسار التاريخي والصراع على السلطة، ورغم ما عانته الأمة عبر أربعة عشر قرنًا، مازال بشكل أو بآخر أسير النظرية الضيقة لكيفية معالجة هذه الإشكالية المحكومة بعقدة القرشية والهاشمية التي ما تزال المهيمنة على حركات وتحركات جناحي مكون الأمة (السنة والشيعة) في شكل الخلافة والولاية، بل إن التعامل مع هذه العقدة بات في حاضره أشنع من ماضيه، إذ أصبح التطييف السياسي أداة خطرة للتلاعب بالأمة من خارجها، مع تزايد ارتماء كثير من الأنظمة العربية والإسلامية في أحضان الكولونيالية الغربية منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، أي منذ تحول الدين بشكل واضح إلى دين موظف لدى الحكام المستلبين بمختلف أنظمتهم!

هذا المنطلق الضيق أصبح العائق الأكبر من عوائق تكبيل فكر الأمة وعرقلة انطلاقها نحو المشاركة الفاعلة في مسار التاريخ الإنساني المعاصر، حيث صارت في موقع الصفر أو ما تحت الصفر بأصفار بين الأمم كما جاء في قصيدة الفقيد “صنعاء”، ولا يزال هذا حال إسهامها فيما وصل إليه العالم اليوم من تقدم مذهل في مختلف المجالات رغم ما يوجه إلى بعض السياسات المتحكمة فيه من انتقادات وملاحظات.

ولا شك أن هذه المسألة لم تغب عن فقيدنا المفكر والشاعر المبدع الراحل قاسم بن علي الوزير سلام الله على روحه، وهذا ما يتجلى مما يرمي إليه من الدعوة للخروج من أسباب التخلف القائمة، وهو على وعي تام بأن عمر هذا الصراع البليد على السلطة قد طال أمده واتسع مداه في الساحة العربية والإسلامية، بل هو في ازدياد مضطرد منذ الفتنة الكبرى التي بدأت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلامة ذلك أن الخلفاء الراشدين جميعًا قد قضوا إما بالاغتيال المباشر أو بواسطة السم، وهذا مؤشر خطير يضع أكثر من علامة استفهام حول بداية الصراع على السلطة في الإسلام، والتساؤل المستمر حول متى ينتهي هذا الصراع!

ومعلوم أن ارتباط الوصول إلى السلطة في غالبية مراحل التاريخ الإسلامي باستخدام القوة انتهاك واضح وصريح للشرعية المُفترضة القائمة على مبدأي الشورى والحرية، وهما مبدآن يرى بعض المفكرين أنهما الأساس الذي يقربهما من الديمقراطية الكاملة بمفهومها الغربي الحديث، وليس ديمقراطية “أهل الحل والعقد” كما ترى النظرة الاستبدادية للحكم، وهم أصحاب الرأي الآخر الذين يفسرون عمومية الضمير (هم) في آية: “وأمرهم شورى بينهم”، بأنه إشارة إلى الشعب في الإقليم أو الأمة في الدولة الاتحادية المُتخيلة المقسمة إلى أقاليم متفق عليها بناءً على حوار حقيقي وبناء يقوده عقل واعٍ، وتستوعبه عقول حرة وفاعلة، ولعل هذا مما يعزز أسباب ترك موضوع السلطة للبشر، وعدم وجود نصوص صريحة وواضحة حول نظرية الحكم والسلطة في الإسلام، أي أن إعمال العقل هو الرسالة التي ما يزال الإنسان بعيدًا بعد المشرقين عن القيام بها!

المفكرون العرب والمسلمون الذين شغلوا حيزًا فيما مضى من التاريخ، وفيما هو حاضر، يبدو كما لو أنهم يخبطون خبط عشواء، ويحرثون في البحر، مع الأسف الشديد.

ومن الحقائق الجلية أو التي يجب أن تتجلى، أن الحراثة في حقول المعرفة بالتمسك التام بحرية الرأي والبحث العلمي، وإعطائهما الحيز الواجب كطريق لمحاولة الإجابة على “سؤال النهضة” الذي حاول فقيدنا الجليل الإجابة عليه، وأن الحرث الجاد في هذه الحقول لابد أن يثمر توجهًا فعليًا نحو توسيع مجالات البحث العلمي مع الضمان لأن يكون مبنيًا على الحرية والاحترام الجاد للرأي المخالف كي يؤتي أُكله ذات يوم، لأن لغة وحدة الوجود في كل المجالات تُلغي كل الحواجز والجدران والأنفاق المظلمة التي تمنع الحضارة الإنسانية من تلاقح المعارف والعقول التي تحملها، وبناء جسور تربط كل الرؤى والحضارات والأفكار تمهيدًا لميلاد كيان إنساني موحد عصي على التدجين والارتهان والتبعية المجحفة الظالمة لعوامل القوة والجبروت بكل الأيديولوجيات التي تخدمها وتسيرها، والدروشة والكهنوت معًا أيًا كانت منطلقاتها!

