“الخوذ البيضاء”
سمح الأردن لـ 800 سوري بعبور أراضيه في طريقهم لدولة ثالثة (بريطانيا، كنداً وعدد آخر من الدول الغربية)، لنعرف بعد ذلك، ومن مصادر إسرائيلية، أن هؤلاء ينتمون إلى جماعة “الخوذ البيضاء” التي ذاع صيتها كمنظمة “دفاع مدني” في الأزمة السورية، وتحديداً في منطقتي حلب والغوطة الشرقية … هؤلاء، بعضهم على الأقل، كانوا قد تجمعوا على مقربة من السياج الفاصل بين شطري الجولان، المحرر والمحتل، يطالبون إسرائيل بفتح الحدود لهم، هرباً من الجيش السوري المتقدم، لكن جندياً إسرائيلياً كان يخاطبهم عبر مكبرات الصوت، بأن عودوا إلى الوراء مسافة 300 متر، وإلا واجهتم ما لا تحمد عواقبه… في مشهد يذكر بالضبط، بما فعله ضباط وجنود جيش أنطوان لحد، عندما استعاد مقاتلو حزب الله الجنوب، إثر الانسحاب “غير المنظم”، لـ “الجيش الذي لا يقهر” في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2000.
“الخوذ البيضاء” كانت منذ البدء، وعلى الدوام، موضع انتقاد واتهام من قبل موسكو ودمشق، بوصفها ذراعاً استخبارياً، هدفه “شيطنة” هذا الفريق، وتحديداً النظام في دمشق، يعمل بتمويل سخي من أجهزة استخبارات غربية، وصرفت عليه عشرات (البعض يقول مئات) ملايين الدولارات و”اليوروات” والاسترلينيات… وكانت الدعاية المناهضة للمنظمة، السورية منها على نحو خاص، تحرص على إبراز صلات المنظمة “الإنسانية” بجماعات مصنفة إرهابية عالمياً، مثل داعش والنصرة، ولطالما ذكر بشار الجعفري في مجلس الأمن هذه المنظمة بالاسم، في معرض تنديده بالتدخلات الاستخبارية الغربية في شؤون بلاد، واتهامه لهذه الأجهزة بالعمل على “فبركة” البراهين الدالّة على تورط حكومة بلاده في استخدام السلاح الكيماوي ضد مواطنيها.
أعترف بأنني كنت أتلقى الدعايتين الروسية والسورية بكثير من التحفظ في البدء، لولا أنني بدأت أتلقى صوراً لنشطاء من “الخوذ”، مدججين بالسلاح، ويشاطرون جماعات إرهابية فرحتهم ورقصاتهم احتفالا بسيطرتهم على هذا الموقع أو ذاك، وبعض المسلحين، كانت تشف راياتهم وهتافاتهم على أنهم من جماعات جهادية كالنصرة وداعش وغيرهما … يومها بدأ الشك يساورني، ليتعزز بعد ذلك بتقارير استخبارية مسرّبة، عن الأحجام الكبيرة لموازنات هذه المنظمة، وخبرات أعضائها المتميزة في إنتاج الأفلام والدعاية والإنتاج والتصوير والمكياج والمونتاج والمكساج، وكل ما ليس له صلة، بوظيفتها الأصلية: الإغاثة والدفاع المدني.
في حوار قبل أيام، مع الإذاعة الأسترالية، سألني المراسل من القدس المحتلة، إن كانت لدي معلومات عن بضع مئات من السوريين الذين لجأوا إلى السياج الفاصل بين “الجولانين” … قلت له، وفقاً لما أعرف، فأن معظمهم من المتورطين بالعمالة لإسرائيل، وأنهم لا يرتجون صلحاً أو مصالحة أو تسوية أوضاع مع الجيش والحكومة السوريين، وذكّرت المراسل بما حصل في جنوب لبنان قبل 18 عاماً، من أحداث مشابهة … وعندما سألني عن المخرج المتبقي لهؤلاء، أجبته بسذاجة: الوسيط الروسي وحده هو القادر على حل معضلتهم.
وأقول بسذاجة، لأنني لم أن أكن أعرف حق المعرفة، عمق العلاقة التي ربطت “الخوذ” بمشغليها، وأن إسرائيل طرف في عملية التشغيل هذه، وإلا كيف تسنى، بين عشية وضحاها، إيجاد بلد لجوء ثالث لهؤلاء وأفراد عائلاتهم، وبتدخل إسرائيلي سريع ومباشر، وتعاطف بريطاني – أمريكي – كندي – غربي، غير مسبوق… في حين ينتظر مئات وألوف السوريين، أشهراً وسنوات، ويقضي بعضهم نحبه في الطريق إلى دول اللجوء والشتات.
إسرائيل لا تقبل بهؤلاء، سيما بعد أن استنفذوا مهامهم والأغراض التي وظّفوا من أجلها … وهي ضاقت ذرعاً بعملائها من جيش “حداد – لحد”، ولن تكرر التجربة ثانية مع نظرائهم من السوريين … لكنها حفاظاً على “خزان المعلومات” التي بحوزة هؤلاء، وليس حرصاً على أرواحهم أو وفاءً لخدماتهم الجليلة، قررت مساعدتهم في البحث عن “بلد ثالث”، خشية أن يفضي سقوطهم في الأيدي الروسية والسورية، إلى فضح أعمالهم وشبكات اتصالاتهم وطبيعة العلاقة مع مشغليهم، وربما صلاتهم بالنصرة… لهذا السبب، وله وحده فقط، سعت إسرائيل إلى تخطي موسكو واللجوء مباشرة إلى الأمم المتحدة والعواصم الغربية، لتهريب هذا “الأرشيف” في عملية استخبارية من طراز رفيع.
عسكريون وأمنيون سوريون من أنصار النظام، لا يستبعدون أن يكون من بين الذي تم إخلاؤهم إلى عواصم الغرب، عدد من قيادات النصرة وداعش، من الذين تورطوا في علاقة مباشرة مع إسرائيل، ومعروف ومثبت أن لإسرائيل صلات مباشرة مع النصرة، أو من “الدواعش” الذين تعهدوا بالتعاون في كشف ما بحوزتهم من معلومات نظير أمنهم الشخصي وسلامة عائلاتهم … لست متأكداً من حقيقة ما يقوله هؤلاء، وما إن كان ما يقولونه حقائق أم بروباغندا، بيد أنني لم أعد استبعد أبداً، أن يكون في كلامهم بعض الصحة، أو كثير منها… فإن لم تستح فافعل ما شئت، وهل ثمة “قلة حياء” أحط وأبشع من التعاون مع الاحتلال؟