ثورة فبرائر المغدروة .. الروح التي خرجت على البندقية
في العقد الأخير من القرن العشرين اعتقد الحكام العرب (جلهم) أن الأمر قد استتب لهم وإلى الأبد؛ فبدأ التفكير لدى هذه العوائل الجمهورية، أو كتسمية الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل “الأنظمة الجملكية”، بالتوريث؛ فهي ترى أنها الأقدر والأولى به من العوائل الملكية؛ فهي مسنودة بسند وتأييد شعبي قل نظيره؛ بدليل انتخابها وإعادة انتخابها ولو تكررت دورات انتخابات عشرات المرات لما انتخب غيرها، فقد وصل اعتقادها في التأييد حد التأبيد؛ فهي تجمع بين الشرعيتين: الثورية والديمقراطية.
بدأ التفكير في نقل الملكية إلى الأولاد: حسني مبارك يقدم جمال، والقذافي يقدم سيف الإسلام، وحافظ حسم أموره قبلاً بتسليم مفاتيح المملكة لبشار، وصدام متأرجح بين عدي وقصي، وعلي عبد الله صالح يعد بترشيح أحمد علي، ويعدّه للخلافة. ربما كان ابن علي الوحيد الذي يراهن على العائلة ككل بما في ذلك عائلة الزوجة النافذة.
بغتة أشعل البوعزيزي الذي واجه إهانة الشرطة البلدية النار في جسده؛ فاشتعلت تونس كلها، وامتد الحريق إلى مصر، ومنها إلى ليبيا وسوريا واليمن والبحرين: “فَرُبَّ شرارة أشعلت السهل كله”، كحكمة الزعيم الصيني ماوتسي.
في اليمن، بدأ الاحتجاج المدني السلمي في حضرموت في العام 1995 عندما حاول صالح عقب حرب 1994 ضداً على الجنوب تقسيم محافظة حضرموت. عجز صالح عن فرض التقسيم بسبب مظاهرات الحضارم العارمة ضداً على التقسيم، وعجز جيشه الخارج من رحم القبيلة بقيادة عائلية حسم الحرب الجائرة على صعدة.
في العام 2007، بدأت الاحتجاجات في الجنوب بمطالب حقوقية ومدنية سرعان ما تحولت إلى هبة شعبية عارمة بمطالب سياسية (فك الارتباط). حينها كانت أحزاب “اللقاء المشترك” بزعامة “الإصلاح” تتساوم مع صالح على تشريك في الحكم، وتحقيق مطالب إصلاحية محدودة الأثر، ولكن صالح الذي كان طالباً تجديد مدة انتخابه القادم (قلع العداد) بمعنى أنه أَبَّدَ لنفسه ولورثته حكم البلاد.
في اليمن كانت قيادات “المشترك”: “الإصلاح” و”الاشتراكي” و”الوحدوي الناصري” و”البعث”- جناح سوريا، و”حزب الحق”، يخوضون غمار المساومة مع صالح، بينما كان الشعب وقواعدهم الشعبية متحفزون للتغيير ولدعوات الاحتجاج، رافضين التوريث والفساد والاستبداد والمساومات اللامبدئية من قبل أحزابهم. وجرى التلاعب في صفقات السلاح، وفي بيع الثروات النفطية والغازية، وفي ترسيم الحدود، وفي التضييق على الحريات العامة والديمقراطية، وفي نشر الإرهاب والحروب الداخلية بين القبائل والمناطق، ووصلت الأزمة العامة الذروة، وامتد الصراع إلى داخل السلطة من حول التوريث بين صالح وعلي محسن المدعوم من أولاد الأحمر و”الإصلاح”، وكانت حروب صعدة ميداناً من ميادين هذا الصراع. وفي حين كان الحراك الجنوبي يصعد الاحتجاجات في العديد من مناطق الجنوب، كان الصحفيون والمحامون ومنظمات المجتمع المدني تقوم بالاعتصامات والمظاهرات دفاعاً عن الحريات الصحفية. فخلال بضعة أعوام أقدمت السلطة على سن أكثر من تشريع يحد من الهامش الديمقراطي و يزيد من المواد القامعة والمعادية للحريات الصحفية، كما جرى قمع الصحافة الحزبية والأهلية المستقلة ونكل بهم.
خلال عدة عقود لم تستطع السلطة سن قانون ينظم حمل السلاح، بينما قدمت أكثر من مشروع لتقييد الصحافة والطباعة والنشر.