إشارة إلى أهمية التفكير في إعادة الاعتبار لثورة 1948 أو ثورة الدستور.

بهذا الأفق، ومن هذا المنطلق، ورغم كل الملاحظات على هذه المحطة من محطات الحلم بثورة حقيقية حلُم اليمنيون ببدء أولى خطواتهم نحو إثبات وجودهم في العصر من خلال ميثاق ودستور ثورة 1948 ليس فقط ليكونوا جزءًا من الأمة العربية والإسلامية، بل أن يستوعبوا لغة العصر استيعابًا حقيقيًا وفاعلًا يترجم العلاقة بين السلطة والشعب، باعتبار الدستور عقدًا اجتماعيًا ومنطلقًا للتغيير يقفز باليمن لتكون موطن أول تجربة ثورية في المنطقة قائمة على رؤية نظرية واضحة أو من أوائلها، حيث اتفق الأحرار في “ثورة الدستور” سلفًا على دستورها قبل قيامها، ما يعني وجود عقول يمنية واعية أدركت في وقت مبكر أهمية الدستور كعقد اجتماعي مُلزم لبناء الدولة تسير عليه سلطاتها باعتبار السلطة ملك الشعب، وقد اعتبرنا هذه الخطوة مبكرة ومدهشة بالنظر لحالة الانغلاق التي كانت تعيشها اليمن، بل لا يزال مفهوم العقد الاجتماعي غائبًا عن الوعي نظرًا لحالة الاستلاب والغربة في حياته السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وهذا كافٍ لاعتبارها ثورة لو أنها نجحت، لأن مقياس نجاح أية ثورة برأيي هو أن تقوم بالتغيير نحو الأفضل، وبما أنها قد فشلت فإنها بالتأكيد في عداد محاولات الثورة، ولو وجدت العقول التي تتجاوز عقدة البدء من الصفر في كل تاريخ الحركة الوطنية اليمنية، لكنا درسنا كل التجارب الثورية والوطنية بهدف الخروج من دوامة العنف والبدء الحقيقي في بناء دولة وطنية بعيدًا عن العرقية والطائفية وكل أشكال التعصب المريض!

لقد أثبتت كثير من العقول والأفهام في آخر محطات الحلم بالثورة أنها ما تزال تائهة وبعيدة عن محاولة البحث عن فهم سليم لعوامل الثورة بمفهومها العلمي القانوني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الملتزم بكون التغيير السلمي يجب أن يكون أساس الثورة التي رفعت شعار السلمية في ساحات ما عُرف بثورات الربيع العربي، وقد خاب مسعاها في الوصول إلى غاية التغيير السلمي المطلوب، فأصبحت ثورة بالمقدمات السلمية الواعية، أما النتيجة المعبرة عن أهدافها النظرية فلم تتحقق.

وأهم الأسباب في اعتقادي عدم الاتفاق على قيادة ثورية موحدة قادرة على استيعاب الأهداف التي طُرحت في الساحات بشكل متناثر هُنا وهناك، وجمع وحدة تطلعات الثوار للسير باتجاه وحدة حقيقية، وكان من الضروري والمهم دراسة الثورات الإنسانية السلمية التي حصدت نتائج مهمة في طريق النجاح وتحقيق النتائج، مثل الثورة السلمية ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والثورة الصينية، والكوبية، وغيرها من الثورات التي بدأت خطوات ملموسة وفاعلة في البناء المؤسسي والتطور العلمي والمعرفي الذي حول أهداف الثورة إلى فعل بهدف تحقيق مكاسب مهمة في مجال الحريات وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

إن من علامات النظرة إلى الثورة كبناء قابل للنمو والبقاء وقادر على الإجابة على سؤال “النهضة” استجابة لطموح الفقيد الذي عاشت الأمة في وعيه ووجدانه، إدراك الارتباط الوثيق بين الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فهذا المكون يشكل الجزء الأهم في جسد الثورة لمعناها العلمي والسلمي المنشود والقابل للنمو واتساع الآفاق.

