بانتظار “قمة هلسنكي”
بين حين وآخر، يخرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات “عكس التيار”، تعكس رغبة البيت الأبيض بتحسين العلاقات الأمريكية – الروسية … بيد أنه يحرص، وبين الحين والآخر كذلك، على اتخاذ قرارات من شأنها إحكام طوق العقوبات الملتف حول عنق روسيا، وإطلاق سباق تسلح تقليدي و”نووي” وفضائي، وبصورة يحار معها المراقب في معرفة الوجهة الحقيقية للسياسة الأمريكية حيال موسكو … وتزداد الصورة غموضاً وتعقيداً في ظل تضارب المواقف الذي ميّز أداء هذه الإدارة عن جميع من سبقها من إدارات جهورية وديمقراطية على حد سواء.
آخر مرة، ظهر في ترامب منافحاً عن الحاجة لتطبيع العلاقة مع موسكو كانت في قمة الدول الصناعية السبع الكبار، يومها أثارت تصريحه حول الحاجة لوجود روسيا على مائدة القمة، هرجاً ومرجاً بين أصدقاء واشنطن وحلفائها الأقربين، وصدرت انتقادات لاذعة لموقفه ذاك، من عواصم أوروبية وازنة.
الآن، تبدو الصورة مغايرة نسبياً، إذ يبدو أن إدارة ترامب قد حسمت أمرها، وقررت الانفتاح على موسكو عملياً، وليس لفظياً فحسب … جون بولتون قام بزيارة بالغة الأهمية للعاصمة الروسية، فتحت الباب لقمة منتظرة منذ وقت طويل، تقررت أخيراً في هلسنكي في السادس عشر من تموز / يوليو المقبل، وقبله كان مايك بومبيو يدلي بتصريحات تؤكد حاجة إدارته لإبداء مرونة حيال موسكو، وسط توقعات وتكهنات بأن القمة المقبلة، قد تصبح نقطة تحول في العلاقات الروسية الأمريكية بخاصة، والعلاقات الدولية على نحو عام.
وسوف يكون للقمة عند انعقادها وفي حالة نجاحها، تأثيرات مباشرة على أزمات عديدة في المنطقة، وقد تشهد القمة، إبرام صفقات وتسويات، بعضها سيخرج للعلن، وبعضها الآخر، ربما يبقى طي الكتمان … وأحسب أن “عقلية رجل الأعمال” التي تتحكم بسلوك ومواقف ترامب، قد تقوده إلى عرض نمط من “التسويات الكبرى”، يقايض من خلالها، الملفات الأكثر أهمية لواشنطن بالملفات التي لا تُعدُ “حاسمة الأهمية” بالنسبة لها… هنا، أحسب أن ترامب سيطلب دعماً روسياً في الملف الإيراني على نحو خاص، نظير إطلاق يد روسيا في سوريا، أو إغلاق ملف “القرم”، وربما تهدئة ملف أوكرانيا حتى إشعار آخر.
تريد الولايات المتحدة إقناع روسيا، بالضغط على إيران للعودة إلى مائدة التفاوض للوصول إلى اتفاق جديد حول برنامجها النووي، يتضمن من ضمن أشياء كثيرة، التوسع في عمليات التفتيش وإطالة الأمد الزمني للاتفاق، وإدخال البرنامج الصاروخي الإيراني في عداد الصفقة، فضلاً عن تحجيم النفوذ الإيراني في الإقليم، والذي اتخذ شكل “الطفرة” في السنوات القليلة الفائتة.
السؤال هنا، هل سيوافق “القيصر” على مجاراة سيد البيت الأبيض في استراتيجيته العدائية الجديدة لإيران؟ … وإن هو وافق، هل تمتلك موسكو أوراق ضغط كافية على إيران لدفعها في هذا الطريق؟ … وهل سترتضي روسيا القيام بأدوار، رفض كثيرون من حلفاء واشنطن الأوروبيين القيام بها، منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع طهران؟
يصعب تخيل “انقلاباً” في مشهد العلاقات الدولية بعد القمة، فالفجوات التي تباعد القطبين الدوليين في كثير من الساحات والملفات، كبيرة للغاية، ومن الصعب تجسيرها بلقاء واحد أو عدة لقاءات … لكن يمكن للقمة الشروع في “تفكيك” بعض الملفات الخلافية التي تباعد الجانبين، وقد تكون سوريا، أكثر من غيرها، وقبل غيرها، ساحة الاختبار الأولى للوفاق الروسي – الأمريكي، أو على الأقل، لأجواء الانفراج التي سبقت القمة وتحيط بها.
إن ضمنت روسيا مصالحها في سوريا، وعدم تحولها إلى ساحة استنزاف للموارد والمقدرات الروسية، فليس لدى موسكو ما يمنعها من التعاون اللصيق مع واشنطن، فهي قبل القمة، وفي مناخات التأزم والتوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين، طلبت سحب الجيوش الأجنبية من سوريا، وخصت إيران وحزب الله بالاسم، ولديها تفاهمات مع إسرائيل، جعلت اجتياح الجيش السوري لمحافظات الجنوب الثلاث، أمراً ممكناً، وهي أول من عرض “نظاماً فيدرالياً” لسوريا، يمكنه أن يستوعب مصالح حلفاء واشنطن من أكراد هذا البلد، الذين يعدون أقرب حلفاء الولايات المتحدة إليها، والأهم من هذا وذاك، أنها رضخت للضغوط الإسرائيلية الأمريكية، وعلقت صفقة صواريخ إس 300 إلى دمشق، وفي الآونة الأخيرة، لم تتردد في “رفع الغطاء” عن القوات الإيرانية والحليفة، المنتشرة على الأرض السورية، وتركتها عارية أمام ضربات الطائرات والصواريخ الإسرائيلية.
ما يهمنا في الأردن، أن مناخات الانفراج بين موسكو وواشنطن، تعمل دائماً لصالحنا، وترفع الحرج و”قلة الحيلة” عنّا … فحين يشتد الخلاف ويتفاقم، يتراجع الدور الأردني، وتتضاءل قدرتنا على المناورة والمبادرة … وأحسب أن على الديبلوماسية الأردنية، استنفاذ “طاقة الفرج” الحالية حتى آخرها، وبالسرعة المطلوبة، من أجل إغلاق ملف الجنوب السوري، ودرء خطر موجات جديدة من اللجوء، وإعادة فتح المعابر واستئناف العمل على الخط الدولي الرابط عمان ببيروت عبر دمشق، فضلاً عن إبقاء المليشيات المذهبية غير المرغوبة بعيدة عن الحدود … بل ويمكن التفاؤل بما هو أكثر من ذلك، كأن يبدأ العمل والتحضير لتمكين مئات ألوف اللاجئين السوريين من العودة إلى ديارهم، وهذا الملف على نحو خاص، يتطلب مقاربة جديدة، من خارج الصندوق، تحتمل اتخاذ قرارات جريئة من نوع تسليك قنوات الحوار والتواصل مع دمشق، فلا يمكن تخيل سيناريو تقبل فيه الدولة السورية استعادة مئات الألوف من أبنائها وبناتها، من دون أن تكون هناك اتصالات ولقاءات وعلاقات ومحادثات، فهل ثمة خطة وطنية للتعامل مع هذه العناوين، ما هي معالمها، ومن هي الجهة التي تتولى بلورتها والسهر على تنفيذها؟