في اليمن الموحدة بحرب 1994 المعمدة بالدم لم تكن البداية واحدة، ويمكن ترتيبها كالآتي: إنتفاضة حضرموت 2005، الحراك الجنوبي 2007، حروب صعدة الستة ابتداء من 2004. أما في مدن الشمال، وتحديداً في تعز وصنعاء، فكان التحرك تأييداً للثورتين: التونسية والمصرية. ففي صنعاء التقى عدد من شباب الأحزاب ومستقلون في مقر “التجمع الوحدوي”، وقد جرى نقاش واسع ومستفيض حول ما يجب فعله، ثم انتقل الشباب في المساء إلى منزل توكل كرمان وزوجها محمد إسماعيل النهمي وأحمد سيف حاشد وميزر الجنيد وهاني الجنيد وعارف الصبري وعز العرب وسميح الوجيه و آخرين. وهؤلاء الشباب موزعون على “الوحدوي الناصري” و”الاشتراكي” ومستقلون، ولهم صلات مع أحزاب أخرى ومستقلين.
أقر في هذا الاجتماع النزول إلى الساحة، ورفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبدأت المسيرة الأولى من نقابة الصحفيين باتجاه السفارة المصرية، وَ وُوجِهَتْ بصد جهاز الأمن وقمع البلاطجة السند الرديف للأمن في كل المواجهات اللاحقة. ولم تمض أسابيع حتى امتد حريق الاحتجاجات السلمية إلى كل مدن اليمن شمالاً وجنوباً، شرقا وغرباً. وربما لأول مرة يترافد الاحتجاج المدني بالأهلي؛ فيلتحق أبناء القبائل بالساحات في اليمن كلها متخلين عن أسلحتهم، ويواجهون الموت بصدور عارية، وهو ما أرعب السلطات التي لا تتقن ولا تعرف غير السلاح.
إنقسم الحكم على نفسه وكان مهيئاً للانقسام بسبب التوريث بين العوائل “الجملكية” الكبيرة: عائلة علي عبد الله صالح، وعائلة علي محسن الأحمر، وكلاهما من سنحان وعائلة صالح، وعائلة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وهما فخذان من حاشد. ويأخذ التنافس البعد أو الدلالة الحزبية: “المؤتمر” و”الإصلاح”. وفي اليمن تتداخل الحزبية بالقبلية بالجهوية والطوائفية، وللقبلي والجهوي حضور كبير في الصراع.
في جمعة الكرامة 18 مارس 2011 تصدت سلطات الأمن للمعتصمين في ساحة التغيير في صنعاء؛ فقتلت العديد منهم، وجرحت العشرات، وأمسك المتظاهرون بالقتلة، وبعضهم ضباط في الأمن، وجرى تسليمهم للنيابة العامة، إلا أن المدعي العام، وهو ضابط ذو ضمير حي، ومشهود له بالنزاهة والكفاءة، وهو الدكتور عبد الرحمن العلفي، استقال احتجاجاً على تسليم المتهمين المتلبسين بالجرم إلى قائد الفرقة المنشق علي محسن، وعددهم ثلاثة عشر، وجرى تهريبهم؛ فساحة التغيير نفسها كانت مسلمة من علي عبد الله صالح إلى علي محسن. ورغم الخلاف والصراع ظل التواصل والتنسيق في بعض القضايا قائماً.
إجتمع الرجلان الحاكمان، صالح ومحسن، في منزل عبد ربه منصور نائب الرئيس الشكلي، وتوافقا على الخروج من اليمن معاً، وطلبا من السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحل الذي يتوافقان عليه، واتفقا على بعض نقاطه.
قدم التعاون الخليجي المبادرة التي قبل بها صالح شبه مرغم. والمبادرة في جوهرها إعادة إنتاج الحكم بين قطبي الحكم طوال الثلاثة والثلاثين عاماً. صالح و”المؤتمر الشعبي”، وعلي محسن وأبناء الشيخ عبد الله، ومعهما أحزاب “اللقاء المشترك” بقيادة “الإصلاح”.
زحزح “الإصلاح” “المؤتمر” عن مواقعه في الإدارة، وجرى إقصاء الشباب والمرأة والمستقلين وتهميش حلفاء “الإصلاح”، وكان المعطى الوحيد من الثورة الشعبية السلمية الحوار الذي شارك فيه الشباب والمرأة بفاعلية، ولكن الحرب التي توختها المبادرة ظلت مشتعلة في غير مكان؛ مما يعني أن رهان الفرقاء في الحكم (الأخوة الأعداء) ليس الحوار وإنما الغلبة والقوة – الحالة الممتدة والقائمة!
