اخبار محليةالكل

الأفعـى رباعـية الرأس في مواجهة فصل جديد من التصعيد والهجمات النوعـية ( تحليل )

 “لن يجوعَ الأسدُ وبجواره حميرٌ وحشية”

تحليل| عبدالله علي صبري

لم يعد مجدياً أن تكابرَ السعودية، وهي تحاول الخروج من ورطتها في اليمن، فتلجأ مجدّدًا إلى اتّهام إيران بأنها وراء تسليح صنعاء بالصواريخ البالستية والطيران المسيَّر، فحتى لو افترضنا أن ما تدّعيه لا يجافي الواقعَ، فإنها وتحالف العدوان بكله إنما يعتمدون في حروبهم على السلاح الأمريكي والبريطاني، وهو سلاحٌ مطوَّرٌ وفَتَّاك، لو أن اليمنَ تمتلك 10% منه، لَكانت اللجان الشعبيّة قد وصلت الرياض منذُ وقت مبكر.

حسناً لقد اعتدلت في روايتها الكاذبة أصلاً، فبعد أن زعمت أن الضرباتِ الصاروخيةَ التي استهدفت مجمعَي بقيق وخريص النفطيين العام الماضي، كانت من إيران وليس من اليمن، اضطرت هذه المرة مع الهجمات الأخيرة لعملية توازن الردع الرابعة أن تعترفَ بأن الهجوم جاء من جارها الجنوبي وليس غيره.

غير أن السؤال الأهم لماذا لم تجنح الرياض بعد للسلام مع اليمن، وقد أدركت حجم الوجع الذي تكبّدته؛ بفعلِ الهجمات النوعية المتوالية للقوة الصاروخية اليمنية، والتي قدر الخبراء أن استهداف أرامكو النفطية أفضى إلى خسائر باهظة تقدر بـ 300 مليار دولار، فما الذي يجعلُ الرياض تواصلُ حرباً تستنزفها مالياً على هذا النحو، مع أنها قادرةٌ على رعاية الحل السياسي في اليمن، على اعتبار أن طرفَ ما يسمى بالشرعية لا يمكنه الخروج من بيت الطاعة السعودي، فلا هو يمتلك قراره، ولا خيارات أُخرى لديه.

لقد أمكن للقوات المسلحة اليمنية أن تطور من أدائها خلال العامين الماضيين، باتّجاه تنفيذ ضربات موجعة في العمق السعودي؛ بهَدفِ إيقاف العدوان على الشعب اليمني، وهو ما جعل الأسرة الحاكمة في الرياض تبحث عن مخرج من خلال التهدئة النسبية وما رافقها من مفاوضات غير معلنة، رفعت من منسوب التفاؤل لدى اليمنيين، قبل أن يتضح أنها كانت بهَدفِ امتصاص عمليات الردع، والاستعداد للتكيف معها حتى تأتي الفرصة المناسبة للخروج من حرب اليمن.

الاستثمارُ الداخلي للحرب

تعد السعودية رأسَ الأفعى في العدوان على اليمن، ومن هذا المنطلق يتجه تركيز القوات المسلحة اليمنية على استهداف السعودية في منشآتها الاقتصادية والعسكرية. وما دامت هي اللاعب الرئيس في التحالف، فإن قرار إيقاف العدوان يظل رهن الرياض، التي أثبتت الأيّام أنها لا تفهمُ سوى لغة القوة، وأن ردعها وتهشيم رأسها كفيل برضوخها وقبولها للحل السياسي بين الفرقاء اليمنيين.

لقد دخلت السعودية الحرب، وهي تمنّي النفس بإنجاز نصر عسكري حاسم، يحفظ هيبتها ومكانتها الإقليمية، ويمنحُها فرصة القيادة من جديد بعد أن زاحمتها قطر وتركيا؛ بفعل ما يعرف بـ “الربيع العربي”، والثورات الشعبيّة التي برز “الإخوان المسلمون” كرقم صعب فيها. وبالفعل فقد أمكن للرياض احتواء الحراك البحريني بشكل عنيف، ثم ظفرت بفرصة ذهبية في اليمن، حين فرضت “المبادرة الخليجية” كحل سياسي بين السلطة التي يمثلها المؤتمر الشعبي العام، والمعارضة التي يمثلها الإصلاح واللقاء المشترك. كما اشتركت مع الإمارات في إذكاء الثورة المضادة بمصر، وإزاحة الإخوان المسلمين من السلطة.

وحين أعلنت السعودية عن تحالف “عاصفة الحزم”، فقد أرادت أن تراكم من إنجازاتها ليس في مواجهة المحور التركي القطري فحسب، بل وفي مواجهة إيران ومحور المقاومة أَيْـضاً، إلا أن حربها على اليمن باءت بالفشل، وجعلت من زعيم “الحزم”، مُجَـرّد “أسد مفرشة”..!!

