جار الله عمر في مذكراته.. وفي ذاكرتي (3 – 3)

جار الله عمر في مذكراته.. وفي ذاكرتي (3 – 3)

- قادري أحمد حيدر
الخميس 11 سبتمبر 2025-
كان جار الله عمر، في العقدين الأخرين من حياته/ عمره، يفكر في الواقع بعقل نقدي مفتوح، ويخرج بفكرة/رؤية تخصه حول الواقع والأحداث، ويحاول بطريقته وعلى طريقته تداولها مع الآخرين، لاكتشاف صحتها ومصداقيتها (منطقيتها وواقعيتها وتاريخيتها)، ومدى تقبلها من ناس السياسة والمجتمع، باتجاه بلورة رؤية سياسية عامة تكون مدخلاً لحل الأزمة أو المشكلة في هذه المرحلة أو تلك، وحول هذه القضية أو الأخرى، وكأنه ضمنياً يفكر بعقل الجماعة الحزبية والمجتمعية والوطنية.
خلال العقدين الأخيرين قبل استشهاده النبيل، عمل أو حاول جار الله عمر أن يحول رؤيته ومنهجية تفكيره باتجاه تفكير علمي واقعي جدلي يتسم بالمرونة والحيوية العقلانية، وبالتسامح، وهو ما جعل نظرته ورؤيته للأحداث والوقائع كما دونها في مذكراته السياسية تبدو وتتجلى كأجمل ما تكون الواقعية في الكتابة/الكلام.. الكتابة عن تاريخه السياسي، وليس عن تاريخه الاجتماعي والإنساني في تفاصيله المختلفة، ذلك أن مذكراته المنشورة تنحصر في تناول فقط البعد السياسي من حياته، حيث يقدم نفسه في صورة الكاتب والمفكر التحليلي النقدي بامتياز .. الكاتب القريب من روح المؤرخ السياسي غير الاختصاصي، ذلك أنه لا يستخدم الفكر النقدي، ولا يقدمه في صورة حدية وضدية/ معادية للقراءات والحقائق والوقائع الأخرى المقابلة، بل هو يحاول أن يقرأها ويقدمها كما هي دون إسقاطات ذاتية أو أيديولوجية من عندياته، قدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وهو ما جعل كتابته وفكره النقدي كما تجلى في المذكرات جدلياً وإبداعياً، أقرب للقراءة الواقعية والمقبولة من قطاع واسع من المتلقين، فرداً وجماعة، هذا تقديري.
ولو أمد الله في عمره، ولم يُخرم بالقتل الجبان، واستمر حاضراً بيننا وهو على هذه الحالة من الإبداع العقلاني والإنساني، لكنا رأينا الجميل والمفيد على المستويين الفكري والسياسي، والاجتماعي، والأهم على مستوى الممارسة الفكرية والسلوكية الأخلاقية.
والسبب أنه كان يملك الفكرة ولا تتملكه وتسيطر عليه، وتتحول في عقله وتفكيره إلى “دوجما”، كما هي مع البعض.
إن مذكرات جار الله عمر المنشورة إنما تقدم صورة جار الله عمر في بعدها السياسي، وليس هيئة وصورة وروح جار الله، الإنسان الاجتماعي في تفاصيله العديدة التي لم تحتوها المذكرات، وما أكثر العمق الاجتماعي الإنساني في سلوك وحياة جار الله عمر.. المذكرات قدمت صورة جار الله عمر السياسي والمناضل والمثقف بدرجة أساسية، وفيها أقل القليل من السيرة الذاتية الاجتماعية والإنسانية، والكثير مما يقع تحت مسمى المذكرات السياسية، على أن الأجمل والأهم فيها حضور الكثير من النقد، والنقد الذاتي.. الكثير من الصدق في تقديم صورته الفكرية والسياسية، على غير عادتنا مع الكثير من المذكرات التي يكتبها أو يسجلها من يشتغلون بالسياسة.
نحن مع جار الله في مذكراته أمام مذكرات حاولت الاقتراب من شيء من تاريخه السياسي، وكنت أتمنى لو أن جار الله توسع في تسجيل محطات من تفاصيل حياته الاجتماعية/ الشخصية والإنسانية.
قبل يومين اتصل بي وكتب على الواتس الخاص بيننا الصديق الصحفي محمد أحمد سعيد، المشهور بـ محمد الطويل، تفصيلة حياتية اجتماعية إنسانية، تكشف عمق رؤية وسلوك جار الله عمر الإنساني والحياتي، في علاقته بنفسه، وبمن حوله، والجميل في علاقته بالمدرسة والتعليم، وبالنتيجة في علاقته بالمعرفة.
