الأمم المتحدة: شرعنة الحرب على اليمن
للمرة الثانية، يفشل المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، في إصدار قرار تشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب في اليمن. وللمرة الثانية أيضاً، تتقدم هولندا، ومعها هذه المرة كندا، بمشروع قرار لتشكيل اللجنة.
تصريحات المفوض السامي، زيد بن رعد الحسين، كانت تشدد على ضرورة تشكيل اللجنة في ظل جرائم حرب تتورط فيها كل الأطراف الضالعة في الحرب الداخلية والخارجية. ومطالبات منظمات حقوقية، تصل إلى 67 منظمة دولية، أكدت على هذا الحق. مأساة اليمن الآن أن الأطراف المتحاربة تقترف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تتكئ سلطة الأمر الواقع، الرئيس السابق علي عبد الله صالح و«أنصار الله»، على الحرب الخارجية كعذر ومبرر للتنكيل بمواطني هذه السلطة، فتعتدي على القرى والمناطق التي تحت سيطرتها، وتحاصر مدينة تعز، وتصادر الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وتقوم بالاعتقالات الكيفية، خصوصاً في صفوف الصحافيين وآخرهم كامل الخوداني، والمعارضين السياسيين، والناشطين. تنهب الموارد، وتصادر مرتبات الموظفين ومعاشات المتقاعدين، وتخمد أنفاس السياسة والحرية والحياة، وتعيق وصول المساعدات الغذائية.
أما الشرعية فوجودها شكلي وضعيف؛ فالمناطق المحكومة باسمها تخضع للقوى المتغلبة. فمأرب مثلاً تخضع لتيار «الإصلاح» (الجناح القبلي والعسكري)، وهذا التيار يستولي على عائدات المشتقات النفطية، ويفرض الإتاوات، وينهب الموارد في مناطق حكمه، ويوظف هذه العوائد للحرب وتجارة الحرب، شأن قوى الحرب المعادية. أما الجنوب (المناطق المحررة) فتحت إمرة الإمارات، والحراك المسلح، ونفوذ تيار سلفي متشدد قام بقتل عمر باطويل، وماجد عبد الرحمن، ومحمد خير عثمان، وسلطة الشرعية عليها جدّ ضعيفة بل منعدمة، وينشط «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» في العديد من مناطقها، وقد جرى اختطاف المعزين لأسرة الشهيد، أمجد عبد الرحمن، من الصحافيين: هاني الجنيد، وحسام ردمان، وماجد الشعيبي.
تعز المحاصرة في ظل المقاومة، والتصدي للحصار الجائر، تتصارع فيها المليشيات، وتجري الإغتيالات والاختطافات، وتُنهب الموارد، وتُفرض الإتاوات، وتعسكر المدارس وتتحول إلى ثكنات، ويُبتز الباعة وأصحاب الدكاكين. فالانتهاكات ومصادرة الحريات والقتل العشوائي قاسم أعظم ومشترك بين كل أطراف الحرب الجائرة. أما حماة الشرعية (دول التحالف بقيادة العربية السعودية) فهي كوم والأطراف الأخرى كوم؛ فجرائم الحرب تخضع للقدرة الفائقة، ولقصف الطيران الكلي القدرة والتدمير، ولأم القنابل والصواريخ. فطائرات الـ«إف 15» والـ«إف 17» تقوم بقصف القرى والأحياء السكنية والمدارس والمعاهد والمستشفيات والأسواق وصالات الأعراس والعزاء والجسور والمكتبات ومرافئ وقوارب الصيادين الذين حُرموا من قوت يومهم، والمزارع والآثار والمساجد. الفيلمان اللذان أعدتهما المذيعة الصحافية، نوال المقحفي، في هذا الإطار، وعرضتهما قناة الـ«بي بي سي»، مفجعان وشاهدا كارثة إنسانية. نجحت السعودية وحلفاؤها، تجار الحروب والسلاح، في إعاقة تشكيل لجنة دولية مستقلة
النساء والأطفال يشكلون النسبة الأعلى من ضحايا القتل والدمار الذي يلحق بالمدنيين والمدن والقرى ومعالم الحياة. وبديهي أن تكون جرائم الطرف الأقوى هي الأكبر والأخطر؛ فالطيران يعسكر على مدار الساعة في سماء اليمن، ويستهدف المدنيين. منذ البداية، وقفت العربية السعودية ودول التحالف العشر والشرعية ضد تشكيل لجنة دولية محايدة في هذه الجرائم، بينما وقف طرف سلطة الأمر الواقع، صالح و«أنصار الله»، موقف الدفاع الضعيف غير الجاد وغير الكفء ضد جرائم يعرف سلفاً أنه طرف أساسي فيها، ويتحمل نصيبه منها.