كان بإمْكَان الرياض أن تخرج بـ “ماء الوجه” من الحرب، وقد ساعدتها صنعاء على “النزول من الشجرة” أثناء التهيئة لمشاورات الكويت في إبريل 2016م، حين بدا ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف تواقاً لإنجاز “السلام”، بينما كان محمد بن سلمان يشتغلُ على تغيير خارطة الحكم في الأسرة السعودية، وهندسة انتقالها إلى أسرة سلمان بن عبدالعزيز وأولاده، وما تطلبته الخطةُ من إبرام صفقة كبرى مع الرئيس الأمريكي والإدارة الجديدة للبيت الأبيض.

أنجز بن سلمان خطته بنسبة نجاح كبيرة، فقد أزاح كبار الأمراء في الأسرة الحاكمة، وعرضهم للحبس والإهانة، وصادر الكثير من أموالهم وممتلكاتهم، ولم يتبق أمامه سوى خطوة تتويجه ملكاً رسميًّا. ونجح بن سلمان أَيْـضاً بالترغيب والترهيب في تحويل المجتمع السعودي نحو المزيد من الانفتاح، والتقشف، بالإضافة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني. ولصرف الأنظار عن الغليان الذي يعتمل داخل المجتمع السعودي اعتمد بن سلمان سياسة “الهروب إلى الأمام” من خلال المزيد من التورط في حرب اليمن، وتضخيم الخطر “الحوثي/ الإيراني” الذي يشتغلُ عليه الإعلام السعودي منذ ست سنوات.

” بيتٌ من زجاج ”

إذا كانت السعوديةُ هي رأس العدوان على اليمن، فإن الإمارات كانت ولا تزال فاعلاً رئيساً هي الأُخرى، بل إن خطرَ العبث الذي تقومُ به في المحافظات الجنوبية يجعل منها رأساً آخرَ في الحرب والعدوان على اليمن، فهي وقد كشفت عن مطامعها الكبيرة في موانئ اليمن وجزره وثروته السمكية والنفطية، اتخذت من الحراك الجنوبي مدخلاً لترسيخ الانقسام وتجزئة المجزأ، بل لقد دفعت بالمجلس الانتقالي الجنوبي ليرتمي في حضن التطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى نعلم دون مواربة أن انفصال الجنوب وقيام دولة مستقلة فيه يصب في خانة المصلحة الإسرائيلية، التي تتطلع أن يكون “باب المندب” تابعاً للكياني الجنوبي المحتمل.

لقد أمكن للقوات الإماراتية الغازية وبغطاء أمريكي أن تحكمَ سيطرتَها على منطقة باب المندب الاستراتيجية، وهي إن كانت قد انسحبت عسكريًّا منها ومن مناطق أُخرى في اليمن إلا أنها تركت لأدواتها في الشمال والجنوب الحفاظ على مصالحها بعد أن مكنتهم من السيطرة وإعلان الإدارة الذاتية في عدة محافظات وآخرها محافظة سقطرى.

وهنا يتساءل البعض: لماذا توقفت الصواريخ اليمنية من مهاجمة العُمق الإماراتي، وهل ثمة شيءٌ يعتمل في الخفاء؟

في الواقع أن الضرباتِ الأخيرةَ في العُمق السعودي تحملُ نفسَ الرسائل التي يتعين على الإماراتي قراءتَها وإعادة التفكير على ضوئها، فإذا كانت السعودية تحتمل بحكم مساحتها الكبيرة هذا النوع من الهجمات الصاروخية، فإن البيتَ الإماراتي الهش لا يمكنه الصمودُ في مواجهة التصعيد العسكري، الأمر الذي ترجمته الإماراتُ بإعلان انسحاب قواتها العسكرية من اليمن، في محاولة تَذَاكٍ مكشوفة، وإلا فإن اليمنيين يعرفون حق المعرفة أن اليد الإماراتية ما تزال تعبث في كثير من المناطق والمحافظات.

قد تكونُ هناك حساباتٌ سياسية واقتصادية غير مرئية، تجعلُ من ردع الإمارات مهمةً ثانويةً إلى حين، بيد أن صنعاء تدرك تماماً أن حجمَ الدور الإماراتي في العدوان على اليمن، بل وفي توجيه القرار السعودي نفسه، يحتمُّ المبادرةَ بتأديب الرأس الثاني وتهشيمه، لتعلم أبوظبي أن بيتاً من زجاج لا يمكنه وصاحبه أن يعيشا بأمان من العقاب إلا ما لا نهاية..!

