صنع في اليمن.. 7 الفرسان الثلاثة
صنع في اليمن.. 7 الفرسان الثلاثة
- كتب الأستاذ زيد بن علي الوزير
تتمة السجين المقاوم
في الحديث السابق ركزت على جواب الأخ الكريم عن أخي “عباس” وجده ووصلت معه إلى قيام الثورة كخلفية يفهم منها خط سيره الثوري. وفي هذا الحديث لم يعد وحده فارس الميدان، فقد انضم إليه -عقب سقوط الثورة- مقاومان باسلان، احدهما من المدرسة الإصلاحية والثاني من المدرسة الوطنية، ومضى الثلاثة في رحلة عذاب موجع انتهت بهم إلى أعماق “سجون حجة” والى استشهاد الفارس الثالث.
عندما سقطت “الثورة الدستورية” كان أخي “عباس” وابن عمى “أحمد بن محمد الوزير” وخالي “عبد الله بن حسن أبو راس”، في “صنعاء” عندما بدأت عاصفة النهب تهب عليها دمارا وحريقا وسلبا ونهبا وهتك أعراض، وفي الجو العاصف تفرقت بنا طرق النجاة، فبينما قرر الفرسان الثلاثة الهرب إلى “عدن” لاستئناف النضال من هناك، غادرنا صنعاء تلقاء “الهجرة” بعوالنا في سرية ووضع تعيس، وفي محن ضغط شماتة عدو مبتهج، وحزن صديق متكتم، وركب خائف يترقب.
كان الخال الشهيد “عبد الله” من أوائل من هرب في العهد المتوكلي هو والمرحوم مطيع دماج إلى عدن وبدا ينشران المقالات ضد النظام المتوكلي، وكان له معاريف بعدن سوف يرحبون بهم عند وصولهم ويفتحون لهم صحفهم كما كان شأن عدن- منارة التنوير- دائما،
وقبل مغادرتهم جاء إلينا أخي «عباس» للمرة الأخيرة، ونحن مختبئين في بيت السادة الكرام “أل المحاقري” وقد غير ملابسه تماما، مرتديا ثيابا رثة، وحذاء باليا، وسماطة ممزقة كأنه من الفقراء أو طلبة العلم البائسين وبيده عصى يتكئ عليه متظاهرا بالعرج، حتى أن “رتبة بيت المحاقري” كانوا سيطلقون عليه الرصاص لولا أنهم شاهدوه يعرج في مشيته، وأن هيئته تدل على أنه «مطلِّب» فقير، يفتش عما يسد به رمقه، فلما قرع الباب أعلن عن اسمه، فدخل إلينا، وأعلن أنه والخال «عبد الله أبو راس» والأخ «أحمد بن محمد الوزير» قرروا الفرار إلى «عدن». ولم يمكث أخي «عباس» إلاَّ قليلا معنا، ثم أخذ عصاه وغادرنا بين دموعنا وتضرعاتنا إلى {الله} أن يحميهم و ينجيهم، ولم نعد نعرف عنهم شيئا إلاَّ بعد حين عندما ألقي عليهم القبض في «معبر» فأعيدوا بالسلاسل والأغلال إلى “سجن القلعة” ثم إلى «سجن قاهرة حجة».
يعد مغادرتهم بأيام غادرنا “صنعاء” إلى “هجرة السر” على حمر أرسلها أخونا الأكبر مع أصحاب لنا من الهجرة، فخرجنا في حالة مزرية ، ولم تكد تستقر بنا الركاب الحزينة في “السر” في بيت بني عمنا، ولم نكد نخلص من خبر اعتقال أخي “أحمد” وابن عم لنا “عبد الملك” حتى جاءنا الخبر بأنه ألقي القبض على أخي “عباس” وابن عمي “أحمد بن محمد الوزير” وخالي “عبد الله بن حسن أبو رأس” في “جهران” وأنهم أعيدوا إلى “سجن القلعة” مقيدين بالسلاسل، وأنه عند وصولهم “صنعاء” دردح بهم في الشوارع، وبُصق عليهم، ورشقوا بالأحجار قبل أن يساقوا إلى “حجة” مع غيرهم من “الدستوريين”، وقد روى قصتهم بتفصيل العلامة “أحمد بن محمد الوزير” في كتابه “حياة الأمير-كما سمعت ورأيت”، من الخير أن تأتي بها هنا.
قال رحمه الله”
(بعد الاطمئنان على بقاء العوائل والأولاد في أيد أمينة لدن “آل المحاقري” الكرام قررنا الأخ عباس وأنا الفرار إلى عدن؛ فأبدينا رأينا على النقيب الشهيد الوفي “عبد الله بن حسن بن قائد أبو راس” فأيد الفكرة- وكان قد دخل صنعاء في نفس اليوم الذي دخلت فيه القبائل ووصل إلينا إلى الأبهر- وعرض فكرة الذهاب إلى برط بدلا عن عدن، لكن خشينا أن يطاردنا الإمام أحمد إلى هناك، فقررنا الاتجاه إلى “عدن” وخرج ثلاثتنا من صنعاء مشيا على الأقدام في اتجاه معبر. وكنا قد انضممنا إلى ركب هاربين مجهولين يقدر عددهم بحوالي ستين شخصا لم نعرف أحدا منهم إلا الحاج “حسين الصنعاني” صهر الوالد “محمد بن أحمد الوزير” فعرفناه ولم يعرفنا وكان يحاول أن يتملص من أي تهمة تلصق به بسبب مصاهرته هذه، فكان يحاول- وهو يحدثني والأخ “عباس”- أن يبعد المسئولية عن الوالد محمد بن أحمد الوزير وحتى عن الإمام عبد الله ويحملها على “الأمير” فشن حملة عليه وهو يحدث الأخ عباس بلهجته الذمارية القارصة قائلا: “ايش يشتي علي الوزير قد كان دوله ومزيكه… فضولي” الخ. وكان الأخ عباس وأنا نردد كلماته صابرين. وكم خجل- رحمه الله- عندما عرف من نحن وقال: على الأقل لو عرفتكم ما صحبتكم وما سجنت، ولما وصلنا معبر بعد تعب مرهق دخلنا أحد مقاهيها لنأخذ قسطا من الراحة فإذا بالجنود يفاجئوننا فيأخذوننا ألي السجن جميعا مع أكثر من ستين شخصا كنا رفاقا في الطريق من “حزيز” وقد وجدنا بالسجن “العزي صالح السنيدار” وقد أطلق سراح أولئك السجناء جميعا ما عدانا الثلاثة والحاج الصنعاني والعزي السنيدار ثم جاءوا بالشيخ “مجلي” احد مشايخ رداع الذي وصل من صنعاء هاربا، وكان الجنود يلقون القبض على كل واصل من صنعاء ليتحققوا من معرفته.
(وكان ضمن من أطلق سراحهم الشهيد “عبد الله بن حسن أبو راس” لعدم معرفة شخصيته، ولأنه انتحل اسما آخر من أسماء “آل ثوابه” الساكنين في “سمارة” ولكنه أصر على أن لا يترك رفيقيه؛ فكلم مدير السجن “احمد صالح الجايفي” ذلك الرجل اللئيم، وقال له: إن بالسجن مهاجرين يقصدان ذمار- ويعني بهما نحن- لطلب العلم، وأنه لا يجوز اعتقالهما، ومن المصادفة أن مدير السجن يعرف كاتب هذه السطور إذ كان ذلك اللئيم من حرس الأمير سابقا “بدار النصر” بتعز، وما أن أكمل النقيب عبد الله طلبه حتى قال انه يريد أن ينظر الرجلين ليتحقق منهما ولو لم يكن على معرفة بي لاعتقدنا حقا من المهاجرين الضعفاء لمنظرنا المنهك وملابسنا الرثةأ وقصد غرفتنا فما إن وقع بصره علي حتى اقبل مسلما واخذ يدي وقبلها ونادى باسمي الصريح فقلت له: انك غالط ولا أعرف من “أحمد الوزير”؟ فقال: لا. أنا أعرفكم من دار النصر أنت بنفسك وطلب معرفة اسم الأخ “عباس” فأردت إخفاءه لينجو بنفسه فقلت انه مهاجر يقصد ذمار، لكن الأخ عباس أتته نخوته المعتادة وشجاعته فما سمعته إلا قائلا: “أنا عباس بن علي الوزير”، فما إن سمع اللئيم بذلك حتى قام موليا وجهه إلى حاكم ووكيل عام الجهة السيد “حسين محمد الكبسي” وأمر في الحال بإلقاء القبض على النقيب “عبد الله” على انه أحد آل أبو راس ووضعت القيود في رجليه من جديد كما ارجعوا حسين الصنعاني ووضعوا القيود في رجليه.
(وكان الأخ عباس قد وعده بان يعطيه ما لدينا من مال وذهب بغية فك سراحنا فوعد بذلك. ولكنه لم يكد يستلم المبلغ حتى خان عهده. وكان يطمع أن يعطيه “السيف الحسن” مبلغا آخر، فيكون قد حوى المال من أطرافه. لكن الحسن خيب ظنه ولم يعطه شيئا فباء يخسر الدنيا والآخرة.
(وما إن سمع الناس بان “أبناء الوزير” بالسجن حتى هرعوا من المدينة وما حولها إلى باب السجن للتعرف على هؤلاء أبناء الوزير الذين أحدثوا الحدث المنكر والداهية الدهياء..
(وما إن اقبل الليل حتى جاءت مجموعات من أنحاء “جهران” و”بلاد الروس” يرأسهم ابن الشيخ “القفري” بزواملهم متتابعين، كل فئة تريد اخذ “أبناء الوزير” بيدها كأنما هم غنيمة ضخمة أو سلعة ثمينة. وقد كان الحوار بين الفئات ينذر بالاحتدام. وما إن جاء الفجر حتى جاءت سيارة نقل وفيها أكثر من عشرة جنود من حرس الإمام يحيى قد أرسلهم السيف الحسن لإيصال الغنيمة. ولم نشعر في الصباح الباكر إلا وفي باب السجن المظلم القذر- الذي لم نذق فيه طعما للمنام لكثرة ما به من قمل وبق وبعوض وقاذورات- عشرات من الناس المدججين بالسلاح، وقد اتخذ جنود الحراسة الشاكون سلاحهم مواقفهم على الأبواب والسطوح والجدران تحمى السجن خوفا وخشية أن يقتحمه الرجال المسلحون فيأخذوا المساجين ويفتكوا بهم.
(ثم جاء الحاكم وطلب أبناء الوزير إليه وتحدث معنا واهتم بسؤاله عن الأخ “عبد الله بن علي” وهل يؤمل عودته؟ فقلت له: ربما عاد الأخ عبد الله وكان يعتقد أن سقوط صنعاء لا يعني النهاية. وكان يحسب حسابا لعودة الأخ عبد الله (وقد بقي الأخ عبد الله فترة من الزمن تنسج حوله الأساطير)، ثم أعادنا إلى السجن في غرفة منفردة، كما أمر بنقل وإبقاء العزي” صالح السنيدار” وصاحبنا “الصنعاني” والشيخ “مجلي” بالبقاء معنا وشرع يصلح بين المتخاصمين الذين يريدون أن يتولوا شرف تسليم الضحية إلى طالبها.. وتم الاتفاق معهم على أن يصحب السجناء الستة: -ابني الوزير وابن أبو راس والسنيدار والصنعاني ومجلي- مدير السجن “احمد صالح الجائفي” والشيخ “القفري” ومجموعة من أصحابهما، وبعض مشائخ جهران مع الجنود العشرة الذين جاءوا خصيصا من صنعاء. وما إن تم ذلك حتى استدعوا الستة واحدا واحدا واخذوا في وضع القيود في الأرجل، وتركيب المغالق في الأيدي، وأرادوا منا بعد ذلك أن نمشي وكان من ألطاف الله أن المغلقة التي ركبت على يدي واسعة الفوهة فما أحسست بها. أما الأخوان فقد جرحت أيديهم وسالت منها الدماء.
الطواف بنا في الشوارع
(ووصلنا صنعاء منهكين مرهقين، وجاءوا بنا إلى باب “قصر السعادة” ليشاهدنا السيف الحسن على تلك الحال فقيل لهم انه مضاف في “بيت إسحاق” فتحولت السيارة إلى هناك. وصادف أن “الحسن” كان عائدا من صلاة الظهر بمسجد الرحمة حيث قبر والده؛ فأمر بان تنرل السنيدار من السيارة ويدوروا به في شوارع صنعاء منفردا لتتلقفه الجماهير بالشتم والبصاق فيما يسمى (بالدرداح) ثم يرسل إلى القلعة، وأمر بنا و “النقيب عبد الله” إلى سجن القلعة، و”مجلي” و”الصنعاني” إلى “سجن الرادع”.
(ودخلنا القلعة وكانت مكتظة بالنزلاء المساجين من أتباع وأنصار وقادة الثورة. ووجدنا الأخ ” محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الوادعي” ذلك الرجل الذي قتل ” المهتدي” وحكم عليه الأمير بالإعدام، فخفنا أن ينال منا، لكنه كان كريما فاستقبلنا أحسن استقبال وخفف أوجاعنا ودهننا بالسمن لتخفيف الجراح.
(ولم نشعر في اليوم الثاني أو الثالث إلا ومناديا ينادي “أبناء الوزير” و” ابن أبو راس” فخرجنا وودعنا رفاقنا في الغرفة. وقيل لنا أننا مسافرون إلى حجة فما كدنا نخرج من باب السجن حتى رأيت “المغالق” أمامي، وكانت المغالق تفك عنا عند الدخول في السجن أما القيود فثابتة لا تريم، فضربت على أيدينا نحن الثلاثة، لكن القدر لم يسمح هذه المرة بان تكون مغلقتي كسابقتها ارتخاء؛ فجرحت يدي منذ البداية وأسالت الدماء. وكانوا قد ادخلوا من أبناء السوقة والشارع ليزفونا بالبذاء وطافوا بنا في القصر، وأراد جندي أن يهين النقيب الشهيد “عبد الله ابو راس” فضربه هذا بقبضة المغلقة على رأسه وبعدها لم نعرف ماذا جرى فقد لفتنا عاصفة من الركض والضرب. وقال الأخ عباس: انه لم يعد يشاهد النقيب عبد الله إلا كعجلة تلف حول نفسها. وأصابتني ركلة شديدة وضربة على الرأس لا تزال آثارها إلى الآن، وأصاب الأخ “عباس” ركضة فوق الكلية سقط على أثرها إلى الأرض وظل يعاني منها حتى مات- بعد فترة طويلة- رحمه الله. لكن الأكثر كانت حول النقيب الشهيد. ووقعنا كلنا على الأرض منهوكين. ثم هدأت العاصفة وأمرونا بأن نمشي وسط الشتم والبصق والحجارة حتى مروا بنا أمام القادة المنتصرين “العباس” و”يحيى” ليشمتا بنا. أما العباس فقد وقف يرانا ضاحكا ساخرا، وأما السيف “يحيى” فترك أخاه وغادر مجلسه ولم ينظر إلينا. وكان معروفا بعداوته الشريفة وتنزهه عن هذه المواقف ولا اعرف لماذا حضر. ولعله لم يكن يدري.
(وعندما مررنا أمام السيف “العباس” أشار إلى من حولنا بالشتم والضرب فعادت العاصفة تلوي بنا من جديد نالنا منها ما الله يعلمه، وسالت دماؤنا مرة أخرى، وساقونا وسط هذا العذاب منهكين محطمين نمشي على جراحنا حتى القوا بنا رميا إلى داخل سيارة نقل تقف بجانب سيارة أخرى تحمل دفعة أخرى من المساجين عرفنا منهم فيها بعض الأخوة “علي عقبات” ” والصفي محبوب” و “محمد السياغي” و “محسن علي هارون”.
(وطافوا بنا شوارع صنعاء وسط الضجيج والصراخ وأوصلونا إلى باب ” قصر السعادة ” وأوقفونا تحت الشمس والغبار وصراخ الغوغاء، واطل علينا السيف “الحسن” من نافذة المكان الذي كان يطل منه والده القتيل عندما كان يستعرض الجيش المتوكلي ليستعرضنا نحى الأسرى هذه المرة، ولم يسعني بعد العذاب المرير إلا أن أقف أناديه بأعلى صوتي: (اتق الله وعاملنا على الأقل معاملة البغاة إن كنت ترى ذلك، أو فأمر بإطلاق الرصاص علينا” فأشار إلى جنوده بإرجاعنا إلى سجن قصر غمدان فعدنا كما جئنا: استقبلتنا الغوغاء بالصراخ والرجم والشتم والبصاق وقذفونا بالحجارة وبصقوا علينا فدميت منا الأجسام، وسالت دماؤنا، وأوصلونا إلى القلعة وسط هذا الصخب والجماهير المحمومة ترمينا بكل ما تصل أيليه أيديهم من حجارة ونعال وحصى. وأدخلونا القلعة ولم يزيلوا ما بأيدينا من المغالق هذه المرة. وقد رأيت من بالسيارتين الأخريين فكنت أميز بعد تحديق ومن خلال الغبار الملتصق بالدم والعرق وجوه بقية المعذبين “الصفي محبوب” و “العزي صالح السنيدار ” و”ابن هارون ” وغيرهم. ولاشك أنهم كانوا يروننا أيضا ويميزوننا بعد تعب، لأنني لاحظت أنهم يحدقون بنا ويشيرون إلينا.
السفر إلى حجة
(تركونا على تلك الحال حتى الساعة الحادية عشرة قبل الغروب أي حوالي الساعة الخامسة بالتوقيت الشمسي فإذا بالجنود ينادوا على أبناء الوزير وابن أبو راس. وإذا بالسيد يحيى النهاري بباب القلعة “بمحل الرسم” أي السجانين فأمر بإزالة المغالق من أبناء الوزير تكريما منه لأنه كان يجل الأمير كثيرا، وقد أحسن إليه الأمير أيام زيارته له بتعز، وكأن الله سبحانه وتعالى قد رحمني لما كنت أجد من شدة ووجع بالغين لأثر تلك المغلقة. وفي خلال إزالتها أخذت معها قطعة من البشرة العليا من طرف الذراع فيما يلي الكف فانهمر الدم بدون أي محاولة لإيقافه بالطبع.
(وكان في انتظارنا أيضا ذلك الرجل اللئيم “احمد صالح الجائفي” داخل سيارة نقل حيث وضعونا فيها فوجدنا الشيخ “محسن بن علي هارون” والسيد “علي عقبات” و “الصفي محبوب ” والقاضي ” محمد بن احمد السياغي” و” غالب الشرعي” والى جانب سيارتنا سيارة أخرى حملت مجموعة من المساجين “محمد حسن الزهيري” أحد معلمي المدارس الابتدائية آنذاك و”علي السمان” كاتب في إدارة السيارات آنذاك، ووزير للعدل والأوقاف فيما بعد، واللواء “محمد السري” والمشير “إسماعيل المسوري” و” محمد هاشم ” و” عزيز يعني” وآخرين، ومعهم جنود؛ فانطلقت السيارتان نحو “عمران” فوصلناها حوالي الخامسة ليلا- أي الحادية عشرة بالتوقيت الشمسي أو السادسة- الثانية عشرة – وقد بلغ التعب والإرهاق مبلغه فالطريق وعر وصعب. وكان سائقو السيارة يسرعون بسرعة جنونية فوق الأحجار والصخور و” العروم ” -مفرد عريم- فتثب السيارة وثبات قوية وترفعنا وتخفضنا وتقلبنا ذات اليمن وذات الشمال والحرس باسطون أيديهم لا يقدمون معونة، ولا يمسكون أحدا. تلعب بنا حركات السيارة لعب الكرة.
في عمران: يرفضون مساعدتنا على الصلاة
(فور وصولنا عمران طلبنا أن يمضوا بنا إلى المسجد لأداء الصلاة، أو يأتوا لنا بماء للوضوء فأبوا؛ فطلبنا ترابا للتيمم فأبوا أيضا؛ فأدينا الصلاة قعودا، يؤمنا فضيلة الحافظ الصفي احمد محبوب، على الحالة، ولم نستطع أن نؤديها قياما لما بنا من إرهاق ونصب وتعب. وقد أحسست ببرد شديد لم اعرف مثله، ولكن الله رحمني فهيأ رجلا ممن كانوا يدخلون علينا من أهالي عمران فجاء لي بـ “كرتية” جديدة من صوف الغنم اشتملت بها على سائر جسدي، فنمت إلى الصباح الباكر واستيقظت مع المجموعة لأداء فريضة الفجر على الحالة بدون وضوء ولا تيمم.
(ثم استدعونا للركوب على السيارتين فشحنونا فيها كالسلع، وانطلقت بنا إلى “كحلان عفار” وهناك أنزلونا في “سمسرة” وجاءوا لنا بغداء فأمسينا ليلتنا إلى الصباح وغادرناها متجهين إلى حجة. ولكن حدث في أثناء الطريق أن توقفت السيارتان فجأة. فقد وصل الحاج ” احمد قلالة” من حجة على سيارة جيب يجر خلفه عربة من اللاتي يحملن الأمتعة ونادى متهكما: أين سيوف الإسلام أبناء الوزير؟ فأنزلونا من السيارة، وأوصلونا إليه، فدعا بالنقيب “عبد الله أبو راس” ثم بالشيخ “محسن هارون” ثم ” بعلي عقبات” ثم ” بالصفي محبوب”، فأدخلونا في العربة المكشوفة المربوطة بالسيارة الجيب، ثم أطلق النار في الهواء إرهابا وترويعا، ثم ركب مع الشيخ “ناصر بن علي البخيتي” أحد مشايخ الحداء- والذي لم نره إلا تلك اللحظة- في سيارة الجيب، وانطلقوا بنا إلى ساحة “قصر سعدان” قصر الإمام احمد بحجة. وكان الحاج قلالة في أثناء الطريق يوبخنا ويقرع “الصفي محبوب” ويوبخ ” علي عقبات ” ويتهكم بالشيخ “محسن هارون” ومعروف أن ولده قد قتل مع الإمام يحيى في عربته فهو بذلك ينفس عن حقد. ولهذا السبب اختاروه أن يرافقنا لينزل بنا من الكلام والتقريع ما فيه الكفاية. والحق يقال أن الحاج احمد رجل فاضل وقد مرت الأيام وذهب اثر الغيض فكان صديقا كريما. وقد فتح الله عليه أبواب رزقه فكان من المتصدقين البارين بالضعفاء رحمه الله.
اللقاء بالأمير في المعتقل
(أوقفونا في ساحة قصر الإمام لمدة نصف ساعة ريثما دخل الحاج “أحمد” إلى القصر ليقابل الأميرين “المطهر بن يحيى” و”البدر بن الإمام أحمد” وبقينا تحت الشمس حوالي نصف ساعة، ثم خرج ومعه رجل يدعى “توفيق” يعمل سكرتيرا ” للعجا” وكيل الإمام احمد الخاص على أمواله، فأمر بي وبالأخ عباس أن نتحول من العربة المكشوفة إلى سيارة الجيب، ثم فصلوا العربتين بعنف وفجأة مما سبب سقوط الآخرين فيها على الأرض حيث أن العربة على عجلتين فقط، ثم أمرونا أن نصعد على “الجيب” إلى معتقل القاهرة حيث الآباء والإخوان الذين سبقونا لنكون معهم. أما الإخوة فقد أمروا بهم إلى “حبس نافع” الرهيب، وكذلك من كان بالسيارتين المتأخرتين. وكان وصولنا قاهرة حجة لعله في 13 جمادى الأولى 1367[24 مارس 1948] وعند نزولنا من السيارة الجيب بباب القاهرة استلمنا من الحاج “قلالة” شاويش السجن “صالح النهدي” من بلوك “علي بن علي الفقيه” من “بني بهلول” وأصحابه، وأدخلونا على الآباء والأخوان ويعلم الله مدى دهشتي عندما رأيت عمي الأمير الجليل مكبلا بالقيود مع كبار عشيرتي وأسرتي، ما عدى أخي العزي “محمد بن محمد” فلم يحملوه قيدا، والإمام العظيم “عبد الله بن أحمد”، وأخيه العلامة “محمد بن أحمد” والوالد البطل “مُحمد بن علي” والأخ الشهيد البطل “عبد الله بن محمد الوزير” والأخ العلامة “أحمد بن مُحمد بن علي الوزير” والأخ الأديب “عبد الصمد بن محمد بن علي الوزير”) . انتهى مارواه المرحوم
وأغلق عليهما في السجن لمدة سنوات، في خلالها بل وفي أيامهما الأولى أمكن أخي “إبراهيم” التواصل بهم وجرى الحوار بينهم, أما ثالث الفرسان شهيد الدستور وشهيد الوفاء عبد الله ابوراس فقد أودع سجن نافع، وأستشهد هو والخال محمد يوم الجمعة 29 جمادة الأولى 1367ه/ 9 ابريل 1048م مع شهداء آخرين هم: “محمد بن علي الوزير”، “أحمد البراق” و “أحمد المطاع” و “الشيخ الشايف”.
ولم يلن العزم، ولم تتحطم الإرادة، رغم الهول وقتل الآباء ورجال الدستور زعماء الإصلاح، بل استمد المقاومون من تلك الدماء الدستورية وقودا للسير في طريق المستقبل. وفي هذا الطريق مضوا يحققون أهدافهم بعناد ولم يغمدوا قلما، ولا ترجلوا من صهوة. كانوا بحق فرسانا، كما ستتحدث عنهم الفصول التالية.
تتبع…