فقد أخبرني الصديق الصحفي محمد الطويل أنه تعرف على جار الله عمر في أواخر النصف الأول من السبعينيات حين قرر جار الله عمر الالتحاق بالدراسة الثانوية العامة في مدرسة الفقيد عبدالله باذيب، لنيل شهادة الثانوية العامة، في العام الدراسي 75/76، أي بعد خروجه من سجن القلعة في صنعاء بسنتين أو ثلاث سنوات، وهو في قمة عنفوانه السياسي والكفاحي، وكان أول ما فكر به جار الله، هو الالتحاق بالدراسة المرحلة الثانوية العامة كطالب منتسب، وكان حينها يسكن في غرفة أرضية خلف المستشفى الصيني، وبحمام مشترك، وكان حينها يحضر الطابور الصباحي وتحية العلم مع الطلاب في المدرسة دون أن يتحرج من ذلك، وهو تواضع ملفت للنظر، من قائد سياسي كبير، ومن أنه كان يجالس طلاب المدرسة الثانوية الصغار، محتكاً بهم ويستمع لأحاديثهم، دون أن يظهر لهم قدراته المعرفية والفكرية والثقافية، بل هو لا يسأل الأستاذ في الفصل، بل يجلس مستمعاً وصامتاً.
إن هذا السلوك الاجتماعي من قبله إنما يعكس روحه الاجتماعية الإنسانية البسيطة المتواضعة المحبة للعلم وللتعليم، وهي التي فتحت أمامه أبواب ثقافة المعرفة .. ثقافة النقد .. ثقافة السؤال.
خرج من السجن ليلتحق بالمدرسة الثانوية العامة في عدن، أي أن التعليم كان هاجسه في حياته، وكأنه بذلك السلوك يحاول تعويض ما فاته في المرحلة الإمامية.
وفي تلك الفترة من الدراسة الثانوية العامة، كما أخبرني ابن الطويل، كانت أسئلة الثانوية العامة تأتي من مصر ويتم سحبها من الطلاب بعد انتهاء الإجابة، وإرسالها مباشرة إلى مصر للتصحيح، والعودة بالنتائج من مصر بعد ذلك، كما حدث معنا في شمال البلاد مع أول دفعة ثانوية عامة، العام الدراسي 1966 ـ 1967م.
إن هذه الواقعة وغيرها الكثير الكثير تدلنا على أن البساطة والتواضع أصل قائم في سلوكه الاجتماعي/ الحياتي والإنساني، وهو مما لم يتطرق له جار الله عمر في مذكراته، التي انحصرت في البعد السياسي النضالي من حياته.
إنه التواضع الحياتي الإنساني الجميل في سلوكه الاجتماعي.
ومع ذلك تبقى المذكرات التي تتناول في الغالب الجانب السياسي من حياته في غاية الأهمية من حيث صدقية القول الذي تضمنته صفحات المذكرات.
مرة ثانية أقول: إن مذكراته السياسية فيها الكثير من الصدق. من لم يتعرف ويلتقي بالإنسان والمناضل والسياسي الشهيد جار الله عمر مباشرة، ولم يتمكن من محاورته وجهاً لوجه، تحديداً في السنوات الأخيرة من حياته، فإنه سيجده أمامه حياً، يتحرك في مذكراته، ويقول الكثير عن اسمه وفكره السياسي وتاريخه، وعن الحالة السياسية والوطنية اليمنية.
إن مذكراته التي أشرف على إخراجها وتحريرها والتدقيق فيها بعد رحيله، المفكر السياسي والمثقف اللبناني الجميل د. فواز طرابلسي، الذي عرف جار الله عمر عن قرب، ودخل معه في حوارات مختلفة طيلة الخمسة العقود المنصرمة، وتكونت بينهما صداقة شخصية وفكرية عميقة وحميمية، حرص خلالها د. فواز على أن تخرج المذكرات في أحسن صورة تحريرية، كما أرادها جار الله عمر.
مذكرات سياسية وفكرية تجعلك ترى وتشاهد وأنت تطالعها صورة وهيئة جار الله عمر، كما كان في الحياة بالفعل، خاصة في السنوات الأخيرة من تقدمه في المعرفة والفكر، وفي السن.. حيث تراه يتكلم ويكتب بجرعة زائدة من الصدق النقدي تقول عنه وعن مواقفه ما لا يعلم عنها حتى بعض المقربين منه.. مذكرات سياسية تجمع بين صورة البحث العلمي، وبين المقالة وبين أشياء فيها من بوح السيرة السياسية الكثير إلى حد بعيد.