أمريكا وبريطانيا: القيادةُ من الخلف

حالةُ التنمر التي يظهر عليها السعودي_الإماراتي، في الحرب العدوانية على اليمن لا يمكنُ فهمُها إلا من خلال استحضار الإطار العام للتحالف العدواني الرباعي على اليمن، فكثيرٌ ما انعقدت اجتماعاتٌ رباعية بشأن اليمن، ظاهرُها مباحثاتُ السلام وباطنها المزيد من التصعيدِ وتنفيذِ الأهداف الخفية والمعلنة للدول الأربع: أمريكا، بريطانيا، السعودية، والإمارات.

 

تشكل هذه الحربُ مصلحةً كبيرةً للأمريكي والبريطاني ترجمت في صفقات ومبيعات سلاح ضخمة استنزفت الخزينة السعودية على نحو غير مسبوق. وتدرك واشنطن ولندن أن إيقافَ الحرب على اليمن يعني خسارة الكثير من هذه الإيرادات. ومن جهة أُخرى فقد اشتغلت الدولتان على المزيد من خلط الأوراق في المنطقة ومحاصَرة السعودية بأزمات داخلية وإقليمية تجعل قرارَ الأخيرة رهنَ الإدارة الأمريكية مهما كانت النتائج، ولهذا ليس من المبالغة القول إن قرار الحرب والسلم في اليمن أمريكي بامتياز.

لا يمكن القول إن أمريكا صديقٌ أَو حليفٌ يمكن للسعودية الاعتمادُ عليه، وإلا لَهان الأمرُ على حكام المملكة، ولأمكن للرياض الطلبُ إلى واشنطن المساعدة في إيقاف هذه الحرب على نحو جدي، لكن واشنطن بالنسبة للرياض تعد “الصديق اللدود” في أحسن الأحوال، فكلما ازدادت السعودية انكشافاً، كلما تعاظمت مكاسبُ البيت الأبيض، وكلما حاولت الرياض الفكاك ولو “قيد أنملة” من الطوق الأمريكي، كلما تعاظمت فضائح آل سعود في الصحافة الغربية، وتحَرّكت الكثير من الملفات التي يجيد الساسة الأمريكيين استخدامها؛ بهَدفِ ابتزاز آل سعود.

وإذا كان البريطاني كما الإماراتي يتربحان من هذه الحرب، فإن حاجة واشنطن لهما في تنفيذ الأهداف الأمريكية المتعلقة بأمن إسرائيل، وبالحرب التجارية مع الصين، يفسران لماذا تبدو الإمارات على هذا النحو من الثقة وهي تلعب بـ “البيضة والحجر” في علاقتها بالسعودية وفرض أجندة مصالح على الضد من المصلحة السعودية، كذلك فإن خبرةَ بريطانيا في المنطقة جعلها محلَّ ثقة أطراف العدوان ومنحها هامشاً كَبيراً لجهة “بيع الوهم” عبر مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن البريطاني مارتن غريفتث.

الموتُ “جوعاً” غير وارد

لقد جاءت عمليةُ توازن الردع الرابعة في إطار حق الدفاع المشروع لليمنيين، وهي فوق ذلك تهدف إلى إيقاف العدوان وإتاحة الفرصة لتفاهم يمني_ يمني، يحفظ وَحدةَ اليمن وأمنها واستقرارها واستقلاها، لكنها في ذا الوقت حملت رسالة عاجلة مفادُها أن اليمن لن يتكيف مع سياسة الحصار الخانق التي يفرضها تحالف العدوان رباعي الرأس، ولن يقبل أن يموت “جوعاً”، وهو من يبذل كُـلّ هذه التضحيات؛ مِن أجلِ “الحرية” وَ”الكرامة”.

وإذا كانت السعودية قد استوعبت صدمةَ الضربة الأخيرة وما قبلها من هجمات نوعية، وَإذَا كانت ما تزال ماضيةً في غيها على عكس ما يحتمه المنطق أَو نظرية “الفاعل العاقل”، فهذا يحتم على القيادة السياسية والعسكرية في صنعاء، مراجعةَ استراتيجية المواجهة بحيث تكون رؤوس أفعى العدوان كلها في قلب الخطر، بما في ذلك الرأس الأمريكي، الذي تصول بارجاته على طول وعرض البحر الأحمر.

قد لا يكونُ هذا الخيارُ من المواجهة متاحاً أصلاً، وقد ينطوي على مجازفة غيرِ مدروسة العواقب في حال توفرت إمْكَانية الإقدام عليه، إلا أنه من غير المنطق إعمالُ المنطق والعقل في مواجهة عدوان غير منطقي، فآخرُ العلاج “الكي” كما يقال. و”لن يجوعَ الأسدُ وبجواره حميرٌ وحشية”، كما قيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى