اخبار محليةكتابات فكرية

تحليل عميق لقادري أحمد حيدر عن حرب السعودية لثورة سبتمبر وهروب الأمير طلال لمصر وقائد القوات الجوية الأردنية لليمن

تحليل عميق لقادري أحمد حيدر عن حرب السعودية لثورة سبتمبر وهروب الأمير طلال لمصر وقائد القوات الجوية الأردنية لليمن

ثورة 26 سبتمبر 1962م .. والسعودية، في جدل الوطني والقومي التحرري ( 1_2)

  • قادري أحمد حيدر

الجمعة سبتمبر 2025-

الإهداء

إلى القائدين والشهيدين: علي عبدالمغني، ومحمد مطهر زيد، أبرز رموز ثورة 26 سبتمبر 1962م.

إذا كان الأستاذ أحمد محمد نعمان، والشهيد محمد محمود الزبيري، هما

 رمزا الوطنية اليمنية في حركة المعارضة في الأربعينيات والخمسينيات، فإن الشهيدين والبطلين علي عبدالمغني ومحمد مطهر زيد، هما رمزا الوطنية الثورية اليمنية المعاصرة.

هما رمزا ثورة 26 سبتمبر 1962م، مع جميع رفاقهما الشهداء الأبطال.

لكما المجد والخلود.. وإلى جنة الخلد، مع الصديقين والصالحين.

من يقرأ ويتابع العديد من الكتابات اليمنية والعربية والاستشراقية الأجنبية، يطالعه وصف الحرب العدوانية على ثورة 26 سبتمبر 1962م بـ “الحرب الأهلية”، وهو في تقديري وصف ومفهوم ومصطلح مغلوط، خاطئ في الرؤية، وفي فهم الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي اليمني الذي جرت وقامت فيه الثورة، وبالنتيجة الحرب العدوانية والاستعمارية عليها، التي شارك فيها الآلاف من المرتزقة الأجانب، كما تشير إليه المصادر والتقارير العالمية.

وهي الثورة التي يصح أن يطلق عليها “ثورة الألف عام”.

ثورة الحرية، والعدالة، والمواطنة.

ثورة تأخرت أكثر مما يجب عن موعدها، أو عن استحقاقها الوطني. تأخرت عن موعدها لأسباب ذاتية وموضوعية وسياسية وتاريخية، ليس هذا المقال مقاماً مناسباً للاستفاضة في ذلك.

إن المملكة السعودية المشكلة اصطناعياً بأدوات الاستعمار الخارجي عام 1932م، حاضرة وفاعلة في تعويق الانتفاضات والحركات السياسية المعارضة ضد الإمامة الحميدية، منذ حركة 1948م الدستورية، إلى انقلاب مارس 1955م، حتى ثورة 26 سبتمبر 1962م.

السعودية كانت حاضرة سلبياً في تدعيم وتثبيت قواعد أركان النظام الإمامي، كما هي مؤثرة سلبياً في دعم تعويق الكثير من حركات التحرر في أكثر من مكان في المنطقة والعالم، لدعم المشروع السياسي الرأسمالي الاستعماري.

  من أول أسبوع لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، بدا وكان التدخل السعودي ضد الثورة، بل وفي العدوان العسكري المسلح المباشر عليها بالتعاون والتحالف مع الدول الرجعية الملكية العربية والاستعمارية. والجميع يتذكر أسراب الطائرات السعودية والأردنية التي غطت سماء اليمن، واضطرار طياريها العرب الوطنيين والقوميين إلى الهرب أو اللجوء بطائراتهم إلى مطارات مصر، ونزول بعضهم في مطارات اليمن، بمن فيهم قيادات عسكرية جوية من السعودية والأردن، وأسماؤهم مدونة في العديد من المصادر التاريخية والتقارير الدولية، ومنهم قائد القوات الأردنية “سهيل حمزة” الذي لجأ إلى مصر مع آخرين (1). وتشير المصادر التاريخية كذلك إلى رفض وهروب بعض الأمراء السعوديين الأحرار إلى مصر احتجاجاً على الحرب العدوانية للسعودية على ثورة اليمن، بمن فيهم الأمير طلال بن عبدالعزيز، الذي كان يلقب بـ”الأمير الأحمر”.