وقد أشار في محاضرته بعنوان “أولويات للنهضة العربية”، إلى أن “مشاكلنا لا تحصى، وهي مع ذلك تتراكم مع الأيام، فكل يوم يمر يضع مشاكله الجديدة، ولأننا لا نحلها فإننا نعجز بالضرورة عن مواجهة المشاكل المستجدة، بل إننا نعجز عن تفهمها، فضلًا عن حلها كما تقتضيه طبيعة الأشياء وبما تقتضيه.

إن بقاء أية مشكلة بدون حل لا يعني توقفها عند حد كونها مشكلة فحسب، بل إنها من حيث الكم تتوالد، وبذلك تزداد تعددًا، وهي من حيث الكيف تتعقد، وبذلك تزداد تنوعًا.

إن المشكلة الواحدة إذا ما تُركت تُصبح مشاكل شتى متعددة الأشكال والألوان، تتوغل في مختلف مجالات حياتنا، وتتحكم في أوجه نشاطنا، وكل استمرار في هذا الاتجاه يعني ابتعادًا متواصلًا عن مواجهة المشكلة الأم، أي ابتعادًا عن الرحم التي تتناسل منها جميع المشاكل.

وبسبب ذلك تتجه جهودنا إلى متفرعات المشكلة، وتشتبك مع بنياتها في معركة خاسرة عوضًا عن مواجهة المشكلة ذاتها، تلك المشكلة التي تبقى -بسبب ذلك- قابعة في أعماق النفوس، وفي مسارب العقول، ومن ثم في صميم الواقع تمدنا بمدد لا ينقطع من المشاكل المتفرعة عنها.. إنها تظل خميرة تفسد حتى تفكيرنا، ومن ثم تحبط جميع جهودنا وأعمالنا” .

وتأييدًا لهذه النظرية، وانطلاقًا منها، فإن أم المشاكل الكبرى في الوطن العربي والأمة الإسلامية كما يبدو هي كما أسلفنا مشكلة الخلاف أو بالأحرى الصراع المزمن على السلطة، وعدم فتح الآفاق لمناقشة جادة لكيفية حسم العلاقة بين السلطة الزمنية والدينية بالإقرار بعدم جواز اعتبار آراء الفقهاء دينًا مقدسًا يتم التمترس حوله كل بحسب مذهبه واعتقاده الذي يخدم مصالحه، بمعنى آخر تغليب دين الفقهاء على دين الله، فدين الله ترك هذا الأمر للاجتهاد وفق المصلحة العامة، وليس خدمة لأية أيديولوجية أو مصالح ذاتية.

إن هذه المشكلة ما تزال، وفي اعتقادي أنها ستظل مصدر الصراعات والفتن، وتسيء بشكل قاطع وواضح للدين، وجرحًا مفتوحًا يجعل كثيرًا من الحقوق والحريات عرضة للانتهاك لما يؤدي إليه من علاقة ملتبسة بين العلم والدين، فالعلم مجاله مختلف عن الدين، وله نظرياته وأدواته، وللدين كرؤية كونية وليس أيديلوجية سياسية محصورة، تصوراته وقواعده الفقهية، وبذلك وحسب فهمي لما ذهب إليه فقيدنا، فإن محاولة الإجابة على سؤال النهضة إنما “يبدأ بانعتاقنا من ربقة الأسر خلف قضبان نتائج المشكلة إلى مواجهة المشكلة ذاتها. بمعنى آخر تحرير “عقولنا” من أسرها وصولًا إلى تحرير إرادتنا واستجماع قوانا وإيقاظ أو استرجاع وعينا أو استعادته..إن هذا يعني -بالضرورة- تجاوز كل النقائص التي تعوقنا. وفي طليعتها تلك الشوائب النفسية التي هي أحد -وربما أهم- مسببات فقداننا الوعي والإرادة، ومن ثم وقوعنا ضحايا المشكلات الفرعية. والتغيير النفسي عملية تتطلب ظروفها وشروطها. وذلك مرهون بما يتوجب من تغيير لطريقة تفكيرنا، ومن تصحيح لمنظومة “أفكارنا”، وذلك يقتضي انتفاضة ثقافية حقيقية على الذات، ينفض بها الإنسان عن كاهله أثقاله التي تعوقه عن النهوض، ويطلق إرادته من أغلال العجز والخوف والاستسلام والتواكل والذل والجهالة بحيث يصبح قادرًا على أن يرغم نفسه على الإقلاع عن المألوف الراكد والانقياد لعقله الذي سيقوده -بالإيمان والإرادة والعلم- نحو الآفاق الجديدة!” .

وأعتقد أنه لا توجد مشكلة في حياة هذه الأمة ينطبق عليها هذا التوصيف، أكبر من مشكلة استمرار الصراع الدموي على السلطة طوال أربعة عشر قرنًا، ومازالت المشكلة تنمو!

