قادري يكتب عن أحمد عبده ناشر العريقي الرأسمالي الوطني .. تحية واعتذار

قادري يكتب عن أحمد عبده ناشر العريقي الرأسمالي الوطني .. تحية واعتذار
قادري أحمد حيدر
الاحد 21 ديسمبر 2025-
هو اعتذارٌ طال أكثر من أربعة عقود، لكنه اليوم يرقى إلى مستوى اعترافٍ صريحٍ بالذنب، ذنبٍ اشتركنا فيه جميعًا:
مثقفين، وسياسيين، وحكّامًا.
إنها تحيةٌ ممزوجةٌ بالاعتذار لشخصيةٍ وطنيةٍ وأخلاقيةٍ وثورية، جرى تغييبها والتنكّر لدورها وسط ازدحام همومنا ومصالحنا الذاتية الصغيرة.
كان أحمد عبده ناشر العريقي ضميرًا وطنيًا حيًّا وفاعلًا بلا حدود في الأمس، ثم غدا منسيًّا اليوم، في تعبيرٍ فادح عن جحودٍ بلغ سدرة منتهى النسيان؛ جحودٍ من سلطةٍ لم تحفظ الذاكرة، وعقوقٍ من أبناءٍ تجاه الآباء الكبار الذين أسهموا بأموالهم وأنفسهم في صناعة مجد هذا الوطن، في مرحلة تاريخية هي من أصعب مراحل تاريخنا السياسي والوطني المعاصر.
وأقرّ بجحودي الشخصي؛ إذ إن والدي ـ رحمه الله تغشاه ـ كان أوّل من فتح أمامي باب المعرفة بهذا الاسم الكبير. عرفه في المهجر بالحبشة، ثم في عدن في أوائل الخمسينيات، ومن هناك بدأت صلتي باسمه الكريم، وبأدواره التربوية والوطنية داخل «الجالية اليمنية»، وبمكانته الإنسانية الرفيعة حيثما حلّ.
وفي عدن، كان هائل سعيد أنعم مؤسّسًا ورئيسًا لـ«نادي الاتحاد العريقي» عام 1944م، إلى جانب أحمد عبده ناشر وآخرين، في واحدة من البدايات المبكرة للعمل الأهلي والوطني المنظّم.
وإذا كانت هناك شخصياتٌ وطنيةٌ جمعت بين الرأسمالية الوطنية من جهة، والمساهمة في تأسيس السياسة الوطنية والثقافة اليمنية المعاصرة من جهة أخرى، فإن الأستاذ الفقيد أحمد عبده ناشر العريقي ـ رحمه الله ـ يقف في طليعة هذه الأسماء وأبرزها. والحديث حول ذلك يطول.
فقد مثّل الاستاذ الفقيد، أحمد عبده ناشر، نموذجًا للرأسمالية الوطنية التحررية، وتجسيدًا صادقًا لصورة الإنسان الوطني العضوي، بعيدًا عن أي ادّعاءٍ سياسي أو ثقافوي نخبوي زائف.
ستجده حاضرًا وفاعلًا في قلب معترك الحياة السياسية والتعليمية والثقافة المدنية، منذ مطالع أربعينيات القرن الماضي، مرورًا ببدايات وأوائل الستينيات، وصولًا إلى رحيله النبيل في صمتٍ هادئ، بعيدًا عن ضجيج الإعلام الزائف وصخبه.
كان أحمد عبده ناشر العريقي واحدًا من القلّة القليلة التي أسهمت في تأسيس الوطنية اليمنية المعاصرة، من موقع الرأسمالي الوطني الحر؛ إنسانًا كبيرًا اجتمعت فيه روح النبالة والفروسية، ونقاء الروح، وشجاعة الإقدام والمبادرة.
وقد شكّل أحمد عبده ناشر العريقي قيمةً وقامةً أخلاقية ووطنية وإنسانية، وشخصيةً سياسية تحررية وتقدمية بحق، بكل ما تحمله كلمة «تقدمية» من دلالة ومعنى. ذلك في وقتٍ ظللنا فيه ـ ولا نزال ـ نحتكر مفهوم التقدمية داخل إطار الرموز الفكرية والسياسية والثقافية المحسوبة على اليسار القومي والاشتراكي، في احتكارٍ حزبي/أيديولوجي لهذا المفهوم، يُعدّ أحد تجلّيات العقلية الشمولية الأحادية في التفكير.