  السعودية والاستعمار، وعلى رأسهم بريطانيا، كانا يريان في قيام ثورة وجمهورية على مقربة من بحر النفط “المدولر” التابع والموظف لصالح الاقتصاد الرأسمالي الغربي الاستعماري، وتحت حماية قواعدها العسكرية، أسوأ وأخطر تهديد وجودي يأتيها من الجوار العربي، وخاصة من اليمن.. الثورة التي جاءت وكانت مرتبطة ومتوحدة بثورة 23 يوليو 1952م المصرية، المرفوضة من الرجعية العربية والاستعمار.. وهو الذي أعطى ثورة 26 سبتمبر 1962م ذلك البعد الوطني والقومي العربي التحرري. “إن البعد القومي مسألة محورية، يتعذر بدونها معرفة نشأة وتطور جمهورية سبتمبر، وكذلك انتصارها وأزمتها”(2).

وفي موضع آخر من الكتاب يكتب د. أبوبكر السقاف: “إن الدور المصري كان قومياً عربياً، ولم يكن يوماً مصرياً، وقد ارتقى بحركة الضباط الأحرار اليمنيين إلى مستوى النضال ضد الرجعية العربية والاستعمار، ووضع اليمن الجمهوري في مواجهتها داخل شبه الجزيرة العربية بكل ما تعنيه للإمبريالية والأنظمة العربية التابعة”(3). وهو في تقديري، بالنتيجة الذاتية والموضوعية، ما أسقط المفهوم والمصطلح الخطأ في وصف الحرب العدوانية الشاملة على ثورة 26 سبتمبر 1962م بأنها “حرب أهلية”. ومن نافل القول الإشارة اليوم إلى أن الكيان الصهيوني كان حاضراً في الحرب والعدوان على ثورة 26 سبتمبر 1962م(4)، وهو ما يجعل البعد الوطني والقومي التحرري لثورة 26 سبتمبر 1962م أبرز وأعمق حضوراً في الوصف، بل وفي الواقع. كانت السعودية – وما تزال – إحدى أدوات الرجعية والاستعمار الأمريكي/ الغربي في حصار وضرب وتعويق ثورة 26 سبتمبر 1962م.

لم يكفنا الإرث الإمامي التاريخي التخلفي، في صورة الإمامة الحميدية التي قالت – حسب بعض الروايات – إنها ستحكم اليمن أربعين سنة من القبر، وجاءت الرجعية السعودية والقوى الاستعمارية لتضيف إلى ذلك بعداً خارجياً رجعياً واستعمارياً إضافياً في العدوان على ثورة سبتمبر وتعويق مسارها السياسي والوطني والاقتصادي التحرري.

  إنها حقاً جدلية الوطني والقومي العربي التحرري في ثورة 26 سبتمبر 1962م، وفي ثورة 14 أكتوبر 1963م بعد ذلك. وهي الفكرة والقضية المحورية التي حاولت الإشارة إليها ولو لماماً في أكثر من كتاب لي، وخاصة كتاب: “ثورة 26 سبتمبر، بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة”، وفي كتاب “الأحزاب القومية…”، وفي غيرها من المقالات والأبحاث المنشورة، وهو ما أتمنى أن يتم بحثه ومناقشته في الكتابة الفكرية والسياسية والتاريخية اليمنية المعاصرة، حول ثورة 26 سبتمبر في بعديها الوطني والقومي العربي التحرري، وتحديداً مناقشة مفهوم “الحرب الأهلية”، وما ينطبق على ثورة 26 سبتمبر 1962م ينطبق بصورة أو بأخرى على ثورة 14 أكتوبر 1963م.

في واحدة من مقالات الأستاذ/ محمد حسنين هيكل، يكتب التالي:

“لم تكن الحرب في اليمن حرباً أهلية يمنية، وإنما كانت في الحقيقة حرباً أهلية عربية – مع تحفظي على تعبير كلمة حرباً أهلية عربية – (الباحث)، لأن الجمهورية الوليدة في اليمن كانت وقتها تمثل معنى اجتماعياً محدداً، كما أن النظام الملكي المنهار بأسرة حميد الدين في اليمن كان يمثل معنى اجتماعياً محدداً، وحددت كل القوى العربية مواقفها وكان الاختيار اجتماعياً بالدرجة الأولى، وبصفة عامة فإن الجمهوريات في العالم العربي وقفت وراء الجمهورية بدرجات متفاوتة، كما أن كل الملكيات في العالم العربي وقفت وراء أسرة حميد الدين المنهارة بدرجات متفاوتة أيضاً.

