“ما يحتاج يا عيسى” ما سر هذه الاغنية لـ أبوبكر سالم
طه العزعزي
بعد أن ذاع صيت الفنان اليمني أبو بكر سالم المولود عام 1939 م وجالت أغانيه كل الوطن العربي ليستحق عن جدارة لقب “فنان القرن ” خلال الحفل التكريمي الذي أقامتهُ جامعة الدول العربية في العام 2002 بشرم الشيخ، فخلال مسيرته التي قطعها لم يكن المشوار الفني بالغ السهولة أمامه ليصل فناننا أبو بكر سالم إلى ماهو عليه من ريادة فنية عربية جعلتهُ في مقام الأستاذية ومحط تكريم.
يُعد الفنان اليمني أبو بكر سالم واحد أهم فناني اليمن الذين ارتحلوا مبكرًا خارجها ممن كان لهم الفضل بنشر الأغنية اليمنية في الوطن العربي، وبالأخص منها أغاني” الدان الحضرمي “. ففي مسيرة الترحال التي نواها مُبكرًا فنانا وهو وريث منشأه الحضرمي وابن قومه مايدللُ على أصالة ناس بيئتهِ من الحضارمة الذين صالوا بمحامد أخلاقهم وجالوا مُختلف قارات العالم التي أسسوا فيها دعائم الاقتصاد.
في العام 1958 م غادر الفنان اليمني أبو بكر سالم مدينة عدن متوجهًا صوب بيروت، المدينة التي مثلت مُشاعًا ثقافيًا وفنيًا طيلة عقود، والتي كان لها الدور الأبرز أيضًا في إفادة موهبة وسطوع نجم فناننا اليمني أبو بكر سالم، وإلى هذه المدينة يعود الفضل على ما أبقتهُ وحافظت عليه من الأصالة في شخصهِ الفني طوال فترة مكوثه فيها.
ثم ما لبثت الحرب اللبنانية الأهلية عام 1975 م أنْ شب أوارها في بيروت، ليغادرها إثر هذه الحرب بعد أن قضى فيها سبعة عشر عامًا عائدًا هذه المرة إلى مدينة عدن، وما هي إلا فترة وجيزة ظل فناننا اليمني في مدينة عدن، ليغادر منها قاصدًا الخليج، بالتحديد السعودية، والتي مثلت هي الأخرى، إلى جانب عدن وبيروت، محطة مهمة في سيرة ومسيرة أبو بكر سالم خلال حياته الفنية والإنسانية، والتي لعب فيها فناننا دور الريادي طيلة عقود مكوثه هناك. وإلى أن توفي فيها عام 2017م نستطيع القول نجازة ذلك بأن السعودية كانت مستقرهُ الفنيْ والمعيشي.
ماوراء قصة ما “يحتاج ياعيسى ” !.
في العام 1990 م أصدر الفنان اليمني أبو بكر سالم أغنيتهُ الجديدة ” ما يحتاج يا عيسى “، الأغنية الشهيرة التي اتسمت بطابعها الخاص وسلكت منحىً عتابيًا، بعد أن شغلت طريقة كتابتها المتلقي ووضعتهُ أمام رمزية كُشفت فيما بعد، ولكن ما قصة هذه الأغنية؟، من هو عيسى المصرح به ؟ وما دلالتها ؟ ما الأسباب التي دعت الفنان اليمني أبو بكر سالم لكتابتها ثم غنائها ؟.
منذُ الفترة تلك، بعد صدور هذه الأغنية ولا يزال “عيسى” عالقًا في ذهن كل من قد سمع بها، وعيسى هنا ليس المقصود به ذلك الاسم الترميزي كمصطفى في قصيدة البردوني، إنما هو شيء آخر لهُ قصته الخاصة التي أذاعها صاحب الحنجرة الذهبية، وغناها في عدة مسارح وحفلات من بينها حفلة صنعاء التي أقيمت في ملعب الظرافي بشارع التحرير عام 1989 م.
