قابلية الإنحدار
(1) عويل الهاوية
سلاما بعد غياب، وحمدا للإياب، واعتذارا من الأحباب، وإن كان ثمة سبب من الأسباب فلأني سقطت مريضا وعانيت اوجاعا، ومضت ايام بين الفحوصات والكشوفات، والتردد على العيادات والمستشفيات، حتى أني لم أعد قادرا على متابعة الكتابة الا في رد على جواب، أو رد على تحية وسلام.
وإلى جانب المرض الجسدي اعتورني الم نفسي زاد من ضرام الوجع الجسدي، وسكب عليه وقودا حارا. فكان كلما التجأت الى “الفيس بوك” وإلى المحطات المختلفة، وإلى الصحف المتعددة، علِّي اجد فيه ما يريح النفس الحزينة، ويعين على تقوية الجسد المنهك، واذا بي أجد فيه سما ناقعا، وداءا سائلا.
ثمة بضعة اقلام لبضعة كتاب يعالجون المأساة برصانة علمية موضوعية، لكن صداها يضيع وسط دوي تناحر الكلمات، وانفجار العبارات، فتفرق ذوي القربى، وتقطع وشائج الأخوة، وتمزق وحدة الأمة، فتفعل في النفس اكثر ما تغعل انفجارات القنابل المغيرة، وأصوات المدافع العدوانية. بل يمكن القول بكل اسف مرير بأنها صواعق داخلية تواكب الصواريخ الخارجية وتعمل في نفس الاتجاه. كأن لم يكن هناك روابط اخوة تجمع، ولا تاريخ مشترك يوحد، ولا مسيرا ومصيرا يقود. لم أجد في وسائل أعلام المثقفين على كثرتها من عالج المأساة المحتدمة، بصدق وموضوعية ولم أجد من حاول وضع دليل خروج منها. كما لم أجد من كتب عن “أنصار الله” مالهم وما عليهم بروح موضوعية علمية منصفة، ولم أجد كذلك من يكتب عن “حزب الإصلاح” مالهم وما عليهم بروح موضوعية علمية منصفة، كما لم أجد أيضا من يكتب عن “حزب المؤتمر الشعبي” بروح موضوعية علمية منصفو، وانما هو السباب والشتائم والحقد المذهبي، والسعار المنطقي، والشماتة الملتهبة. والضغائن الشخصية في اسلوب يعكس بدقة عويل الهاوية ونواح الخراب.
كان مرضي- من ناحية أخرى- مزيجا من عسر يصدق فيه قول الله سبحانه وتعالى {إن مع العسر يسرا} واذا كان هذا المرض عسرا، فهذا الإخلاد القسري فرصة سانحة للتفكير في المأساة المروعة الحاضرة، على امتداد عموم عالمنا العربي (ويمكن الإسلامي فلست به خبيرا) حيث تجثم بكامل ثقلها المدمر.
منذ وقت كان الجو الخادع-وأجوائنا كلها خداع- تشيع مناخا أملا، يوحي بالخروج من التمذهب والمناطقية، واذا بهذه الحرب العدوانية الشرسة تكشف النقاب عن حقيقة ثقافتنا المتمكنة الجذور: القبلية الحزبية، المذهبية، المناطقية، وقليلا قليلا ما نجد “المثقف الوطني” واذا بنا نغوص ونغوص في مستنقع الإختلاف والتخلف. لم يعمد المثقف لتحليل هذه الفجائع، ولم يفتش عن الجرثومة الخبيثة التي تشدنا إلى الهاوية، إلى سواء الحجيم؟ ولم يعمد إلى كشف الأسباب، ووضع الحلول ليقدم رؤية تسهم في الإلتحام الوطني، والخروج من الهاوية؟
بانعدام هذه البحوث يتأكد بصفة قاطعة أننا مازلنا نوالي السقوط في هاوية بعيدة المهوى، وأن هذا السقوط السريع والمريع يفصح بلسان مبين أننا نحمل ثقل أسبابه وقوة جاذبيته. وليس من شك أن أسبابا خارجية ترفد أسباب هذا السقوط السريع والمريع، ولكن القابلية للإنحدار في أعماقنا هي السبب الأول في تعاسة هذا السقوط.
من الأدلة على قابلية الانحدار أن كثيرين من مثقفي السلطة وهم كثيرون لم يعملوا على وقف الانحدار المروع، بدراسته واستقراء نتائجه، بل تكيفوا معه، فملوءا خزّاتاتهم بالحزبية الضيقة، والمذهبية الحاقدة والمناطقية المتفجرة، فاندفعوا يزيدون في سرعة الانحدار وسرعة دوار العاصفة.
من المعلوم أن التسلط السياسي قد تمكن من إعادة خلق نفسه من رفات أنظمته التاريخية الفردية مع اصباغ شكلية باهتة من تسميات جمهورية وديموقراطية ومدنية، واعتمدت في هذا الخلق المشوة على فقه التسلط السياسي الذي ما يزال يعمل بقوة على الحفاظ على دوره التسلطي، و إخماد دور الفكر الخلاق والمبدع، ولن ينكر أحد أن وراء هذا الصنيع الشنيع “مدارس فقهية” متجمدة، ولكنها فاعلة وفعالة في مواجهة التطور العقلاني الحضاري، ونحن نعرف أن “فقه المعاملات” لا يستطيع أن يبني حضارة، لأنه بطبيعته منحصر في تنظيم علاقة الزواج والورث والبيع والشراء الخ فهو اقرب إلى علم الاجتماع، ولكنه يصلح أن يكون ارضية تقوم عليها حضارة، لكنه لا يستطيع أن يبني حضارة، اما “الفقه السياسي” فقد أثبت قدرته على تحطيم الحضارة الإسلامية بعد أن عاداها زمنا حينا، وقتل وصلب مفكريها طورا، واحرق كتبها أحيانا، واودع رجالها السجون والمعتقلات في كل حين؛ في وقت اتاح فيه “للفقه السياسي” أن يدمر الفكر، ويُجرِّمه ويُحرِّمه، ويُكفر أصحابه، ومن الثابت ان الحضارة الإسلامية لم تنشأ في حضن قصور الخلافة الفردية، وانما نشئت في حقل علم الكلام والعلوم التطبيقية، ونظريات الكمون والطفرة، والاكتشافات الجغرافية وعلوم النجوم وعلم الصحة وعلم الصور والمسافات والأبعاد الخ. ومن الثابت ان “علم الفقه” لا يستطيع أن يصنع إبرة أو يشفي مريضا، او يكتشف نجما او يقيس ارضا.
وكما اعاد التسلط السياسي خلق نفسه من رفاته كذلك اعاد علماء السلطة خلق مثقف السلطة، مزودا بالمال والعتاد، ومعن ذلك بفصيح العبارة أنه مالم يخلع المثقف تسلطه المتمثل في مذهبية او حزبية او مناطقية وينظر إلى المأساة اليمنية نظرة علمية موضوعية صريحة باحثة منقبة فإن الهاوية متربصة للمزيد من السقوط في الهاوية. وكما كان عالم التسلط في الماضي يعبر عن نواح الخراب، فإن مثقف التسلط السياسي والمذهبي يعبر عن عويل الهاوية.
إن مثقف التسلط بكل انواعه لن يكون نشيدا للقمم العالية مالم يتحول الى نشيد الوطن كله، والا فان الاستمرار في السقوط أمر محتوم.
يتبع ..