  ولعلي أقول بأمانة وموضوعية – والكلام لهيكل – إن مصر تتحمل جزءاً من مسؤولية التعثر والتوقف، لأنها في ذلك الوقت حاولت أن تستعمل روح مؤتمرات القمة لإنهاء الحرب في اليمن لصالح الجمهورية في صنعاء، وكان ذلك أكثر مما تتحمله الظروف، وأولها حقيقة قوة النظام الجمهوري في صنعاء”(5).

وهي حقيقة سياسية مصرية/سعودية في محاولتهما استخدام أو توظيف الجامعة العربية في بعض مشاكلهما/ صراعاتهما السياسية، نماذجها في الحالة السياسية اليمنية:

 مؤتمر قمة الإسكندرية، ومؤتمر “أركويت/السودان 1964م”، إلى اتفاقية جدة 1965م بين جمال عبدالناصر وفيصل، وصولاً إلى مؤتمر الخرطوم، 29 أغسطس 1967م، بعد أن تم إنهاك النظام المصري بالمؤامرات الداخلية، وبهزيمة يونية/حزيران 1967م التي وُظفت سياسياً من أنظمة عربية فاعلة، أنظمة “البترودولار” ضد دعم عبدالناصر لثورة 26 سبتمبر 1962م، وتصويرهم أن حرب عبدالناصر في اليمن هي من أهم أسباب هزيمة حزيران 1967م!! ومن أنها حرب جمال عبدالناصر في اليمن(6). حتى قول بعض الإسلامويين إنها هزيمة بأمر من الله، أو لمخالفة نظام عبدالناصر للدين الإسلامي!!

إن النص الذي تم إيراده على طوله للأستاذ هيكل، بقدر ما يشير إلى جدلية ووحدة الوطني والقومي في قلب الصراع في حركة التحرر الوطني العربي، في مواجهة الاستبداد التاريخي، وضد الرجعية والقوى الاستعمارية، فإنه بالمقابل يشير ضمناً إلى خلل أو ضعف حادث في البنية السياسية والذاتية اليمنية الجمهورية، قياساً إلى حجم التحديات الداخلية، والأهم التدخلات الخارجية.

فقد أعدت نفسها واستعدت الجبهة الاستعمارية البريطانية في جنوب اليمن المحتل لمواجهة ثورة 26 سبتمبر 1962م، مباشرة، وعن طريق أعوانها من السلاطين والمشايخ والقوى الرجعية ضد ثورة سبتمبر، وبالتنسيق والتكامل السياسي والعسكري مع السعودية.

الاستعمار البريطاني أدرك مبكراً بفكره السياسي الاستراتيجي الاستعماري، أن أول مسمار سيدق في نعش نهاية احتلال الجنوب اليمني سيأتي من شمال اليمن، وهو ما أشارت إليه كذلك الوثيقة المبكرة لحركة القوميين العرب اليمنية تحت عنوان: “اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية” 1959م، وهو كذلك ما أشارت إليه ضمناً أدبيات الحركة السياسية الوطنية اليمنية المعاصرة، وقبلهم جميعاً بيان/بيانات رابطة الطلبة اليمنيين في القاهرة يوليو 1956م، الذين أشاروا مؤكّدين لأول مرة على “اليمن الطبيعية” وعلى وحدة النضال الوطني اليمني، والوحدة اليمنية الطبيعية.

وأيديولوجية “تنظيم الضباط الأحرار” في شمال البلاد، ديسمبر 1961م، هي التتويج السياسي والعسكري الثوري لذلك الخطاب.

إنها جدلية الوطني والقومي التحرري العربي في قلب الثورة اليمنية، ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م.

ولذلك اشتركت الطائرات البريطانية في ضرب وقصف ثورة 26 سبتمبر 1962م بمثل ما اشتركت الطائرات السعودية والأردنية.

وحول التدخل البريطاني ضد ثورة 26 سبتمبر 1962م، يشير إدجار أوبالانس إلى أنه في 22 يونيو 1963م، “ضلت فصيلة عسكرية بريطانية طريقها إلى داخل اليمن”!!(7). وهو دليل على التدخل العسكري الجوي والبري البريطاني.

إنها جدلية الوطني اليمني بين الشمال والجنوب، كما هي جدلية الوطني والقومي العربي التحرري مع ثورة 23 يوليو 1952م ضد التدخل الرجعي العربي والاستعماري.

يشير الأستاذ/ أحمد علي مسعد، سكرتير وفد مفاوضات الجبهة القومية إلى مؤتمر جنيف حول استقلال جنوب اليمن، في مذكراته قائلاً:

“قرأت لأحد الحكام الإنجليز الذي كان وراء عملية الانضمام للاتحاد – يقصد الاتحاد الفيدرالي (الباحث) – ما كتبه بعد اعتزاله عن العمل عن حدث ثورة 26 سبتمبر التالي:

“إذا كانت ثورة 26 سبتمبر تقدمت يوماً واحداً أو تأخر إعلان الاتحاد يوماً، لما انضمت عدن إلى حكومة الاتحاد”(8).

كنت طفلاً في الحادية عشرة، متفرجاً على الحشود الجماهيرية والشعبية الضخمة، وكان الإخوة الأكبر سناً منا مشاركين في تظاهرة 24 سبتمبر 1962م، إلى المجلس التشريعي ضد الاتحاد الفيدرالي الذي ضُمّت فيه عدن إلى حكومة الاتحاد. وهو ما يقصده الأستاذ/ أحمد علي مسعد، حول تقدم ثورة 26 سبتمبر 1962م يوماً، أو تأخر الإعلان عن الاتحاد الفيدرالي يوماً.

لقد أدركت واستوعبت القوى الاستعمارية في حينه دون قصد أيديولوجي سياسي منهجي، جدل الوطني اليمني في قلب الثورة اليمنية، حتى قبل قيام ثورة 14 أكتوبر 1963م. ولم يفهمها ويستوعبها البعض اليوم ضمن الجدل السياسي العقيم للمناكفات السياسية الصراعية السطحية العابرة التي نشهدها اليوم في بعض ما يكتب.

وحول هذا المعنى، جدل الوطني اليمني والاستعمار البريطاني، يكتب د. محمد عمر الحبشي التالي:

“إن ثورة 26 سبتمبر تعني بالنسبة لأمراء اليمن الجنوبي، وللإقطاعية العربية بصورة عامة، نهاية لدولتهم (…) كما أن بريطانيا والولايات المتحدة تخشى أن تمتد آثارها إلى امتيازاتهم ومصالحهم البترولية”(9).

ثورة 26 سبتمبر 1962م هي من فكت الحصار من البر على ثورة أبناء الجنوب اليمني، وجعلت من الشمال نقطة انطلاق تأسيس جبهتهم المسلحة لتحرير الجنوب.

تشكيل وتأسيس “الجبهة القومية” في صنعاء بـ “دار السعادة” في 24 أغسطس 1963م، وسبتمبر الثورة، هي من جعلت من الحصار البحري البريطاني للثورة في الجنوب بلا معنى بعد فتح الحصار البري.

بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م التي شكلت مع ثورة 23 يوليو 1952م، والوجود المصري العسكري والسياسي في شمال اليمن، قوة دعم وإسناد حقيقية للثورة التحررية في جنوب اليمن. لأن الثورة مصدرها الأرض وليس السماء والبحر. لقد تم اختراق التفوق البحري والجوي البريطاني، بوحدة الديمغرافيا اليمنية، ووحدة الأرض الكفاحية اليمنية.

كانت الإمامة الحميدية المتوكلية والاستعمار البريطاني معوقين أساسيين لقيام الثورة التحررية في جنوب اليمن.

الشيء الأكيد هو أن الإمامة الحميدية لم ولن تسمح بقيام نضال ثوري مسلح ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن انطلاقاً من يمن الإمامة ومدعوماً منها، بل هي أصلاً وقبل قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، أي في عام 1961م، حجزت صفقة أسلحة من جمال عبدالناصر، ولم تسمح بها للمقاومة المسلحة الجنوبية بقيادة محمد عبده نعمان والعديد من الرموز القيادية الوطنية الجنوبية تحت مسمى “هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل”، وبقيت الأسلحة محجوزة في ميناء الحديدة حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وهو ما أشار إليه الباحث العراقي إبراهيم خلف العبيدي في رسالته للدكتوراه(10).