يطال الخراب وتعم جرائم الحرب اليمن كلها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. فاجتياح الجنوب من قبل قوات صالح و«أنصار الله» نجم عنه خراب العديد من مدن ومناطق وقرى الجنوب، كما جرى قتل المدنيين ونهب ممتلكاتهم. الجرائم مستمرة ومتواصلة، والمطالِبون بالتحقيق والرافضون إجراء التحقيق شركاء في جريمة حرب ضد الإنسانية. الحرب أساس الجرائم كلها، والشعب الضحية مغيب، والأحزاب السياسية خصوصاً الكبيرة موزعة على أطراف الحرب، وضالعة في الجريمة. مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والإنسانية ومصادر نشاطها مقموعة، ومكممة أفواهها شمالاً وجنوباً. فالمتحاربون في الداخل والخارج هم من يتصارعون متشاركين في جرائم الحرب.
كان ولا يزال المطلب الحقيقي لليمنيين وللمنظمات المدنية والحقوقية والدولية، وبالأخص «هيومن رايتس ووتش» التي قدمت أكثر من رصد وتحقيق عن هذه الجرائم، والعديد من الدول غير الوارطة في تجارة السلاح، وعشرات المنظمات، تشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم الحرب.
جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، ولا يموت حق وراءه مطالب، والأطراف الداخلية الوارطة في الحرب تنحاز للتحقيق الدولي لأنها الطرف الأضعف؛ فهي ضحية وجلاد في آن ولكن ضد شعبها. أما التحالف بقيادة العربية السعودية فهو المسؤول الأول عن الحرب الخارجية وعن الجرائم الأشد هولاً والأكثر فتكاً والتي تدمر الكيان اليمني والحياة المدنية، والمسؤول الأول عن عشرات القتلى من المدنيين (معظمهم نساء وأطفال)، والذي نجم عن قصفه المتواصل تشريد الملايين، وإصابة مئات الآلاف، وتجويع شعب بكامله، والتسبب في انتشار الأوبئة الفتاكة، ومنها الكوليرا التي تتوقع مصادر دولية إصابتها لمليون يمني نهاية هذا العام. وتتشارك أطراف الحرب في الحصار الداخلي والخارجي القاتل، ومنع وصول المواد الغذائية والدوائية، وإعاقة التجارة والاستثمار.
ضرب ميناء الحديدة، وإغلاق مطار صنعاء، تسببا بكوارث تبدأ ولا تنتهي، خصوصاً بالنسبة للمرضى والطلاب والباحثين عن الرزق. الدول الإستعمارية تجار سلاح؛ فهم صناع الحروب في العالم منذ فجر الإستعمار، وقد مارست السعودية ضغوطاً كبيرة لمنع تشكيل اللجنة. القرار التوفيقي الذي خرج به المجلس الأعلى لحقوق الإنسان يزكي اللجنة المشكلة من الرئيس هادي، والتي لا تستطيع عمل شيء في بلد مفكك ومتحارب، وهي أيضاً تصبح تابعة لطرف وارط في الجرائم.
لا نشكك في أعضاء اللجنة الوطنية، ولكننا فقط نعتب عليهم القبول بتحمل مسؤولية كبيرة لا يستطيعون الوفاء بها، وهم يعرفون ذلك. نجحت السعودية وحلفاؤها، تجار الحروب والسلاح، في إعاقة تشكيل لجنة دولية مستقلة تحقق في جرائم تدمير بلد، وتقتيل أبنائه، وتدمير مؤسساته ومعالمه الحضارية، ولكن الحق لن يموت، ودماء أبناء الشعب اليمني لن تذهب هدراً. ولا حل وسط في التحقيق في جرائم الحرب؛ فلا تمكن تجزئة الحقوق، أو التغاضي عن الجرائم، أو السكوت عنها، والتحايل عليها.