صنع في اليمن الحلقة الثانية
للإتحاديين
صنع في اليمن
(2)
الغرس والثمر
عندما ينضج الشجر وتتبدى ثماره، فإنه يكون قد مر بتفاعلات كثيرة ومراحل مختلفة. هكذا كان شأن “اتحاد القوى الشعبية” حيث مر بمراحل التخلق كما يتخلق الوليد في رحم أمه: نُطفة، فعلقة،ً فمُضْغَةً، فعِظَماً، فلحماً، فنضالاً، فتكاملاً.
لم يبزع نضال “اتحاد القوى الشعبية” عقب “الثورة الدستورية” مباشرة، وبدون مقدمات، وبدون أن يكون قد تخلق قبل السقوط، وإنما كانت تلك هي فترة الظهور بعد ان مر بالمراحل الأربع، أما عهد التخلق والنمو فقد كان قبل “الثورة الدستورية” و في داخل البيت نفسه نمت الفكرة وترسخت.
كان والدي قد حمل راية التصحيح منذ وقت مبكر، أي منذ عام 1342ه/23-1924م وكانت خلاصة فكره أن انحرافا في النظرية السياسة الزيدية قد حدثت، وكانت ولاية العهد والوراثة أبلغ دليل على هذا الإنجراف فقاومهما بوضوح وباخلاص، وطالب الإمام يحيى بأن يعيد للإمامة الزيدية نقائها وصفائها، ولما لم يضع اليه الإمام وبعد نصح مستمر رأى والدي الخروج عليى الإمام واذا تعذر قيام بديل عنها فمنصوب الخمسة أو جمهورية اسلامية. وفي الوقت نفسه وبالرغم من اقراره فساد النظام فقد كان يرفض فكرة الإغتيال ويطالب بـ “الخروج الزيدي” المعروف. أي مايسمى اليوم بـ “الثورة الشعبية”
والى جانب ثقافته الزيريدية الخروجية كان قد تاثر بالألية الديمقراطية عبر أول “راديو” دخل “اليمن” اشتراه عام 1356ه/1937م ومنه اتصل بالعالم وسمع اصواته، وتأثر بنضال الحاح “أمين الحسيني” و ” وكفاح “عبد الكريم الخطابي” وكل “حركات التحرير الوطني” ، وعندما كان الوالد ينشغل بأعماله كان يكلف “إبراهيم” بالاستماع إلى نشرات الأخبار والتعليقات السياسية لينقلها إليه فيما بعد، فإذا به من خلالها يطل على عالم جديد، يتأثر به وينفعل معه، ويصغي إلى تلك الإخبار الهادرة من راديو “لندن” و”برلين” و”القاهرة”..
وإلى جانب ذلك كانت بعض الجرائد والمجلات “المصرية” و “الفلسطينية” تصل إلى الوالد على دفعات، ومنها تعرف على ما يجري من نشاط سياسي، وعن دستور، وبرلمان، ووزارات مختلفة، واستقالات، واستدعاء الحكومة للحضور أمام مجلس النواب لمحاسبتها، وهو ماليس له به عهد، فيرى فيها ألوانا من الثقافة السياسية جديدة. ومن خلال هذين المنفذين كان على علم بما يجري من حوله من جبروت “الأوربيين” ومكائد “الصهيونين”.
في هذ البيت والمناخ الذي يصح فيه القول بأنه أول بيت مُعارض ينشد ال تصحيح بالطرق السلمية تساقطت على اذن أخوي “عباس” و “ابراهيم” كلمات “الدستور” و “الانتخاب” و “التغيير” و “الثورة” و “الجمهورية” فرفدت فهما تاريخيا متميزا يطالب بـ “الخروج” على الظلم، والعودة الى “الانتخاب” ومحاربة “الوراثة” و “التوريث” ، وفي الإمكان الجزم بأن الأخوين “عباس” و “ابراهيم”- اللذين سيصبحان مؤسسا “اتحاد القوى الشعبية” قد تأثرا ألى حد بعيد بأراء ابيهما الإصلاحية، وجهده الدؤوب في محاولات اقناع الإمام “يحيى” باصلاح نظام “الإمامة الزيدي” القائم اصلا على “الانتخاب” و “الشورى” و “الخروج على الظالم” الخ وكان ذلك قبل أن يخرج “الزبيري” و “نعمان” من “اليمن” إلى “القاهرة” بأعوام طوال. وكان أخي “عبد الله” اسبق من ابي في معارضته لحكم الإمام اذ نفخ فيه عمي محمد رياح التغيير من طفولته.
