لماذا نحتفل بالمولد النبوي؟

لماذا نحتفل بالمولد النبوي؟
- أمين الجبر
السبت23 أغسطس 2025_
إنَّ إحياءَ ذكرى المولد النبويّ الشريف ليس مجرَّد طقسٍ عابرٍ، بل هو تجلٍّ لوعي الأمّة بذاتها الرُّوحيّة، واستحضارٌ رمزيٌّ لأسس مشروعها الحضاريّ. فهو احتفاءٌ بالوجود المعنويّ للإسلام، وتجديدٌ للعهد مع المنهج الذي أرسته الرسالة الخاتمة.
وما الإيمانُ بمبدأ “فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا” سوى تعبيرٌ عن فرح الوجدان بفضل الرحمة الإلهيّة المتجسدة في شخص النبيّ الخاتم، الذي انكسرت على يديه حدودُ القبليّة والطغيان، وتأسّست على مبادئه قيمُ العدالة والتآخي الإنسانيّ.
إنّ الدعوى القائلة بأنَّ هذا الاحتفالَ بدعة تنطلق من فهمٍ سطحيٍّ للسُّنّة، يختزلها في الإطار الشكليّ ويتجاهل مقاصدها الجوهرية. فالسُّنّة الحسنة هي كلّ فعلٍ يستنهض الأمّةَ ويقرّبها من مقاصد شريعتها. وهذا الاحتفال ضربٌ من ضروب التذكير الروحي بجوهر الدعوة، واستدعاءٌ لروحها في زمنِ انحسارِ القيم النبيلة وتشظّي الهُويّة.
لقد كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم النموذجَ الأعلى للإنسان الكامل الذي حوّل الوحيُ كينونته إلى قرآنٍ يمشي على الأرض. ومن هنا، فإنّ الاحتفاء به هو احتفاءٌ بأسس الأخلاق الكلية، وتأكيدٌ على مركزيّة القيم في بناء المدنيّة.
إنّ مسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تكن سرداً تاريخيّاً فحسب، بل كانت تأسيساً لـ”العقد الاجتماعي” الأول في التّاريخ الإنسانيّ، عبر وثيقة المدينة التي أقامت الدولة على أساس المواطنة والتعاقد، لا على الدم أو العرق. وهي رسالةٌ إلى البشريّة جمعاء: أنَّ الإسلامَ جاء ليُحرّر الإنسان من كلّ أصنام القبيلة والطائفة والاستبداد.
وفي عصرنا هذا، حيث تُحاصَر هويّة الأمّة وتُستباح مقدساتها، يصير إحياءُ المناسبة ضرورةً وجوديّة؛ ومقاومةً ثقافيّةً ضدّ النسيان والتبعيّة، وتأكيداً على الاستقلال الحضاريّ والولاء للرمزية النبوية التي تجسّدت فيها قيمُ الحقّ والحرية والكرامة.
فالاحتفاء بالمولد إذن ليس ترفاً شعائرياً، بل هو إعلانٌ عن انتماءٍ راشد، وتمييزٌ بين منهجين: منهجٍ يُحيي الأمّةَ بتجديد الارتباط بمنبع قوّتها الرمزيّة، ومنهجٍ يرضى بالتبعيّة والتمزّق تحت راية الشكليّات والجدل العقيم.