وحول ذلك يكتب د. فتحي عبدالفتاح:

“إن الحكم الإقطاعي المتخلف في الشمال لم يكن ليساهم أو ليرتاح لنضال مسلح تقوده جماهير الجنوب”(11).

إنها الحقيقة السياسية التاريخية الجدلية للعلاقة بين الإمامة الحميدية المتوكلية والاستعمار. ذلك أن الأفق الأيديولوجي والسياسي التاريخي للإمامة لا يمكنه أن يفهم ويستوعب معنى جدل العلاقة بين الوطني/اليمني الخلاق في ذلك الحين، ناهيك عن فهمه لجدل العلاقة بين الوطني اليمني والقومي التحرري العربي. ومفهومه لمعنى الوطن والوحدة الوطنية واليمنية لا يتجاوز حدود سلطته ضمن منطق أيديولوجية “الحق الإلهي”، بالغلبة/ بالقوة والحرب، أي “الضم والإلحاق”، أي الوحدة العسكرية أو التوحيد بالحرب على الخلفية الطائفية/الدينية: نموذجها أيديولوجية “التكفير بالتأويل” و”بالإلزام” الإمامية.

ومن هنا قولنا: إن الأبواب أمام تحرير الجنوب اليمني المحتل كانت موصدة من البر بالإمامة، ومن البحر بالاستعمار، وهو ما أشارت إليه بوضوح تحليلي نقدي وثيقة حركة القوميين العرب اليمنية “اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية”، في صورة الصياغة التالية:

“فوجود الاستعمار في جنوب اليمن إنما يملي على المملكة اليمنية التزامات وواجبات واضحة تجاه معركة الحرية التي يخوضها الشعب في جنوب اليمن. وأن بقاء الانعزال مسيطراً في المملكة اليمنية إنما يؤدي إلى ترك الشعب العربي في الجنوب يواجه وحيداً جيوش الاستعمار الإنجليزي في معركة غير متكافئة (…) إن انحصار اليمن المحتل ما بين البحر جنوباً، ومملكة اليمن شمالاً يجعل من الصعب قيام أي ثورة مسلحة تنتهي بالنصر الأكيد إذا لم تجد متنفساً وسنداً لها في الشمال يتيح نوعاً من المرونة العسكرية والتقدم والتقهقر والتموين”(12).

نحن أمام وعي وفكر جديدين صعدا وتحولا في الواقع إلى ممارسة نظرية وسياسية عملية ولو بالتدريج.. وعي وفكر جديدين تجاوزا رؤية “الجمعية العدنية” الانعزالية، وفكر “رابطة أبناء الجنوب العربي” بمثل ما تم تجاوز رؤية وخطاب “حركة الأحرار اليمنيين” في شمال البلاد، التي لم تتمكن من الخروج من دائرة “ولاية العهد” ومن دائرة الأيديولوجية الدينية في الوعظ والنصح والإرشاد إلا في حدود سياسية بسيطة، وهو ما أشار إليه د. أبوبكر السقاف حين كتب قائلاً: إنه

“ما كان للممارسة الفكرية للأحرار اليمنيين أن تجري خارج الأيديولوجية الدينية، وهي التي جعلت دعايتهم تعتمد على الوعظ الديني وتحديث الأفكار الدينية أو تطعيمها بعناصر واهية من الأفكار الليبرالية العربية.. فبقيت الممارسة الفكرية داخل بنية الفكر الديني عامة، ولم تخرج إلى رحاب الفكر العلمي أو العلماني لتقيم عليه ممارسة فكرية جديدة”(13).

ولذلك بقي فكر “الأحرار” يدور حول فكرة “ولاية العهد” والإمامة الدستورية التي تجاوزها الفكر السياسي اليمني المعاصر في حينه، منطلقاً إلى رحاب الثورة والجمهورية ووحدة النضال السياسي الوطني في الشمال “المستقل” والجنوب “المحتل” ضد الاستعمار، كما بدأنا نسمع بشائرها مع المفكر الشهيد محمد أحمد نعمان وشباب الأحرار: محسن العيني، علي محمد عبده، صالح الدحان، وقبلهم محمد عبدالله الفسيل… إلخ.