في جنبات هذه القصة ضمن نطاق التداول الذي أثير في الوسط الفني والصحفي، يتفق الكثيرون وأتفق معهم، في أن عيسى المقصود هنا هو الوسيط الذي فُوِضَ أو ربّما فَوّضَ نفسه لحل الخلاف الكائن بين الفنان اليمني أبو بكر سالم من جهة وآل نهيان في الإمارات من جهة أخرى.
ومما يحكيه البعض عن قصة هذه الأغنية أن أبا بكر – لكونه رياديًا – كانت تجمعهُ شبه صداقة مع حكام الخليج وشخصيات أخرى ثرية هناك، وهو ما جعلهُ مقربًا منهم لدرجة لا تشبه قُرب رجل السياسة من الحاكم، من بين هؤلاء الذين جمعتهم صداقة مع الفنان أبو بكر سالم أحد أبناء الشيخ زايد والذي كان سبب الخلاف عندما استبعد وحذف اسمه الفنان أبو بكر سالم من مهرجان فني سيقام في الإمارات، ومع تداعي الخلاف، استدعى الموقف عيسى الطرف الثالث كوسيط الذي تواصل شخصيًا عبر اتصال هاتفي مع الفنان سالم الذي رد عليه ضمن ما جاء في الرد حينها بكلمة ” ما يحتاج يا عيسى ” لتصبح عنونة لإحدى قصائده المغناة.
قيل أن أبو بكر سجل هذه الكلمة في ورقة وضعها على مكتبه وفي صبيحة اليوم التالي كتب عنها قصيدتهِ المغناة مستدعيًا اسم عيسى ليرد عليه، هذه المرة ليس عن طريق التلفون أو باتصال هاتفي، إنّما من خشبة المسرح الغنائي من خلال أغنية جابت الوطن العربي بأكمله، وكأني بأبي بكر سالم هنا من طرف هذه الحادثة لم ينتبه أبدًا إلا وقد غناها من فرط الخذلان المتكرر.
هذه القصة من وراء الأغنية هي وقفة، بدأ خلالها الفنان أبو بكر يكتب شعرًا ويجوده عن حال وبال وضعه بعد هذا الاتصال، ثم عمل بعدها بشكل فوري على تلحينها،ولم يهدأ له بال إلاّ حين غناها، وسمع بها أبناء زايد وعيسى والجميع.
بعد سنوات قليلة من إصدار هذه الأغنية وتكرار غنائها في عدة مسارح، تم تكريم الفنان أبو بكر سالم في العام 2004 م على يد ملك دولة البحرين حمد بن عيسى آل خليفة الذي منحهُ وسام الكفاءة من الدرجة الأولى. إذاً عيسى الوسيط الغير معبر عنه صراحة، والذي يحكي عنه الجميع كرمز هو هذا ملك دولة البحرين ” حمد بن عيسى آل خليفة، وشخص الخلاف هو أحد أبناء الشيخ زايد ملك الإمارات، والأغنية هي موضع الحديث عن كل هؤلاء.
في الكشف عن خبايا النص.
لنلتمس من الكلمات الشفافية في النّص الشعري الغنائي عبر الاقتراب منه، ولكي نصل ولو إلى النزر اليسير من خبايا الواقعة الشخصية التي حدثت بين آل نهيان في دولة الإمارات من جهة وبين الفنان أبو بكر سالم من جهة أخرى وقد شُلت العلاقة وفسد الود بين كليهما في الراهن آنذاك.
ما يحتاج يا عيسى تذكـّرنا بهم
يا خوي بين الحين و الحين
و تطري عهدهم وعهودهم ذابت في الطـّين
عرفت حجمهم وعرفت فرق السـّين و الشـّين
أنا جرّبتهم و قرّبتهم وعاصرتهم سنين و سنين
ما يحتاج.