ثانيًا: “شاعرٌ وقصيدة”:

أما الشاعر فهو فقيدنا العزيز الشاعر الجميل والمفكر العبقري الذي أسفت أشد الأسف وأنا أقرأ بعض نتاجه الشعري والفكري كي أقتبس من نفحاته هذه الحروف للمشاركة بها في أربعينية رحيله، أسفت مرتين؛ مرة على فقدانه قبل التعرف على شخصه الكريم مباشرة، وأخرى لكوني لم أقرأ له قبل هذه المناسبة الحزينة، وهذه من عاداتنا نحن العرب الذين ندعي نحن اليمنيين بأننا أصلهم، من عاداتنا أن نتذكر جواهر عقولنا بعد فقدان أصحابها، فنتأسى عليهم ونكيل لهم المديح ونسكب أغزر عبارات الحزن وتبجيلهم وتكريمهم بعد فقدانهم، وهي عادة أضاعت وأهدرت منا الكثير من الفرص والطاقات التي تجلوها الحركة النقدية فتظهر حُسنها ومواطن قوتها وضعفها في حياة أصحابها لتعظم الفائدة وتنمو القدرات، وهذه غاية النقد البناء الذي هو إبداع في الإبداع ونسيج داخل نسيج الحروف والكلمات ضمن صناعة الكلمات الآتية من عالم الوجدان الجامع بين العقل والعاطفة سواء في ثنايا الشعر أو الكتابة الفكرية والنقدية والأدبية والسياسية.

مزيجها جميعًا له نكهة الشعر والفكر والفلسفة كما هو حال شاعرنا الذي أطلت علينا روحه فلمحناها من خلال قصيدة “صنعاء” أولى قصائد المجموعة الأولى من مجموعته الشعرية البديعة: (الشوق يا صنعاء. أزهار الأحزان. لم تشرق الشمس بعد)

هذه المجموعة التي رأت النور بمبادرة من إخوانه وأصدقائه الكرام الذين أصروا على نشرها رغم عزوفه عن النشر، وهذا العزوف ذكرني بشاعرين عظيمين من شعراء الوطنية اليمنية، هما الشاعران الفقيدان الكريمان يوسف محمد الشحاري ويحيى علي البشاري، تغشاهما الله بواسع رحمته.

وأسباب العزوف عديدة تختلف من شاعر ومفكر لآخر، ولكن ما يجمعهم هو تواضعهم الجم.

أول قصيدة من قصائد المجموعة الأولى التي حملت اسم “الشوق يا صنعاء”، عنوانها كما أسلفنا “صنعاء”، بدأها بتساؤلات مشتاق شوق شاعر عذب العبارة صادق الحنين يملؤه العشق ويعانقه الوله:

صنعاء هي في الندي السمح أسمارُ

                                كما مضى من ليالينا وسمارُ

وهل رخي العشايا مثل عادتها

                                شعر وأشواق عُشاق وأسرارُ

صنعاء هذه الفاتنة ليست مجرد مدينة، إنها خزان ذكريات كل الشعراء العشاق الذين عبروا عن عشقهم، والذين رحلوا وفي ثنايا وجدانياتهم من عبق الحروف والكلمات المفعمة بالجمال مالم تتمكن أرواحهم من البوح به ليفدي الحسان:

تفدي الحسان الجميلات التي التحفت        بمآزر… الليل أرواحٌ وأبصارُ

صنعاء مئذنة المدن الساحرة التي رغم ما قيل فيها وعنها من الشعر والنثر، ستبقى اسمًا يفوق كل معاني الحب والغزل، لأنلاسمها سرًا من أسرار الحب المعُجز، فالإعجاز كما يكون للعقل، يكون كذلك للقلب، بينهما رابط المعنى والمبنى، ولها وقع في الأذن وإيقاع في القلب، بل إن إعجاز العقول لا يجوز، وهو للقلوب أدعى وأقرب!

توهجت بالشهي العذب واختبأت

                                خلف الدخان وتُفشي سرها النارُ

صنعاء أغفت على الأزمان فتنتها

                                فدونها من وراء السور أسوارُ

صنعاء ليست مجرد مدينة من الأحجار والآجور والطين ومواد البناء المختلفة، إنها شُيدت من أرواح ملائكية ومعانٍ عصية على الفهم والإدراك الحسي، من رآها عشقها، ومن عاش فيها أصبحت جزءًا من كيانه، تسكنه دون أن يدري، وتبقى في مسكنها أينما حل الساكن أو رحل، هكذا رآها شاعرنا، وهكذا عاشها وعاشته، فوجد جدرانها ومآذنها تتكلم فتجيد الحديث أكثر من كثير من المحسوبين بين البشر. إنها شاعرة تسكن قلب الشاعر، ومتحدثة لبقة تبادل من يحس بها الأحاسيس!

إذا مشيت على حصبائها همست

                                شعرًا وباح بسر الشوق قيثارُ

وغازلتك من الجدران خاجلةً

                                من الثقوب قديماتٌ وأحجارُ

وأسمعتك السواني لحنُ متعبةٍ

                                تشكوه للمرنع المهجور آبارُ

هكذا تحس أن الشاعر هو المغني، لأنه من يبدع جسد الأغنية ويمنحها روحها، وهو المتكلم والمخاطب، والشعر الذي يصدق عليه معنى الشعر ومبناه يولد في لحظة يصعب إن لم يستحيل الفصل فيها بين الروح والجسد، بين الحضور والغياب، الغموض والتجلي.

هذا في المعنى العام، أما في الخاص فنقصد به فقيدنا الشاعر المتيم بمعشوقته “صنعاء”، وقد أجاد البوح بمكنون مشاعره قبل أن تغادر روحه (الجسد…الكفن) حسب فقيدنا الربيع.

نعم تمكن فقيدنا من البوح بما أراد، فكان حضوره البهي ممثلًا في كلماته العذبة المملوءة حكمة وفلسفة ورؤى صادقة نقية، ومن خلال صوره الشعرية أنعش الأفئدة وأراح النفوس.

كل أجزاء صنعاء وتفاصيلها تخاطب العشاق من داخل الوجدان وعبر العيون، وبقدر حفظها لهذه العلاقة الوجدانية مع من يحبها، فإنها لا تنسى ما فعل الطغاة بها عبر العصور، فهم أعداؤها وأعداء المدنية والتمدن دائمًا، ولهذا فعلاقتهم بصنعاء وكل المدن سيئة، ذاكرتها مليئة بسوآتهم كما وصفهم الشاعر:

أما الطغاة فتاريخٌ تردده

                                شوامخٌ من روابيها وأغوارُ

مرُّوا عليها فجرحٌ غير منطمسٍ

                                على الجبين وفي العينين أكدارُ

ومع كل ذلك، فإن صنعاء الحرية قد خيبت ظن الطغاة، لتؤكد لهم أنها لا تصلح لهم مرعىً أو مقامًا آمنًا:

ظنوا العرين لهم مرعى وما لبثوا

                                إلا قليلًا ومات الخزيُ والعار

ُ

وهم على الغي ما ترجى إفاقتهم

                                كأن بعضهمُ للبعضِ تكرارُ

حقًا إن نهاية الظلم والطغيان حقيقة دامغة طال الزمن أم قصر، لأن حياة الطغاة تتغذى بالكذب والنفاق وعمرهما قصير مهما طال!

قصيدة صنعاء متسع من الحكمة والعشق وبلغة شعرية فيها من الرشاقة والجمال ما يدهش بل يثمل، ينقل إلى عوالم عديدة، وشملت القصيدة إشارات مهمة عن تجربة خاصة للشاعر:

آهًا لمضطربٍ في الأرض يقذفهُ

                                للشرق نوءٌ ونحو الغرب إعصارُ

قد لوحت قبلات الشمس جبهته

                                وفي مفارقه للثلج آثارُ

على المنافي من آثاره أثرٌ

                                وفيه منهن مثل الجرح تذكارُ

بلوتها وبلتني واكتشفت بها

                                ما غيبته عن الأبصار أستارُ

خلائق الناس كم غطت مباذلها

                                موشيات من الدعوى وأطمارُ

من كل زارع زهر في أسرته

                                وفي سريرته للغدر أوكارُ

يسعى إليك وحلوٌ قوله فإذا

                                ما غبت عنه فأنيابٌ وأظفارُ

نعم بضاعة النفاق والمنافقين وعديمي الوفاء رائجة، وأكثرها رواجًا من يمارسون السياسة، لأنهم يعتقدون أو يريدون الاعتقاد بأن السياسة يجب أن تخلو من المبادئ كليًا، فهم يرونها فن الكذب، وليس فن الممكن كما هو المفترض، وبين السياسة والاجتماع وكل المجالات روابط لا تنفصم عراها، وأقبح وجوه السياسة من يمارسها باسم الدين، فيستبيح المحرمات في كل المجالات بحجة ضرورات السياسة، ليثبت أنه سياسي، فيدعي أنه مؤمن قولًا، ويتولى الشيطان فعلًا، ويتاجر بالدين واستخدام القرآن بصورة فاضحة ومقززة!

يعطر القول بالذكر الحكيم فإن

                                أفضى إلى الفعل فالشيطان أمارُ

من مشترين ضلالًا بالهدى لهم

                                دعوى.. كأنهمُ لله أصهارُ!

صورة عجيبة تكشف فداحة دعاوى المدعين الذين يلوثون الدين بالسياسة، ولا يدركون خطورة هذا النهج على الدين وعلى الإنسان الذي وجُد الدين الحق لخدمته، وأصبح إخراج هذه الحكمة من بين ركام التراث شبه مستحيل في ظل حالة الغيبوبة الحاكمة المتحكمة:

يستكثرون من الدعوى وحظهم

                                من الحقيقة دون الصفر أصفارُ

لم يمنحوا الله شيئًا في ضمائرهم

                                وباسمه في حقوق الخلق تجارُ

ويسرد الشاعر بعض النماذج المسيئة لكل القيم من السلاطين والمتاجرين بالمبادئ والقيم الدينية والأخلاقية، فيقول:

ظنوا الزمان لهم ملكًا وما علموا

                                أن الحضارة أطوار وأدوارُ

الأرض لم يرثوها عن أوائلهم

                                وتعرف الأرض أن الناس أحرارُ

إنه عمق الشعور بالحرية، وعلاقة الشاعر الأصيل بالحرية ليست كعلاقة بقية الناس، فمن المستحيل الفصل بين الشاعر وبين الحرية كيانًا وتعريفًا وعرفًا وحياة، الحرية قيمة الشاعر ونبض حياة حروفه وقلبه في آن.

يقول الشاعر نزار قباني رحمة الله:

أنا حريتي فإن سلبوها       تسقط الأرض كلها والسماءُ

والشاعر يضع تصوره للإنسان الحُر وللإسلام الذي يعطي للحرية مقامها الذي هو من مقامه، حيث يستخدم ضمير المتكلم للجمع المسلم، فينقل صورة الإنسان مطلق الإنسان الشامخ الذي أقام العدل كركن غير قابل للانهيار:

بنا نعم! رفَع الإنسان هامته            وقام للعدل ركن ليس ينهارُ

ويقدم الشاعر الشريعة في تصوره كنظام لكل البشر، مقرونًا بالحرية والاختيار، وليس بالغصب، ادعاء الاصطفاء والإكراه والظلم؛ نظام لا يقبل العنصرية، ويقاومها كي يسع الدين الدنيا بالحب والعدل والحرية والبناء:

شريعة تسع الدنيا مناهجها

                                في الحرب والسلم تمدين وإعمارُ

لكن قومًا على أعقابها انقلبت

                                فهم على الحق لا للحق أنصارُ

هم الخلائف للمستعمرين على

                                جهالة تؤثر الخنا وتختارُ

على مخازيهمُ ناموا وما حلموا

                                إلا بأنهم في الليل أقمارُ

ومبلغ العلم فيهم أن عالمهم

                                فدم وأوفاهمُ بالعهد غدارُ

نشكو على القدس غلواء اليهود وفي

                                ديارنا اليوم أشباه وأنظارُ

ويقدم الشاعر واجب الاستغفار للشعر من عمل مزوري التاريخ وعشاق الرذائل الماسة بحرية الإنسان وكرامته وحياته:

أستغفر الشعر، ذنب أن يدنسه                   في مهجع القوم عند الفجر زوارُ

ويسأل ليالي الحمى عن أي خبر جديد يأتي من الشرق يفرح به الشاعر متأوهًا في منفاه في الغرب:

إيهًا ليالي الحمى هل من “مشرِّقةٍ”   لنازحٍ في أقاصي الغرب أخبارُ

القصيدة كما رأينا مزيج من الفلسفة والحكمة والسياسة والعشق المعطَّر بالحنين لصنعاء المدينة كرمز للوطن وكمعشوقة لها روحها، وفيها بوح عذب لعلاقة خاصة وحميمية جدًا ربطت فقيدنا الشاعر والمفكر بتفاصيل الزمان والمكان والإنسان، وموقف حُر من الظلم والاستبداد، ورؤية واضحة للعلاقة بين الدين والوطن التي يفسدها الطغاة في كل الأزمان وبمختلف الصور والوسائل والأساليب، ولكنه بعبقريته الشعرية وذائقته الرفيعة عراها جميعًا.

يوميات البحث عن الحرية..

التداول السلمي للسلطة وخطورة تصنيع الفراغ السياسي!

