جبران يدعوكم لما يحييكم

جبران يدعوكم لما يحييكم
- بقلم: حسن حمود الدولة
الخميس 12 نوفمبر 2025
اولا: نص جبران خليل جبران الحقيقة المرة التي كتبها وما تزال معاشة ليومنا هذا:
إن جبران خليل جبران في كلمته التالية المدوية التي وجهها إلى “بني قومه” لا يصرخ في وجه قومٍ بعينهم، بل في وجه الإنسانية كلّها حين تستبدل بالعقل الطاعة، وبالحرية العادة، وبنور المعرفة سبات الموروث. في نصّه، يتجلّى النبيّ الذي تعب من تبشير أمة تخاف الصعود إلى القمم وتفضّل دفء الكهوف.
فحين يقول لهم “تعالوا نصعد إلى الجبل”، أجابوا: “في الوادي عاش آباؤنا وماتوا”، فنفهم من ذلك أنه يقول إن دين الألف العادة صارت عقيدة متحكمة في الناس ومعيقة لانطلاقهم إلى الأفاق الرحبة، وأن الجهل أصبح إرثا مقدسا. هكذا تتحول الأديان إلى طقوس بلا روح، والعقول إلى مرايا باهتة تكرّر ما حفظته من غير وعي.
لقد أحبهم جبران حتى أنهكه الحب، ثم كرههم لأنهم رفضوا النهوض. وكرهُه هذا ليس حقدًا، بل قرف الوعي من عمى المألوف. فهو لا يحارب الدين، بل يحرره من قيد العادة، داعيًا الإنسان إلى يقظة العقل وحرية الروح. فكلمات جبران ليست تذمّرا بل دعوة إلى الحياة ألم يقل الله أن لا نستطيع إلا له لأنه اقرب إلينا من حبل الوريد، اشترط أن لا نستجيب للرسول إلا إذا دعانا لما فيه تقدمنا وتطورنا لأداء مهمة الإستخلاف فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
ولهذا قلت لكم إن: “جبران يدعوكم لما يحييكم” دعوة لأن نرتقي بالعقل إلى قمم الفكر، لا أن نبقى أسرى أودية العادة.
وإليكم نص فيلسوف هذا العصر:
((“ماذا تريدون أن أفعل يا بني أمي؟
أأهدل كالحمائم لأرضيكم أم أزمجر كالأسد لأرضي نفسي؟
قد غنيت لكم فلم ترقصوا و نُحْتُ أمامكم فلم تبكوا، فهل تريدون أن أترنم و أنوح في وقت واحد؟
نفوسكم تتلوى جوعاً وخبز المعرفة أوفر من حجارة الأدوية، ولكنكم لا تأكلون وقلوبكم تختلج عطشاً ومناهل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم فلماذا لا تشربون؟
للبحر مدَ وجزر، وللقمر نقص وكمال، وللزمن صيف وشتاء، أما الحق فلا يحول ولا يزول ولا يتغير، فلماذا تحاولون تشويه وجه الحق؟
ناديتكم في سكينة الليل لأريكم جمال البدر وهيبة الكواكب، فهببتم من مضاجعكم مذعورين وقبضتم على سيوفكم ورماحكم صارخين: أين العدو لنصرعه؟
عند الصباح وقد جاء العدو بخيله و رجاله، ناديتكم فلم تهبّوا من رقادكم بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام.
قلت لكم تعالوا نصعد إلى قمة الجبل لأريكم ممالك العالم، فأجبتم قائلين:
في أعماق هذا الوادي عاش أباؤنا وأجدادنا وفي ظلاله ماتوا وفي كهوفه قبروا، فكيف نتركه ونذهب إلى حيث لم يذهبوا؟
قلت لكم هلّموا نذهب إلى السهول لأريكم مناجم الذهب وكنوز الأرض، فأجبتم قائلين: في السهول تربض اللصوص وقطّاع الطرق.
قلت لكم تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته، فأجبتم قائلين:
ضجيج اللجة يخيف أرواحنا وهول الأعماق يميت أجسادنا.
لقد كنت أحبكم يا بني أمي وقد أضر بي الحب ولم ينفعكم، واليوم صرت أكرهكم والكره سيل لا يجرف غير قضبان اليابسة ولا يهدم سوى المنازل المتداعية.
كنت أشفق على ضعفكم يا بني أمي والشفقة تكثر الضعفاء وتنمي عدد المتوانين ولا تجدي الحياة شيئاً، واليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازاً وتنقبض ازدراء.
كنت أبكي على ذلّكم وانكساركم وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة بل أزالت الغشاء عن عيني، ولا بلّلتْ صدوركم المتحجرة بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة ولا تأتي بعدها.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أريكم أشباح وجوهكم في أحواض المياه؟ تعالوا إذن وانظروا ما أقبح ملامحكم..
ماذا تطلبون مني يا بني أمي؟
بل ماذا تطلبون من الحياة والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهّان والمشعوذين.”)) انتهى نص جبران خليل جبران
ثانيا: قراءة وتأمل:
في هذا النصّ الكثيف الذي يفيض صدقًا ومرارة، يقف جبران خليل جبران موقف النبيّ من قومه، لا موقف الأديب من قرّائه. إنّه نداء الروح المنكسرة أمام عناد الجموع، وصوت الحكيم الذي رأى النور فعاد يبشّر به في قوم لا يرون إلا ظلالهم على جدران الكهوف. في كلماته نبرة نبوءة وجرح عميق، ومرارة محب أُنهك من محاولاته المستمرة لإيقاظ أمة تأبى أن تستيقظ.
جبران في هذا النص العظيم لا يكتب عن جماعة بعينها، بل عن الإنسان المأسور بعقيدة الألف والعادة؛ الإنسان الذي يستمد يقينه من دين الإلف والعادة لا من وعيه، بل من سلاسل وأسار وقيود الأسلاف. إنه يواجه مشكلة الفكر الإنساني الكبرى: أن أغلب الناس لا يبحثون عن الحقيقة بل عن طمأنينة ما ورثوه، لذلك حين يناديهم إلى الصعود نحو القمة يختبئون في الوادي بحجة الأمان، وحين يدعوهم إلى البحر يخافون من الموج، وحين يفتح لهم أبواب السهول يزعمون أن فيها اللصوص. تلك هي رموز الخوف من التجديد والكسل العقلي والروحي التي تنتج أجيالًا تكرر ذاتها في دائرة مغلقة.
المنهج التأويلي الذي نقرأ به جبران هنا يقوم على كشف المعنى الكامن في الرمز لا في ظاهر القول. فـ “بنو أمه” ليسوا جماعته اللبنانيين فحسب، بل كلّ الذين استبدلوا بالعقل الطاعة، وبالحرية العادة، وبالبحث في الذات ترديد ما قاله الآخرون. ولذا، فخطابه يتجاوز التاريخ إلى جوهر الوجود الإنساني، حيث يتحول النص إلى مرآة لكلّ قارئ يرى فيها وجهه إن تجرّأ على النظر.
جبران في عمق هذا النص يواجه الجهل المركب الذي يصيب المقلدين، أولئك الذين لا يعلمون أنهم لا يعلمون. إنهم جياع، كما وصفهم، ولكن خبز المعرفة أمامهم، عطاش ولكن مناهل الحياة حولهم، لا يأكلون ولا يشربون لأنهم لا يشعرون بالجوع الحقيقي ولا بالعطش الحقيقي. فالإيمان عندهم عادة موروثة، والمعرفة نقلٌ دون تمحيص، والعقيدة سجنٌ لا طريقٌ إلى الحرية. وهنا تكمن المأساة التي دفعت جبران إلى أن يقول في لحظة ألمٍ مطلق: «كنت أحبكم… واليوم صرت أكرهكم». كرهه ليس حقدًا بل قرف الوعي من العمى، كره الأب لأبنائه حين يصرّون على الهلاك وهم يرفضون النجاة.
في هذا السياق، يصبح نص جبران صرخة ضد عبادة المألوف، وضد من يحاولون تشويه وجه الحق لأنهم لا يحتملون نوره. إننا أمام نص يمثل دعوة إلى تحطيم الأصنام الفكرية التي نصنعها من أقوال الآباء والمفسرين والأنبياء المزيفين، وإلى أن نعود إلى أصل الوعي، إلى تلك اللحظة الأولى التي خلق فيها الإنسان حرا مفكرا لا تابعا. جبران لا يهاجم الدين بل يهاجم التديّن الزائف، لا يحارب العقيدة بل يحرّرها من قيد العادة.
وإذا كانت الأديان في جوهرها دعوة إلى الحياة، فإن جبران هنا يردّد في لغته الخاصة النداء القرآني العميق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
فهو، وإن خرج من بيئة مسيحية، يحمل في كلماته روح كل الأنبياء، لأن ما يطلبه ليس دينا جديدا بل إنسانا جديدا.
لقد كان جبران، كما قال عنه روزفلت، 《رصاصة انطلقت من الشرق إلى الغرب، لكنها لم تحمل معها سوى الورد والفكر المستنير》..
رصاصة لم تُسفك بها دماء بل أُزهرت بها عقول، ولكن كم من العقول آنذاك، واليوم أيضا، كانت مهيأة لاستقبال هذا النور؟ كم من الأمم ما زالت تسكن الكهوف رافضة الصعود إلى القمم؟ إن جبران لا يزال يسألنا من عليائه: ماذا تريدون مني يا بني أمي؟ ونحن لا نزال نجيبه بالصمت.
جبران، في النهاية، لا يديننا بل يدعونا لما يحيينا. يدعونا إلى شجاعة التفكير، إلى كسر قيد الموروث الأعمى، إلى مصالحة الروح مع نورها الأول. كلماته ليست تاريخًا يُقرأ، بل رسالة تتجدّد ما دامت العقول تخاف السؤال. ومن هنا، فإن قراءة جبران ليست ترفًا ثقافيًا بل فعل تحررٍ وجودي، إنه النبيّ الذي لا يطلب أتباعًا، بل يطلب يقظة.
——————————
عن الكاتب:
حسن حمود الدولة – محاسب قانوني معتمد، له اهتمامات أدبية وقراءات نقدية. في عام 2009 كتب دراسة نقدية لرواية (صنعاء… الوجه الآخر) للروائي والشاعر الدكتور ابراهيم محمد إسحاق فلما قرأها الراحل الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح قراءة اعجب بها ونشرها في صفحته الأدبية، وصدّرها بقوله: “رغم تخصص الأخ حسن في مجال المحاسبة والمراجعة، إلا أنه اظهر في هذه القراءة أنه ناقد أدبي أكثر من متخصص، وأدعوه إلى مواصلة الكتابة النقدية.”
كانت تلك الكلمة تشجيعا نبيلا من أديب اليمن الكبير طيب الله ثراه في الجنة دفعت الكاتب إلى المضي في طريق النقد الأدبي والفكري وفاء وتنفيذا لتلك النصيحة الصادرة من الروح التي آمنت بالكلمة الحرة والفكر المستنير.
اقرأ أيضا: الأستاذ البغدادي يكتب عن خطورة الانقسام على مستقبل اليمن