صالح الموتور من ثورة الشباب، ومن حلفائه علي محسن و”الإصلاح” عاجز عن القيام بانقلاب عسكري رغم وجوده القوي والمستمر في الجيش والأمن، وواصل علي محسن والإصلاح سحب البساط من تحت أرجل المحروق في مسجد النهدين بعد جريمة التفجير الغامض حتى اليوم، والذي لم تكشف كل تفاصيله. وخلال سني الصراع الممتد منذ ما بعد حرب 1994 ضد الجنوب ظل الحكام في حربهم ضد الجنوب وصعدة يتربصون ببعضهم. قذف صالح منزل الأحمر بصاروخ، فرد أولاد الأحمر بتفجير مسجد النهدين، وحاول صالح اغتيال محسن في مقر الفرقة، ويتحاربون في نهم وأرحب والحيمتين وفي أماكن أخرى غير معولين على الحوار؛ لأن كل واحد منهم يعد نفسه للمواجهة العسكرية.
نسج صالح أو فتح خطوطاً مع “أنصار الله” للانقلاب القادم. اللافت أن “الإصلاح” لم يكن متحمساً لحروب صعدة، شأن علي محسن؛ لإدراكهما أن غرض صالح تدمير الفرقة في حرب صعدة، واستخدام “الإصلاح” في معركة يكون لها بعد طائفي: “سني”-“زيدي”؛ مستفيداً من حربهم ضد الجنوب، واستخدامهم كورقة ثم إحراقها، كما قال هو نفسه. ولكن خطيئتهم -أي “الإصلاح”- الإصرار على إقصاء الحوثيين، وعدم القبول بتشريكهم، ووضع قيود واشتراطات لا مبرر لها؛ الأمر الذي فتح الباب أمام خطة صالح الجهنمية لاجتذابهم في تنفيذ مخطط مشترك للانقلاب على الحوار الوطني الشامل، وانتزاع مشروع الدستور، والانقلاب بالتالي على الشرعية، وتنفيذ ما أراد مستخدماً “أنصار الله” كطاقية إخفاء. لكنهم وبعد عامين من تدمير كل شيء في الحياة العامة والسياسة أصبحوا في صدارة المشهد، وجروا على البلاد كارثة العدوان السعودي والعشري.
ويقيناً فإن الحوثيين أيضاً لم يكن رهانهم على الثورة الشعبية السلمية؛ فهم أكثر الأطراف بعداً عن السلمية والنضال الديمقراطي والحريات العامة والديمقراطية، ولكنهم ركبوا موجة الاحتجاج السلمي، ووجدوا في نوايا صالح التعبير الصادق والأمين عن روح برنامجهم السلالي والمذهبي والقبلي الموتور من الثورة، شأن صالح نفسه ومحسن.
تصرفات “الإصلاح” المغرورة والرعناء أفسحت المجال أمام إرادة سياسية، وتوجهات أيديولوجية مبيتة أعلنت عن نفسها، ونفذت من كعب أخيل هذه الأطراف التي سهلت مهمتها.
في الذكرى السادسة للثورة المغدورة، كتعبير تروتسكي (الثورة الشعبية السلمية) لا ينبغي حرق البخور، ولا البكاء فقط على عشرات القتلى وملايين المشردين ومئات الآلاف الجرحى والمعاقين ومجاعة تتجاوز الـ 80 % حسب إحصاءات منظمات دولية، وخراب وتدمير بنية اليمن التحتية الضعيفة والهشة.
لقد دمر العدوانان الداخلي والخارجي كفاح الإنسان اليمني لعدة قرون، وكل منهما يعطي الذريعة والمبرر لجريمة الآخر. دمرت الحرب الداخلية والخارجية معالم حضارة تمتد لآلاف السنين، وطال التدمير المدارس والمستشفيات والجسور والأحياء السكنية، وخرب المدن والقرى والمطارات، وتجمعات الأعراس والعزاء والأسواق العامة والشعبية.
ما قام به صالح و”أنصار الله” ضد الحوار والدستور ثورة مضادة، وما قام به علي محسن الأحمر و”الإصلاح” في 22 مارس 2011 ثورة مضادة أيضاً، بل هي الثورة المضادة الأولى ضد الثورة الشعبية السلمية، بل إن حكم صالح الذي امتد 33 عاماً ومعه محسن و”الإصلاح” ثورة مضادة ضد الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، وضد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
لا بد أن نقرأ ثورة الربيع العربي بعد مضي خمسة أعوام في غياب الإرادة العامة الموحدة لليمنيين، وفي غياب القيادة أو على الأقل التنسيق بين هؤلاء الشباب المحتجين سلمياً، وأن نقرأها في تآلف المجتمعين: المدني والأهلي، وفي الروح التي خرجت على البندقية، ولن تقرأ في المنقلبين المبندقين الذين قادوا البلاد إلى الكارثة وكلهم آتون من الكارثة؛ كارثة الحكم الفاسد والمستبد.
من نافلة القول أن الحرب المستدامة منذ أمد طويل هي جذر المأساة وذروة الكارثة ولا خلاص لليمن بل والعرب إلا بالحوار والديمقراطية والسلم.