مقابلة حوارية مطولة أجرتها معه الباحثة د. ليزا ودين.. مذكرات تجد فيها شيئاً من صورة وروح وعقل جار الله عمر السياسي، يتحرك أمامك بكل حيوية وصفاء ذهني لا حدود لهما، مع درجة من الصدق الذاتي “النقد الذاتي لنفسه وللحزب وللواقع” غطت صفحات كثيرة من كتاب المذكرات، تجد نفسك مع القراءة وكأنك تستعيد وتعيش مع صورة وفكر جار الله عمر، كما كان في الحياة اليومية خلال رحلته مع الفكر والسياسة حتى رحيله بالاغتيال الإرهابي.
أستطيع القول إنني فوجئت في العديد من مواضع المذكرات بقدرته الفائقة والعالية على سبر أغوار الأحداث والوقائع السياسية، ومحاولته تقديمها بصورة أقرب إلى ما كانت عليه في الواقع.
مذكرات غاصت في التاريخ السياسي الحياتي لجار الله عمر، بقدر ارتباطها بالتاريخ السياسي والاجتماعي والوطني الخاص للحزب الاشتراكي والتاريخ العام للبلاد.
وجدت في المذكرات تفكيراً عقلانياً نقدياً حول ما دار في الحزب، وفي الحرب، وتجربة الحزب في سياق بناء الدولة، والصراعات السياسية الداخلية التي رافقت التجربة.
وجدته يقرأ المفاصل الصراعية الحادة في تجربة الحزب والدولة في جنوب البلاد وفي شماله، بعقل نقدي مفتوح دون تحيز ذاتي أو عصبوية من أي نوع كان.
من تجربة الصراع على سلطة الحزب والدولة، التي أدت إلى إزاحة الرئيس قحطان الشعبي، حتى تصفية مؤسس حركة القوميين العرب في اليمن الجنوبي، ورئيس وزراء دولة الجنوب بعد الاستقلال، فيصل عبداللطيف الشعبي، إلى إعدام سالم ربيع علي، حتى استقالة عبدالفتاح إسماعيل، والمطالبة من قبل البعض – بعد ذلك – بعودته إلى مؤسسات الحزب من منفاه في موسكو/الاتحاد السوفيتي، إلى كارثة/جريمة 13 يناير 1986م، حتى وصول البلاد إلى الوحدة السلمية، وكيف تم الانقلاب عليها بالحرب تحت شعار “الوحدة أو الموت”، الموت الذي غطى وجه البلاد كلها بالدم وبالسواد.
لقد خلص جار الله عمر إلى استنتاج حول تجربة العنف داخل الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي إلى أنه “لم تكن هناك تجربة لتداول السلطة داخل الحزب والمجتمع بل كان يحصل بالعنف أو بالتصويت في اللجنة المركزية، ولا يُستشار الشعب ولا القواعد الحزبية، كان التغيير يتم عن طريق النخبة القيادية أو أحياناً عن طريق العنف” (8).
والحقيقة أنها كلها كانت تتم بالعنف الناعم أو الساخن، الذي تضبطه مقولة: “المركزية الديمقراطية”، التي لا يتبقى منها في واقع الممارسة، بعد تغييب الديمقراطية في جب استبداد المركزية، سوى الاستبداد الخالص، وهو ما أشار إليه ضمنياً جار الله عمر في سياق حديثه عن “شعار المركزية الديمقراطية” ونقده الفكري الصائب لها.
المذكرات السياسية هي بانوراما كاشفة للكثير الذي طواه العقل الاستبدادي والأمني للسلطة، باعتبار بعض الأمور من أسرار الدولة العليا: من قضية الانقسام في قيادة الحزب حول مسألة وقضية دمج الحزب الاشتراكي بالمؤتمر الشعبي العام، أو توحيدهما في حزب واحد، كما ذهب إلى ذلك البعض، على طريق تصفية الحزب الاشتراكي سياسياً ونهائياً من الوجود ومن الفعل السياسي، وحول الحرب والانفصال، وموقفه الجميل في إدانة الحرب والانفصال، كما قررها مسبقاً علي صالح عباد “مقبل”، وثبتها كخيار سياسي في أدبيات الحزب، حتى اختياره كوزيراً للثقافة وهو في زيارة إلى أمريكا للتخلص من حالته الانتقادية “المشاغبة”، لما كان يجري في الحزب وفي دولة الوحدة المأزومة. ومن أن علي سالم البيض هو من أصر على ترشيحه وزيراً للثقافة للأسباب التي سبق الإشارة إليها.
ورأيه أن قرار الحرب كان حصراً وفعلاً بيد علي عبدالله صالح، و”أن الحرب خطأ ودخول عدن خطأ مرتين” هكذا تكلم مع علي عبدالله صالح دون خوف (9)، كما أشار إلى ذلك في مذكراته.
ومن أن المؤتمر الرابع للحزب في دورته الثانية في الثلاثين من آب/أغسطس 2000م، محطة مهمة واستثنائية في حياة الحزب الاشتراكي اليمني، اعتبر البعض عقد المؤتمر حدثاً غير عادي في ظروف غير عادية، وفي رأيي ـ والكلام لجار الله عمر ـ أن قصة عقد المؤتمر العام الرابع تلخص صراع الحزب الاشتراكي من أجل البقاء كحزب سياسي” (10).
وهو في هذا الرأي يقول كل الصدق السياسي والتاريخي.
حتى اغتياله وهو يلقي خطاب وصاياه الديمقراطية في مؤتمر حزب الإصلاح، وهو الاغتيال الذي شارك فيه علي عبدالله صالح والجماعات الإرهابية الكامنة والجاهزة للتنفيذ حال الطلب، في بنية النظام السياسي والأمني لنظام علي عبدالله صالح.
الاغتيال الذي منعت سلطة علي عبدالله صالح استكمال تحقيقاته الجنائية، لأن جميع الوثائق والوقائع والتحقيقات مع القتلة تدل على الشراكة المزدوجة بين نظام علي صالح الأمني، والجماعة الإرهابية الإسلاموية، الممولة والمدعومة من النظام الأمني لعلي عبدالله صالح.
وهي قصة، وقضية لا تسقط بالتقادم، وسيفتح ملفها حين تهدأ وتستقر الأوضاع لكشف حقيقة من كان بالفعل يقف خلف اغتيال رجل الحرية والديمقراطية والوحدة السلمية في حياة اليمن السياسي المعاصر.
علماً أن جار الله عمر أكثر في المرحلة الأخيرة من حياته من الإشارة إلى تهديدات علي عبدالله صالح له بالقتل في اتصالاته المتأخرة من الليل وهو في نشوة مجد وهيلمان السلطة، كإمبراطور توقف الزمن عنده، حتى لا يرى العالم من حوله إلا ظلاً لصورته. وقد أخبر جار الله د. عبدالعزيز المقالح ـ وغيره ـ بحضوري بتهديدات علي عبدالله صالح الليلية المتكررة له، وكأن جار الله عمر بذلك يسرب هذه المعلومة لمن يعزهم من الأصدقاء لتنتشر وتعميمها بين الناس، لتشكل حائلاً ومانعاً لعدم تجرؤه على القتل عبر وسائط عديدة، وليكون الناس على معرفة من هو القاتل الحقيقي.
ولكن من وصل إلى السلطة بدم الرئيس الحمدي، وبدم الشهيد عبدالسلام الدميني، أحد أبطال حصار صنعاء، وإخوته، وبدم الشهيد العقيد ماجد مرشد، والمئات من القتلى الشهداء، لن يخرج منها إلا بالقتل وبالدم، وهو ما كان.
استشهد جار الله عمر بتشييع جنائزي مليوني مهيب، في قبر معلوم، مقبرة الشهداء، وصار قبره مزاراً يحج إليه الناس في كل المناسبات، وقُتل الرئيس القاتل والمجرم الملطخة يده بدماء المئات من الشهداء الأبطال، دون جثة معروفة، وبدون قبر معلوم.
حقاً، “لا تموت العرب إلا متوافية”، وسيأتي اليوم الذي نشهد محاكمة علي عبدالله صالح، بقانون العدالة الاجتماعية،
و”بقانون العدالة الانتقالية”، و”بقانون الأموال المنهوبة” لاستعادتها للدولة، القانون الذي وقف هو وجماعته دون إصداره.
لك الرحمة والخلود أخي القائد والإنسان، جار الله عمر، ولا نامت عيون القتلة.
الهوامش:
1- جار الله عمر: (مذكرات جار الله عمر، الصراع على السلطة والثروة في اليمن)، حاورته د. ليزا ودين، حرره وقدم له د. فواز طرابلسي، ط(1)، 2020م، الناشر: دار المدى، ص66-67.
2- جار الله عمر، المصدر السابق، ص135-136.
3- جار الله عمر، المصدر السابق، ص140.
4- جار الله عمر، المصدر السابق، ص144.
5- جار الله عمر، المصدر السابق، ص146.
6- جار الله عمر، المصدر السابق، ص168. بتصرف لا يخل بالسياق ولا بالمعنى.
7- جار الله عمر، المصدر السابق، ص154.
8- جار الله عمر، المصدر السابق، ص116.
9- جار الله عمر، المصدر السابق، ص211.
10- جار الله عمر، المصدر السابق، ص216.
اقرأ أيضا:الشهيد جار الله عمر في مذكراته.. وفي ذاكرتي (٢ ـ ٣)