الإهداء بخالص الحزن والأسى لروح فقيد الوطن الكبير القاسم بن علي الوزير،المفكر السياسي الكبير رئيس المجلس الأعلى لاتحاد القوى الشعبية، الذي يُعتبر رحيله خسارة كبيرة للوطن، فقد كان الفقيد رجلاً مسكوناً بحب اليمن، محنكاً وشغوفاً بقضاياه، وقد أسهم  بشكل كبير في تطوير الحركة السياسية والاجتماعية. وسيكون تراثه دافعاً لنا جميعاً لنواصل مشروعه في بناء مجتمع أكثر عدالة وحرية.

عبدالعزيز البغدادي

لا توجد مشكلة تهدد حياة الإنسان بفعل الإنسان كالحروب بكافة أنواعها، ومنها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، تحركها نزعة التسلط والبحث عن النفوذ والثروة. إنها تستبيح الدماء وتهدم البناء وتستنزف الطاقات وتعيق التنمية.

من أسلحتها الفتاكة تغليب الغريزة وتعطيل العقل باسم الدين، وتطلق العنان للتنافس غير المشروع على السلطة والتفنن في سياسات وأساليب الاحتكار.

والديمقراطية هي الطريق الأمثل لإيقاف دوامة العنف والصراع على السلطة تحت أي عنوان ديني أو فكري، وهي الوسيلة المقبولة للحكم في عصرنا، لأنها تقوم على مبدأ حق الشعب في السلطة والثروة، وقد تطورت أشكالها بتطور المجتمعات التي اختارتها.

والتشكيك في جدوى الديمقراطية من أسباب بقاء بعض البلدان والشعوب في أسر الأنظمة الديكتاتورية التي تتحدث عن الديمقراطية والحداثة قولاً، وتمارس أبشع صور الطغيان والاستبداد والجهل والتجهيل بكل معانيه عملاً!

ومن أعجب العلل المستخدمة في محاربة الديمقراطية الادعاء بأنها ثقافة غربية أو غريبة مستوردة، إذ ما الذي تبقى في الوطن العربي والعالم الإسلامي، على سبيل المثال، ليس مستورداً؟!

والديمقراطية هي الترجمة العملية لممارسة حرية الإنسان في اختيار حكامه ومحاسبتهم ومراقبة أدائهم للوظيفة العامة طبقاً للقانون، فمتى كانت الحرية منكراً؟!

وإذا كانت هذه السلعة غربية، فما المانع من استيرادها وحسن التعامل معها، عوضاً عن حماية تجار المبيدات المسرطنة والبذور المهجنة والأغذية المضرة بمختلف أشكالها وألوانها ومصادرها المشبوهة؟!

أبواب الوطن مفتوحة على مصراعيها أمام بضائع دول تحالف العدوان التي تفوق خطورتها البضائع الصهيونية لارتباطها المعروف بالكيان، ومقاطعة البضائع بعد السماح لها بالدخول مسألة خاطئة، بل جريمة غير مفهومة الأبعاد إن أحسنا الظن!

ومن أبرز أساليب التهرب من الديمقراطية الكاملة اللجوء إلى ما تسمى الديمقراطية التوافقية، ومن أمثلتها اتفاق الأحزاب والقوى السياسية في اليمن، في 24/2/2012، على تنظيم استفتاء سخيف في اليمن، تم فيه التحايل وتزوير إرادة الناخبين معنوياً، ليتم تسليم السلطة بموجبه لعبد ربه منصور هادي، الأداة الوحيدة التي رأت القوى السياسية المتوافقة أنه الأكفأ لرجاحة عقله وغزارة علمه واستقامة لسانه، ليكون منقذاً لليمن بحكم عبقريته الفذة!

أول المستفيدين من هذه الديمقراطية وما أدت إليه من وضع، هو أقرب للفراغ السياسي الشامل.

الطائفية السياسية والقوى المتصارعة والمتسابقة على السلطة تحت عناوين مختلفة، هي المستفيدة من هذا النوع من الديمقراطية المسماة بالتوافقية، وهي قوى مصنوعة في بعض البلدان العربية، ويجري تصنيعها في بعضها الآخر!

الطائفية السياسية مشكلة وليست حلاً، والتوافق عليها شكل من أشكال السباق غير المشروع على السلطة كما هو حاصل في لبنان.