لقد كان أحمد عبده ناشر العريقي، بحق، شخصيةً تقدميةً وتحرريةً بامتياز؛ لا لأنه من أوائل من وعوا مبكرًا قيمة الحرية وضرورة التقدم الاجتماعي في واقعٍ إماميٍّ مغلقٍ «قروسطي» فحسب، بل لأن الأهم أنه وهب ماله وحياته كاملةً فداءً لخياره السياسي والوطني والتقدمي، إيمانًا منه بحق الشعب في نيل حريته، وتقدمه الاجتماعي.
كان أحمد عبده ناشر العريقي إنسانًا نبيلًا وعظيمًا، قدّم بسخاءٍ نادر للحركة الوطنية، «حركة الأحرار اليمنيين»، حين كان الثمن مطاردةً وتشريدًا ونهبًا الأرض والمال، وسجنا للأهل، بل وقتلًا. وأسهم إسهامًا واسعًا في بناء السياسة الوطنية، من خلال حركة الأحرار اليمنيين، ودعم المدرسة والتعليم، وفتح أبواب المعرفة أمام الطلبة من الأسر الفقيرة، عبر منحٍ تعليمية هدفت إلى كسر طوق الأمية والجهل والعزلة والجمود. كما كان السند المادي، بل والمعنوي الأبرز، لحركة الأحرار حين كاد تراجع التمويل أن يشلّ فعلها ودورها، فمدّها بعناصر القوة والبقاء والاستمرارية، وكان هو حلقة الوصل بين أبناء المهجر في افريقيا تحديداً، وبين حركة الأحرار، وكان هو أبرز الأسماء التي تدفع وتحفز أبناء المهجر الافريقي لدعم حركة الأحرار، وهو ما أجمع عليه الأحرار جميعًا، وفي مقدّمتهم صديقه الأستاذ أحمد محمد نعمان، زعيم حركة الأحرار اليمنيين.
ويمتلك أحمد عبده ناشر العريقي حضورًا يكاد يكون روائيًا، بل أسطوريًا، في كثير من محطات حياته ومواقفه؛ حضورًا لا يفسَّر إلا بمحبةٍ عميقة لليمن واليمنيين، وبحلمٍ صادق بدولة عدالة وحرية ومواطنة، بلا جبايات ولا امتيازات.
ورغم أن كثيرين أسهموا بالمال في دعم حركة الأحرار، ومنهم جازم الحروي المعروف بسخائه النادر، فإن دور أحمد عبده ناشر ظلّ الأكثر تميّزًا وريادة؛ إذ واصل التزامه بهذا النهج حتى بعد قيام الثورة مباشرة، وخلال سنوات الحرب على الجمهورية، ولا سيما إبّان حصار صنعاء.
وحين بدأت مظاهر تقاسم المغانم بالظهور، آثر الانسحاب إلى دكانه الصغير في شارع جمال بصنعاء، وهو ما تبقى له من كل ثروته الكبيرة التي قدم القسم الأعظم منها لحركة الأحرار، وبعدها لدعم ثورة ٢٦سبتمبر،١٩٦٢م، بعد قيامها مباشرة، واضعًا بينه وبين السلطة مسافةً أخلاقية واضحة، وخاصة بعدما تحوّلت الثورة عند البعض إلى غنيمة، خصوصًا عقب انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م.
كانت يده هي العليا في كل الأحوال. أفلا يليق بمثله أن يتحوّل اسمه ودوره وتاريخه إلى نصوصٍ حيّة في مناهجنا التعليمية، من التعليم الأساسي إلى الجامعي؟ وأن يُخلَّد، بتسمية مدرسة أو شارع أو مؤسسة اقتصادية باسمه؟ إن ذلك لا يعدو أن يكون أقلّ القليل في حقه.
لك المجد في الأعالي، ولروحك الطاهرة الخلود والسلام.
الموضوع القادم:( أحمد عبده ناشر العريقي : المثقف التاجر والثائر المنسي في حركة الأحرار.
اقرأ أيضا: حتمية التحول إلى الدولة السياسية