وأنا اقرأ هذه القصيدة الغنائية من خلال ما تضمره من معاني العتاب العصيّة على الانكسار، قلتُ في نفسي : أنها واحدة من أهم القصائد التي سجلت عتابًا رفضيًا، طبعًا ما مميزاته؟، لاشك له مقومات ومميزات كثيرة منهُ أنه لا يستجدي ولا يستعطف أحد، ولا حتى الوسيط، وبينما هو آخذ بالرفض كحل، فإنه استمر على التكرار كسبيل لهذا الرفض، والعتاب هنا شخصي لم يجعل الفنان أبو بكر فيه من خلال القصيدة أي منشأ لتأويل الموضوع وتحويره إلى عتاب سياسي أو تفريعه نحو جهة توبيخية، بقدر ما وضح وأبان بعض الأشياء، فإنه أيضًا أخفى أغلب الأشياء.
إنَّ الواقعة التي تتداعى خارج النص بين شخصين أو بين جهة وبين شخص الفنان تُشيء إلى قمع الكيان ومجابهتها للذات التي تتموضع داخل المجال الفني، والمشكل أنها صارت تفعل ذلك في ذات الحضور الواحد نفسه، أي أنها مواجهةٌ بين فنان لوحده وكيان لوحده، أو بين فنان وأمير وما إلى آخر ذلك، وهذا ربما ما جعل الفنان أبو بكر سالم يواجه غير مستميلاً من داخل الفن واقعة عن حق جعلتهُ أمام نفسه، لذلك تأتي قصيدة ” ما يحتاج يا عيسى ” المغنّاة بقدر ذلك على درجة وسطية الوضوح، لتكتسب من خلال ذلك دلالاتها ذات الأبعاد النصية المبهمة.
“وعهودهم ذابت في الطين “، هذه الجملة بالذات تعكس حالة التداعي التي وصل إليها فناننا مع الجهة والأمير الإماراتي الذي كان يُمّنِيه بعدد من العقود الفضفاضة للحضور إلى دولة الإمارات والمشاركة بعددًا من الأغاني في بعض المهرجانات، كما أنها تدل على الحادثة التي نحنُ الآن نقصدُ توضيحها هنا عن طريق الشعرية الغنائية، لقد كان ورادًا أمر زيارة الفنان أبو بكر سالم إلى الإمارات عبر عدة عهود ولكنهم كذبوا عليه، وهي ليست المرة الأولى أو الأخيرة، كذلك ليست هذه الفعلة التي نقض فيها أبناء زائد العهود من اليوم : “أنا جربتهم وقربتهم وعاصرتهم سنين وسنين “.
إنَّ كمية من الأحاسيس المتدفقة في هذه القصيدة المغناة أوضحت حجم الخذلان في هذه الأغنية، ومن المقطع الأولي السابق توضيحه، إلى المقطع الثاني الذي يبدو مضمونه التصريحي ” لعيسى ” كوسيط قائم فلسفة العتاب بشكل حكم ودرر منظومة :
“عديم الود يظهر ما يخفـّيه الزمن مهما تحدّاه
و لو قدّر و عبـّر عيونه تفضحه تكشف نواياه
و هذا اللي حصل في بادي الأيـّام حبـّوني
و لمـّا هاجت الوجدان عابوني .. و باعوني
و أنا جرّبتهم و قرّبتهم وعاصرتهم سنين و سنين
ما يحتاج “.
لقد حرّر أبو بكر سالم نفسهُ من الرد بمثل مستوى قصدية الآخر نحوه فأصبح مرجعية معطاها قيمة هذا الإنوجاد في الأغنية التي تعبر ضمن ما تعبر أيضًا عن حالة إعتزازه بذاته وسخطه من نفسهِ الوثوقية، والتعبير الأخير هنا يأتي مأخذ الرفض والتمنع بصاحبه لا مأخذ التأنيب الناجم عن فقدان العلاقة المختلة لأجل الدفاع عن الذات :
“أنا حطـّيتهم داخل فؤادي عن وفا عن صدق و إخلاص
و لا عوّلت بالثاني الثاني ؟ أو الشـّاني الشـّاني ؟
أو الدّاني الدّاني ؟ أو القاص
و خاب الظـّن فيهم و خانتني لياليهم
و أنا جرّبتهم و قرّبتهم و عاصرتهم سنين و سنين
ما يحتاج”
إن توفر الشاعر والملحن والفنان في شخص أبو بكر سالم أكسبته صفة الإنسان الموسوعي، وهذه السمات جميعها وفرت له مناعة فنية قوّت كينونته وأوجدتها بين عدد من مجايليه الفنانيين وغير المَجايلين، بل إنها قدرت على مساعدته ليتملك الحضور مفسحة المجال أمامه لينجز بشكل مواكب طوال مرحلة الستينات والسبعينات والتسعينات وحتى الألفية. لقد أثبت موهبته، كافح عنها بعزة، وصار رائدًا.
فنان الأمراء وأمير الفنانيين.
قلة من الفنانون العرب الذين حظيو بالمكانة وحازوا على تقدير محبيهم ومريديهم، وقد استطاعوا شبك علاقتهم بالأمراء وطبقة الأثرياء والمستثمرين من أصحاب رأس المال، غير أن واحدًا منهم، وأيًا كانت مطاياه فإن طيتهُ الأعلم سلمًا هي أن ينتصر لذاته عن طريق الفن، هذا الواحد هنا، هو فناننا اليمني أبو بكر سالم، الذي جدّ لأن يكون سفيرًا للأغنية اليمنية وحاملاً أمينًا لها في الخارج.
فأبو بكر سالم خارج الفن كشخص ليس سوى ذلك الإنسان ” الوديع ” كما يوصفهُ محبوه، الإنسان الذي لم تصافح مثلهُ يد كما لم تسمع مثلهُ أذن من بين أغلب الفنانيين الذين يجوبون عالمنا المرئي والمسموع بسيول من الأغاني والصور والكليبات مزدحمة السمعة والحيازة الفنية.
العالم الفني للفنان الساطع أبو بكر كبير ومثير، ونحن لسنا هنا بصدد الدخول إلى منازل فنهِ المتفرعة والرفيعة جدًا بقدر حاجتنا لمشاهدة باب خلفي لهذا المنزل، أو حجرًا، نافذة، جزء يسير فقط، وما يحتاجهُ الآخر للمعلومة نحتاجهُ نحن أكثر للمعرفة، فقصة العيسى هنا موضع حديثنا ناجمة عن قلة حديث النقاد عنها والإلتفات إليها وتوضيح خبايا المسكوت عنه من وراء هذه القصة / القصيدة / الأغنية.
لاشك بأن هذه الأغنية قصدية التناول هنا قد أربكت الجميع حال صدورها، بما فيهم عيسى !، وبالأخص الحكام الخليجيون الذين ثارا بينهم الخلاف وبين شخص الفنان أبو بكر سالم، فقد قالت الأغنية عنهم وعن أسباب الخلاف مايحتاج وما لا يحتاج للتوضيح، أمام الملأ فعلت ذلك وبهمة تكفل الفنان أبو بكر بها سعيًا منهُ لذيوعها وانتشارها، وإن كانت القصة واضحة مع عدم ظهور أي تصريح وقول أو إضافة تُضمن مقاصد ودلالات هذه الأغنية وأسبابها، فربما راجعٌ إلى تحفظات عديدة وإلى وساطة عيسى المتكررة بين الطرفين المختلفين كلاً بشخصه، وهو ما أبقى الكلمات في النّص التي جُعلت بفعل عدم التنقيب لها كنوعًا من التلميح إلى أن صارت قصة نحو هذا المأخذ.
كاتب وشاعر يمني شاب ورئيس تحرير موقع ريشة
أقرأ أيضا للكاتب: المكتبة المنزلية كمُوجب تعزيز للأمن الثقافي وولادة الوعي المبكر