والسكوت على المشكلة ينطبق عليه ما ذهب إليه فقيد الفكر والشعر العربي قاسم بن علي الوزير، رحمه الله، في إحدى محاضراته المنشورة في كتاب بديع بعنوان: “حرثٌ في حقول المعرفة”، جاء في صفحة 16 منه: “إن بقاء مشاكلنا بدون حل لا يعني توقفها عند حد كونها مشكلة فحسب، بل إنها -من حيث الكم- تتوالد، وبذلك تزداد تعدداً، وهي -من حيث الكيف- تتعقد، وبذلك تزداد تنوعاً. إن المشكلة الواحدة إذا ما تركت تصبح مشاكل شتى”. فكيف بنا إن غُذيت؟!

والتطييف السياسي مصدر رئيس لتهديد السلام في الدولة والمجتمع اللبناني، وكل دولة تشبهها أو قريبة الشبه منها، وهي من أبرز المشاكل التي تُغذى!

الحرب الطائفية اللبنانية التي اندلعت في 1975 استمرت حتى 1990، وكان ضحاياها 120 ألف شخص.

ومن المفارقات العجيبة أن مضامين الاتفاقية المعروفة بـ«اتفاقية الطائف»، التي عقدت في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية، حافظت على أسباب المشكلة، من خلال الحرص على التوافق لتقاسم السلطة على أساس طائفي، هو أهم أسباب الحرب والتوتر الدائم. فكثير من قضايا الخلاف بين رئيس الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، مربوطة بالتوافق، وأهم هذه القضايا حالة الاختلاف حول تسمية رئيس الجمهورية أو الحكومة، وتوزيع الحقائب الوزارية، حيث تستمر المفاوضات بشأنها لأشهر، وأحياناً تتجاوز العام، تُسير خلالها الأعمال من قبل حكومة تصريف الأعمال، فتزيد حالات الفساد الناتج عن الفراغ أو شبه الفراغ السياسي، لأن صلاحيات حكومات تصريف الأعمال كما هو معلوم ليست صلاحيات كاملة، وأجهزة الرقابة والمحاسبة شبه معطلة.

ما يطلق عليه الديمقراطية التوافقية تحايل على الديمقراطية الكاملة لاستمرار سرقة حق الشعب في اختيار من يحكم، وتقاسم المصالح ومواقع السلطة والنفوذ بتوافق مستغليه من السرَّاق، وأبرزهم رافعو الشعارات الدينية، وهو عمل يفترض أنه مجرَّم لما يؤدي إليه من رهن للعاطفة الدينية لدى من يستغلها دنيوياً بما يسيء إلى الدين والسياسة معاً.

لقد أثبتت التجارب في البلدان التي مورست فيها لعبة خلط الدين بالسياسة، خطورة اللعبة لاختلاف مجال الدين عن مجال السياسة، فالدين يقوم على عقيدة الإيمان بالغيب التي لا تخضع للتجربة، ولا تنطبق عليها مقاييس ومعايير الخطأ والصواب والثواب والعقاب الدنيوي، ولا تخضع لأسس النقد العلمي، أما السياسة فتقوم على العلم، وتخضع للنقد العلمي، ومقاييس الخطأ والصواب في تسيير أعمال الوظيفة العامة، وفي كيفية اكتساب الولاية العامة وانتهائها، وإجراءات التداول السلمي للسلطة، وشروط وقواعد اكتساب الشرعية الدستورية والثورية باعتبار الثورة على الظلم حقاً عاماً من حقوق الإنسان، لا ينبو عن الرؤى المستنيرة في بعض المذاهب والآراء الإسلامية، والخروج على الحاكم الظالم في الإسلام يعني الحق في الثورة على الظلم كشكل من أشكال تغيير المنكر باليد لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومن أهم شروط ثبوت الحق في الثورة:

1. تلاعب السلطة الحاكمة بمبادئ الشرعية الدستورية، وبالذات اللجوء لإجراءات وتصرفات تشير إلى سعيها للاستئثار بالسلطة واستمرار البقاء فيها بعد انتهاء مدة الولاية الدستورية، والعمل على توريثها تحت أي مبرر.

2. أن تقوم السلطة الثورية بالمشاركة المجتمعية المؤيدة والداعمة لها بالتغيير الإيجابي والعمل على إعادة الشرعية الدستورية، والترتيب الجاد للتداول السلمي للسلطة خلال مدة لا تزيد عن عام!

3. استخدام الشرعية الثورية باتباع الأسس الحديثة التي يكون فيها الدستور ومبدأ سيادة القانون محور الثورة وقلبها.

زهور دمي تعلق في الشمس آمالها

تصنع أغلالها من حروف القوافي

وتسألني عن رماد الوطن.

أقرأ أيضا :الأستاذ قادري أحمد حيدر يكتب عن ثنائية الشعر والفكر للأستاذ القاسم بن علي الوزير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى