كتابات فكرية

هذا هو صاحب الروح الكبرى الذي هزم أعظم إمبراطورية دون أن يقتل أو يجرح أحد

هذا هو صاحب الروح الكبرى الذي هزم أعظم إمبراطورية دون أن يقتل أو يجرح أحد

  • حسن الدولة

الجمعة 5 ديسمبر 2025-

كان موهانداس كرمشاند غاندي، الملقب بالمهاتما أي “الروح العظيمة”، رجلًا من طراز لا يتكرر، فقد حمل روحا أكبر من السلاح، وأقوى من الجيوش، حتى أنه استطاع أن يواجه أعتى إمبراطورية في زمانه، الإمبراطورية التي كانت توصف بأنه لا تغيب عنها الشمس، دون أن يطلق رصاصة واحدة، ودون أن يجرح جنديا من جنود الاحتلال. فقد ابتكر فكرة العصيان المدني وبنى طريقه في التحرير على منهج “ساتياغراها”، أي قوة الحق أو قوة الروح، ذلك النهج الذي يقوم على اللاعنف والصدق والانضباط الداخلي. ويتناقل الناس، على اختلاف التفاصيل، قصة تجسد روحه هذه: خرجت الجموع لتستمع لخطاب له، فجاءت القوات الإنجليزية مهددة بإطلاق النار، فقال لهم ما معناه إنهم يعلمون أنه قادر بكلمة منه أن يجعل الحشود تجتاحهم، ولكنه يختار الانسحاب حقنًا للدماء، دماء قومه ودماء خصومه على حد سواء، وبذلك بقي وفيًا لفلسفته التي لم يحِد عنها: أن الدم لا يجوز أن يكون ثمنًا للحرية.

بهذه الروح، وبالعصيان المدني الطويل، وبالمسيرات والإضرابات، قاد شعبه حتى انتصرت إرادة الضعفاء على قوة الحديد، وعلَّم العالم درسًا في أن الروح إذا سمت غلبت السيف. ولقد كان غاندي يجلس مع أصحاب المِلَل والعقائد المختلفة، حتى يُظن أنه منهم، قُربًا ورحمةً وانفتاحًا، وهذا ما يجعل كثيرين يرونه صورةً إنسانية نادرة لما عبّر عنه الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي في بيته الشهير:

عقد الخلائق في الإله عقائدا، وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وبقوله الذي نقله عن لسان الحقيقة:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني.

وهذان البيتان تعرضا لتحريف مؤسف من بعض المتعصبين، وجاراهم في ذلك – عن حسن نية أو عن خطأ تقديري – بعض محققي الديوان كالأستاذ عبد العزيز سلطان، فغيّروا في اللفظ ما يغيّر في الدلالة، فاستبدلوا “اعتقدت” بـ “شهدت”، وغيّروا “الحب ديني” إلى “الدين ديني”، وهو تحريفٌ يناقض صفاء المعنى، وترده الفطرة السليمة، ويشكّل وصمة في جبين من حرّف النصّ الصافي للشيخ الأكبر. فابن العربي لم يكن يعلن ديانة جديدة، بل كان يكشف عن رحابة القلب حين يتسع لإدراك الحكمة في تجارب البشر دون أن يخلّ بعقيدته.

وحين سُئل غاندي يومًا: هل أنت رسول أو نبي؟ كان جوابه أعمق مما توقع السائل: لست رسولًا ولا نبيًّا، ولكنني أؤكد لكم أن كل واحد منكم قادر على أن يكون رسولًا ونبيًا إن اهتدى بهدي الأنبياء، وصفّى نفسه حتى تنعكس الروح الكبرى من داخله كما تعكس المرآة نور الشمس، فالمرآة ليست الشمس، ولكنها ليست غير نورها. وهو كلام يُشبه ما جاء في الهداية الإلهية التي تخبر بأن لكل أمة هاديها، وأنه ما من قرية إلا خلا فيها نذير، وأن الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وأن الأنبياء إنما جاءت رسالتهم لتوقظ هذه القابلية الداخلية للهداية. ولذلك قال الله لنبيه الكريم بعد أن قصّ عليه هدي الأنبياء: فبهداهم اقتده، ثم أمر الأمة كلها بقوله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. فالغاية هي الحياة، والحياة لا تضيق ما دام القلب منفتحًا على نور الله.

وفي هذا الامتداد الروحي يتقاطع غاندي – من حيث مقاصده الأخلاقية – مع إشراقات كبار العارفين. فهو لم يدّعِ رسالة، ولكنه رأى أن الهداية تُشبه نور الشمس إذا وجد مرآة صافية، تنعكس فيها كما هي، لا كبديل عنها، بل كشاهد على أنها قريبة من كل من طهرت سريرته. وهكذا صار غاندي رمزًا لإنسان استطاع أن يجمع قوة الروح ورقّة القلب، وأن يهزم الظلم بلا عنف، وأن يهب شعبه طريقًا للحرية لا يقوم على الدم، بل على صفاء النية وثبات المبدأ، حتى غدا مثالًا خالدًا لصاحب الروح الكبرى.

اقرأ أيضا للكاتب: شهيدُ الدولةِ المدنية: البروفيسور أحمد شرف الدين “قراءة في معنى الفقد وأمانة المشروع الوطني”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى