غزة كمرآة العالم: تحولات الوعي الأخلاقي في زمن الهيمنة

غزة كمرآة العالم: تحولات الوعي الأخلاقي في زمن الهيمنة
بقلم: د. محمد السنوسي
– أستاذ الدراسات الاستشرافية والشؤون الدولية بجامعة محمد الخامس – المغرب
في لحظة تاريخية فارقة، تطرح الحرب على غزة سؤالًا يبدو بسيطًا في ظاهره:
هل يمكن لحرب أن تعيد تعريف الضحية؟
لكن هذا السؤال، في جوهره، يعيد ترتيب العلاقة بين الأخلاق والواقع، بين الذاكرة والسياسة، وبين ما نظنه “خيرا” وما يتكشف كقناع يبرر العنف.
منذ تأسيسها، بنت إسرائيل سرديتها على فكرة “الضحية الخالدة” التي نجت من رماد الهولوكوست لتقيم كيانًا يحميها من تكرار التاريخ. غير أن التاريخ، كما قال هيغل، لا يُعاد إلا على هيئة مأساة أولًا، ثم مهزلة. والمأساة الفلسطينية الممتدة منذ النكبة حتى اليوم، كشفت أن الضحية التي لم تتصالح مع جراحها قد تتحول إلى جلاد يخاف أن يرى وجهه في المرآة.
في الحرب الأخيرة، لم تعد الرواية تُروى من تل أبيب أو واشنطن، بل من تحت الركام، من فم امرأة تبحث عن ابنها، ومن أطفال يموتون جوعًا. الصور القادمة من غزة بددت سردية “الدفاع عن النفس”، وفضحت انهيار البوصلة الأخلاقية لمنظومة القوة التي لطالما ادّعت التفوق القيمي.
من المفارقات القاسية أن الذين رفعوا شعار “لن يتكرر الهولوكوست”، يمارسون عنفًا يجعل المأساة قابلة للتجدد، ولكن في صور أكثر دموية واتساعًا. هنا تتجلى جدلية الذاكرة والسلطة: حين تُحتكر الذاكرة دون مساءلة، تتحول من مساحة للعبرة إلى أداة للهيمنة. كما كتبت حنة أرندت عن “تفاهة الشر”، فإن الجرائم الكبرى لا تحتاج إلى وحوش، بل إلى موظفين يضغطون أزرارًا ويبررون القتل بضمير مرتاح.
لقد استُخدمت الهولوكوست في المخيلة الغربية كوثيقة شرعية لإعفاء إسرائيل من المساءلة الأخلاقية، لكن صور الحرب الأخيرة كسرت هذه الشرعية أمام مشاهد لا يمكن تجميلها: أطفال يُقتلون أمام الكاميرات، وجثث تُستخرج من الأنقاض. كما قال نعوم تشومسكي، فإن أخطر ما يفعله الإعلام الغربي هو “تعقيم” اللغة حين يتحدث عن جرائم الحلفاء، لكن هذه المرة بدأ العالم يسمّي الأشياء بأسمائها.
لأول مرة منذ عقود، بدأت النخب الفكرية الغربية تتحدث عن إسرائيل لا كحالة استثنائية، بل كامتداد لمنظومة استعمارية لم تمُت بعد. إسرائيل لم تعد “حصن الديمقراطية”، بل صارت مرآة تعكس عيوب المشروع الغربي نفسه: تبرير العنف حين يخدم المصالح، وادعاء التفوق الأخلاقي لتبرير السيطرة.
هذا التحول يزيح النقاش من السياسة إلى الأخلاق، من تبرير الأفعال إلى مساءلة الذات. حين تسقط إسرائيل عن نفسها ثوب الضحية، فإنها تسقط في نظر كثيرين بوصفها تمثل جوهر ما أراد الغرب نسيانه: ماضيه الاستعماري. لم يعد الأمر مجرد نقد للسياسات، بل تشكيك في الأساس الأخلاقي للفكرة الصهيونية ذاتها: الخلاص الجمعي عبر إقصاء الآخر.
لقد تحولت إسرائيل في المخيال العالمي من رمز للنجاة إلى مرآة للهيمنة، ومن نموذج للحداثة الديمقراطية إلى مختبر للعنف المنظم باسم الأمن. بهذا المعنى، لم تعد إسرائيل قضية الشرق الأوسط، بل أصبحت قضية العالم مع نفسه.
من الجامعات الأميركية إلى ساحات أوروبا، ومن الفنانين في أميركا اللاتينية إلى الحركات الطلابية في كندا، يتشكل وعي جديد لا يعبر بالضرورة عن موقف سياسي، بل عن رفض أخلاقي. الجيل الجديد لا يرى في فلسطين قضية قومية بعيدة، بل مرآة لاختبار صدق القيم التي تربى عليها: العدالة، الحرية، الكرامة الإنسانية.
هذا التحول لا تصنعه الحكومات، بل الضمائر الفردية التي سئمت ازدواجية الخطاب، ومنطق “الحياة التي تستحق الحزن” و”الحياة التي لا تستحقه”، كما تقول جوديث بتلر. إنها يقظة أخلاقية، لا سياسية فقط. فالمجتمعات التي شاهدت غزة تحترق أدركت أن الصمت لم يعد حيادًا، بل مشاركة في الجريمة.
قد تكون غزة لم تنتصر بالمعنى العسكري، لكنها انتصرت في معركة أعمق: معركة المعنى. فقد كشفت أن القوة لا تمنح البراءة، وأن الضحية ليست هوية أبدية. أجبرت العالم على النظر إلى نفسه لا كحكم في مأساة بعيدة، بل كجزء من بنية تعيد إنتاج الظلم باسم القيم.
لقد سقط القناع: القوة لا تبرر الجريمة، والنجاة لا تعفي من المساءلة. في صور غزة رأى العالم انعكاسه: رأى أن الضحية قد تتحول جلادًا حين لا تواجه ذاكرتها، وأن الحضارة قد تتواطأ مع الوحشية حين تخدر نفسها بلغة القانون، وأن الحقيقة قد تتكلم بصوت المقهورين لا الأقوياء.
إنها ليست حربًا على غزة وحدها، بل حرب على صورة العالم عن نفسه. وربما لم تنتهِ الحرب بعد، لكنّ شيئًا ما انكسر في الوعي الإنساني، ولن يُصلح بسهولة.
- بقلم: د. محمد السنوسي
– أستاذ الدراسات الاستشرافية والشؤون الدولية بجامعة محمد الخامس – المغرب
تم اختصار المقال من الجزيرة نت
اقرأ أيضا: غزة: استشهاد 93 فلسطينياً وإصابة 324 آخرين منذ وقف إطلاق النار




