قراءة لمقال (فضيلة التداول السلمي للسلطة) للقاضي عبد العزيز البغدادي

قراءة لمقال (فضيلة التداول السلمي للسلطة) للقاضي عبد العزيز البغدادي
- بقلم: حسن الدولة
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025-
يعود القاضي عبدالعزيز البغدادي في مقاله الثاني المعنون بـ “فضيلة التداول السلمي للسلطة” بعد نحو ستة أشهر من مقاله الأول الذي نُشر في 24 إبريل الماضي في صحيفة الشورى الإلكترونية، ليؤكد اليوم الموافق 4 نوفمبر 2025م مجددًا على ذات الفكرة الجوهرية التي جعل منها محور مشروعه الفكري والسياسي والأخلاقي، وهي أن التداول السلمي للسلطة ليس مجرد آلية إجرائية من آليات الديمقراطية الحديثة، بل هو فضيلة إنسانية وأخلاقية تُمثل جوهر فكرة العدل في الحكم، ومفتاح الطريق إلى السلام الحقيقي، لا في اليمن وحدها، بل في العالم العربي كله.
غير أن المقال الثاني يبدو أكثر جرأة ووضوحا في توصيف مكمن الداء؛ إذ تجاوز فيه القاضي البغدادي التحليل المجرد إلى تعرية الواقع السياسي العربي والإسلامي الذي جعل من فكرة تداول السلطة جريمة كبرى أو كفرا بواحا، في الوقت الذي يقدس فيه الحاكم المستبد ويسبغ عليه ألقابا دينية ويُصنع لنفسه فقهاءُ على مقاس رغباته.
ولكن كاتب هذه السطور يؤكد على أنه من المعيب والمخجل أن نصل إلى حالٍ صار فيه التداول السلمي للسلطة يعد خروجا عن “معلوم من الدين بالضرورة”، وأقصد هنا فقهاء السلاطين الذين يتوارثون أدوات التبرير لطاعة الحكام الظلمة جيلاً بعد جيل منذ أن أسس معاوية بن أبي سفيان نظام التوريث السلطوي حين حوّل الخلافة إلى مُلكٍ عضوض، فباتت السنة هي ما سنّه الأمويون فحسب.
وهنا يحسن التذكير بما قاله المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي حين فرّق بين “التسنن النبوي” و“التسنن الأموي”، مؤكداً أن الثاني هو دين السلطة، بينما الأول هو دين العدالة والحرية والحق. كما فرّق بين “التشيع العلوي” و“التشيع الصفوي”، ليُثبت أن ما يُمارسه الناس اليوم من طقوس مذهبية لا يمتّ بصلة إلى روح التشيع التي أسسها عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، بل إلى دينٍ موضوعٍ صاغته السلطة السياسية لحماية عروشها.
إن جوهر أزمة الحكم في العالم الإسلامي، واليمن في صميمه، يتمثل في تحويل الدين إلى أداة لإدامة الاستبداد، وفي تقديس الحاكم وشيطنة فكرة المحاسبة والتداول السلمي التي هي في حقيقتها تعبير عملي عن مبدأ الشورى القرآني: “وأمرهم شورى بينهم”
لكننا، بفعل تاريخ طويل من تزييف الوعي، جعلنا من هذا المبدأ الرباني نصا معطلا، واستبدلناه بفقه الطاعة المطلقة وولاية المتغلب، حتى صار تغيير الحاكم بالانتخاب أو بالعزل السلمي خيانة، بينما توريث السلطة واستعباد الناس فضيلة شرعية!
وفي قراءتي السابقة لمقال القاضي عبد العزيز البغدادي الأول، أكدت أن التداول السلمي للسلطة هو الركيزة الأولى للديمقراطية الحقيقية، وأن غيابه هو ما أنتج كل دورات العنف التي عاشتها اليمن منذ قيام الوحدة في 1990م وحتى اليوم.
وفي هذه القراءة الثانية، أضيف وأشدد على أن حلّ المعضلة اليمنية لا يمكن أن يتم إلا بالعودة الجادة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، تلك الوثيقة التي مثّلت أعظم جهد وطني جامع منذ ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وصاغت مسودة دستور مدني حديث يُعد من أرقى الدساتير العربية والإسلامية في بنيته ومحتواه.
لقد كانت تلك المخرجات بمثابة عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة مدنية اتحادية حديثة، قائمة على المواطنة المتساوية، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة، ونبذ العنف كوسيلة للوصول إلى الحكم أو البقاء فيه.
ولا يفوتني هنا أن أذكّر جماعة أنصار الله وحليفهم المؤتمر الشعبي العام بما تعهدوا به عشية أحداث 21 سبتمبر 2014م، حين وضعوا تنفيذ مخرجات الحوار الوطني كأول مطلب من مطالبهم الثلاثة آنذاك. وإن الواجب الوطني والديني والأخلاقي يحتم عليهم اليوم أن يكونوا أوّل من يدعو إلى التوافق الوطني الشامل لتنفيذ تلك المخرجات دون انتقاء أو تسييس، لأنها تمثل الطريق الوحيد لبناء الدولة التي حلم بها اليمنيون جميعاً.
لقد آن الأوان لأن ندرك كما يؤكد القاضي عبد العزيز البغدادي أن التداول السلمي للسلطة ليس خيارا سياسيا يمكن تأجيله أو المساومة عليه، بل هو قدر تاريخي وأخلاقي، إما أن نختاره فننجو من دوامة الحروب، أو نرفضه فنستمر في عبودية الماضي وصراعاته.
إن مبدأ التداول السلمي ليس ترفا فكريا، بل هو جوهر النجاة السياسية لأي أمة تريد البقاء في التاريخ. وهو كما سماه البغدادي “فضيلة” بالمعنى الديني والقانوني والأخلاقي والسياسي، لأنه طريق السلام، في حين أن ادعاء “الحق الإلهي في السلطة” رذيلة لأنها طريق الدم والدمار.
ولعل أصدق ما يمكن أن نختم به هذه القراءة هو أن التداول السلمي للسلطة ليس بدعة غربية، بل هو التجسيد العملي لمبدأ الشورى الإسلامي، وأنه إذا كان الغرب قد وصل إليه بعد قرون من الحروب، فالأمة التي أنزل الله عليها قوله: “وشاورهم في الأمر” هي أولى به وأحق بتطبيقه.
اقرأ أيضا: الأستاذ عبد العزيز البغدادي يكتب عن التداول السلمي للسلطة