وإلى جانب الثقافة الإسلامية القديمة والحديثة حوت المكتبة أيضا قصصا غربية عن “الثورة الفرنسية” بوجه الخصوص، تتحدث عن ثورتها الكبرى، ودعوتها إلى الحرية والمساواة والعدل، فكان يتفاعل مع الثوار وهم يدكون أسوار “الباستيل” الرهيب، ويعجب بشجاعتهم وهم معلقون على أعواد المشانق، وكان لقصص “إسكندر دوماس الكبير” وغيره أثر واضح.
وباعتبار “ابراهيم مؤسس هذه المقاومة- قد تأثر بروافد مختلفة من الثقافة، تصب كلها في مسار ثوري واحد، وتمدانه بفيض من الحيوية والحماسة، والمغامرة. فهو قد تأثر بثقافة الفكر الإسلامي الثوري، الذي حمله “أهل البيت” عبر العصور،بدون ملل، رغم المصارع المتوالية، والدماء المراقة، والتضجيات المستمرة، لقد كانت فكرة الخروج على الظلمة هي زاد التقوى في سبيل تحقيق العدالة والمساواة، وكان لجده القريب وتجربته أثر مباشر نبع من محيطه الخاص، ، فكانت مؤلفات جده الإمام “محمد بن عبد الله الوزير” وتاريخه و نضاله ضد الإقطاع ومظالم” المتغلبين” وتقواه وزهده، وتجاربه المريرة، أثر بالغ في تكوينه النضالي .
وإلى جانب القديم تأثر بالفكر الثائر الحديث، كما تأثر به أبوه من قبله وكان لكتاب “طبائع الأستبداد و مصارع الاستعباد” لـ “عبد الرحمن لكواكبي” تاثيراً خاصاُ. وكان للتيار الإصلاحي على يد موقظ الشرق “جمال الدين الإفغاني” وتلميذه “محمد عبده”، أثره ايضاً، فقد طالع-طما طالع ابوه من قبل- مؤلفات الرواد من أمثال الإمام “محمد عبده” و “عبد الرحمن الكواكبي” و “محمد فريد وجدي” و “رشيد رضا” و “طنطاوي جوهري” وتفسيره العغديب الذي حوى علوم الغرب في وقته.
فاض هذا المد الثوري حتى شملنا نحن الصغار وأذكر ان أهتي أمة الخالق كانت كاخويها قد ايتوعبت الثقافتين فقرأن لنا قصة عن الثورة الفرنسية جرى في خلاله حوار بين جندي ملكي، و مقاوم ثوري، وكلٌ منهما في متراسه، ومن بين الظلام الدامس ارتفع صوت الملكي: من هناك؟، فرد عليه الثوري: هنا الجمهورية. وقد تأثرت وانفعلت بهذا منذ صغري حتى الأن. كما كان بيت شعر الشاعر الكبير “حافظ إبراهيم” أغنية نرددها باستمرار
كنت عبد الحميد بالامس فردا وغدى اليوم الف عبد الحميد
حتى أن أخي “إبراهيم هتف به أمام ابنة الامام السيدو “تقية”-زوجة اخي عبد الله” وقلت لها بسبب تحد من احد أقاربها “أن الامام خرف “، فغضبت وكتبت رسالة الى والدنا تشكو بنا، وأنها لم تعد تسمع في هذا البيت الا الكلمات المعادية للإما،م ولكن اخي “ابراهيم” اعتذر منها وسل غضبها عنها فقبلت بتمزيق الرسالة، ونجونا ولاشك.
تلك هي روافد “إبراهيم” الفكرية والسياسية، مؤسس “إتحاد القوى الشعبية: والتي استقينا منها نحن كلٌ على حسب مداركه وقدراته على استيعاب ماحوله.
وعندما سقطت “الثورة الدستورية” واعتقل كبار الأسرة كان مؤهلا مزودا لحمل المسؤلية، فالتقط “إبراهيم” “لواء الدستور” وحمله عالياُ، وناضل تحت ظلاله، حتى سقط أخيراً، لم يمل ولم يكل، وبفضله بقي “لواء الدستور” عايات لم يسقط بفضل ما أرسى من بناء صامد.