الهوامش

1- محمود عادل أحمد: ذكريات حرب اليمن، ط، 1992م، مطبعة الإخوة، ص 353.

2- د. أبوبكر السقاف: الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي، ط(2)، 2020م، صنعاء، ص 32.

3- د. أبوبكر السقاف: نفس المصدر، ص 39.

4- نشرت صحيفة الأهالي المصرية ترجمة لمقال عن صحيفة هآرتس الإسرائيلية يحتوي جملة من الحقائق والوقائع عن التدخل الإسرائيلي العسكري في الحرب على ثورة 26 سبتمبر 1962م، والمقال ترجمة أحمد بلال، نشر ضمن ملف خاص حول الموضوع بتاريخ 25/7/2007م، تحت عنوان “هكذا تدخلت إسرائيل في الحرب الأهلية في اليمن”. ومما جاء فيه – أو أهمه – حسب ما ذكرت الصحيفة الإسرائيلية هآرتس:

“أن إسرائيل قامت بـ(13) طلعة طيران لطائرات النقل الإسرائيلية التي أنزلت بالبراشوت تجهيزات وتزويدات عسكرية للمقاتلين الملكيين في الجبال، وعلى حد قول الصحيفة: أن الجيش المصري نجح في قطع خطوط التعزيزات والتزويدات للملكيين، الذين وقفوا على حافة السقوط وفقدان الأمل في المساعدة، وفي ربيع وصيف 1964م، ازداد وضع المقاتلين الملكيين سوءاً. وتقول هآرتس إن السعوديين أخرجوا مساعدات إلا أن الجيش المصري نجح في منعها مرات عديدة، وأيضاً سلاح الجو الملكي البريطاني حاول المساعدة مرة أو مرتين إلا أن ذلك لم يفِ بالغرض. وعرض رجال المخابرات البريطانية على الملكيين عمل اتفاق مبدئي يقضي بقبول مساعدة من إسرائيل. وتقول هآرتس إن هذا التعاون لم يكن بالأمر الهين، وتم تكليف رجل المخابرات البريطاني “ديفيد سميلي” بإبلاغ إسرائيل موافقة الملكيين في اليمن على قبول المساعدات (…) كانت الطائرات تطير على الشاطئ السعودي، وبعد إفراغ شحنتها في اليمن كانت تتوجه إلى جيبوتي للتزود بالوقود من هناك (…) وأن الموساد زرع عدداً من العملاء الصهاينة في اليمن كان منهم (باروخ مرزاحي) الذي اعتقل في اليمن عام 1967م، وسجن في مصر، وأطلق سراحه عقب حرب أكتوبر في عملية تبادل أسرى”.

نقلاً عن صحيفة الثوري / صنعاء، بتاريخ 2/7/2007م، العدد (1970).

وأشار محمد حسنين هيكل في خريف الغضب قائلاً: “وحينما اتسعت حرب اليمن زاد تدخل الأطراف فيها، من السعودية، إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وحتى إسرائيل”، ص 88، ط(13) 1986م، الناشر شركة المطبوعات للتوزيع والنشر / بيروت.

وأنظر رسالة ماجستير قدّمها طارق عبدالله ثابت الحروي، جاء فيها: “أن إسرائيل قامت بالتنسيق مع دول بإرسال مستشارين عسكريين وأسلحة ومعدات عسكرية ضخمة لدعم الملكيين…”.

أنظر حول ذلك: قادري أحمد حيدر: الأحزاب القومية في اليمن..، ط(2)، 2013م، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ص 228-229، هامش تحت إشارة نجمتين **، نفس الصفحات، وهناك معلومات إضافية.

5- د. محمد علي الشهاري: ثورة 23 يوليو والثورة اليمنية، مجلة الكاتب المصرية، السنة الرابعة عشرة، يوليو 1974م، العدد (160)، ص 92، نقلاً عن محمد حسنين هيكل، صحيفة الأهرام، 22/12/1972م.

6- يكتب الفريق صلاح الدين الحديدي: (شاهد على حرب اليمن)، مكتبة مدبولي، ط(1)، 1984م: التالي حول هذا الموضوع:

“في غالب ظني أنه لولا الحملة المصرية على اليمن ما كانت الحملة الإسرائيلية على مصر في عام 1967م، ثم يستمر في القول: فإذا ما أردنا اليوم أن نحصي ما كلفتنا إياه الحملة العسكرية في اليمن فإن هذا الإحصاء لا ينبغي أن يقتصر على النفقات المالية وحدها، رغم أهميتها الفائقة، بل يجب أيضاً أن يتضمن النتائج التي ترتبت عليها، وعلى رأس هذه النتائج هزيمة عام 1967م”.

أنظر صلاح الدين الحديدي: المصدر السابق، ص 152-153.

مع أن الفريق صلاح الدين الحديدي في الكتاب ذاته يشير إلى أن الأطماع التوسعية الإسرائيلية ما كانت لتتوقف، وكأنه وغيره في الفترة الساداتية وجدوا في حرب اليمن الشمّاعة التي يعلقون عليها الأسباب السياسية الداخلية التي ظهرت جلياً بعد الهزيمة في صورة محاسبة وسجن القيادات السياسية العليا في الدولة وفي الجيش والأمن والمخابرات، فضلاً عن إشاراته إلى دور المشير عبدالحكيم عامر وجماعته في الفساد السياسي والمالي في حرب اليمن وفي مصر، وفي التجارة بالحرب في اليمن، وفي الفساد المالي في القيادة العليا للقوات المسلحة التي كانت تصرف المال دون رقيب. لقد سادت حالة من النقمة الأيديولوجية السياسية في المرحلة الساداتية حاولت أن تحمل عبدالناصر كل المسؤولية وتحديداً قراره القومي في مساندة حرب اليمن، مع أن السادات كان هو من يمسك سياسياً بملف حرب اليمن!!

ولذلك رأت بعض الكتابات المعادية لثورة 26 سبتمبر 1962م أن ثورة 26 سبتمبر 1962م هي ثورة مصر في اليمن، “ومن أن عبدالناصر هو الذي خطط وأعد المسرح من أجل وقوع عملية الانقلاب اليمنية في 26 سبتمبر 1962م”.

أنظر د. محمد سعيد باديب: الصراع السعودي المصري حول اليمن الشمالي (1962م-1970م)، دار الساقي، مركز الدراسات الإيرانية والعربية، ط(1)، 1990م، ص 97.

7- إدجار أوبالانس: الحرب في اليمن: دراسة في الثورة والحرب حتى عام 1970م، ترجمة د. عبدالخالق محمد لاشين، الدوحة، ط، 1985م، ص 162.

8- أحمد علي مسعد: فصول من ذاكرة الثورة والاستقلال، شهادتي للتاريخ، عدن / نوفمبر 1990م، إصدار وزارة التربية والتعليم، مطابع الكتاب المدرسي، ص 26.

9- د. محمد عمر الحبشي: اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً منذ 1937م حتى قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، رسالة دكتوراه، ط(1)، 1969م، ص 148-149.

10- إبراهيم خلف العبيدي: الحركة الوطنية في الجنوب اليمني 1945-1967م، ساعدت جامعة بغداد على نشره، شباط / فبراير 1979م، حول دور وقيادة محمد عبده نعمان، والمعلومة عنها تمت من خلال مقابلة شخصية مع محمد عبده نعمان بتاريخ 12/6/1977م، وحول منع الإمام أحمد دخول الأسلحة ثابتة في الكتاب ص 338-339.

11- د. فتحي عبدالفتاح: تجربة الثورة في اليمن الديمقراطية، دار ابن خلدون، ص 50.

12- د. محمد جمال باروت: حركة القوميين العرب، النشأة – التطور – المصائر، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية بإشراف الرئيس علي ناصر محمد، ط(1)، 1997م، التوزيع دار المدى للثقافة والنشر / دمشق، ص 534-535.

13- د. أبوبكر السقاف: مصدر سابق، ص 20.

اقرأ أيضاصنعاء تشهد مهرجاناً شبابياً كشفياً لإيقاد شعلة العيد الـ 63 لثورة 26 سبتمبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى